18 ديسمبر، 2024 6:55 م

السلام والدولة والقانون في العراق!

السلام والدولة والقانون في العراق!

يعتبر السلام الأرضيّة الخصبة لنمو الحياة، والمنهل الصافي الذي يَمدّ الكون بالنقاء والهناء والبناء والعطاء والتطوّر، وحيثما وجد السلام وجدت الإنسانيّة والعمران، وحيثما يختفي تسود فوضى الحروب التي تعمق القلق والرعب والدماء والإمساك والتخريب في حياة الإنسان والكون.
احتفالات العالم بأيّام محدّدة سنويّاً، ومنها اليوم العالميّ للسلام في الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر، صارت مجرّد مظاهر بروتوكوليّة سقيمة، وليس هنالك أيّ أثر فعليّ لمعانيها في واقع العديد من دول الشرق الأوسط، التي تتخبّط في صراعات متداخلة ما بين الحرب والفوضى تسبّبت بضياع السلام في عموم حياة شعوبها!
الغالبيّة العظمى من دول العالم غادرت مراحل الدم والقتل والترهيب، لكن يبدو أنّ بعض حكومات دول الشرق الأوسط لم تشبع بعد من دماء الأبرياء، الذين تسحقهم ماكينات الحروب والقمع والترهيب والمليشيات!
والسلام بمفهومه الواسع والأصيل لا يعني فقط مغادرة الدول ميادين القتال، بل أنّ السلام يعني جملة من المفاهيم العاملة على بناء الإنسان والكون والدولة معاً في منظومة واحدة خالية من كلّ عوامل التخريب والخسران!
العراق، ومنذ ثمانينيّات القرن الماضي وحتّى الساعة، لم يَنعم بالسلام، وصارت حياة العراقيّين مجرّد صراع مع الأيّام للبقاء على قيد الحياة، إذ أنّ السلام لا يمكن أن يترعرع مع تنامي أوكار العصابات وقوى الشرّ، وفي ظلال السلاح المنفلت، بل والمعروض للبيع في الشوارع!
وسبق أن أكّدنا بأنّ فتوى الجهاد الكفائيّ التي أطلقتها مرجعيّة النجف المتمثّلة بالسيّد علي السيستاني، والتي قادت لتشكيل (الحشد الشعبيّ) تمّ استغلالها من قبل الكثيرين من الساسة والفصائل المسلّحة، فكانت من أكبر أسباب زعزعة الأمن وضياع السلام في العراق!
والتأكيد على صحة كلامنا حول دور بعض فصائل الحشد في العبث بالسلام في العراق جاء هذه المرة من ( شخصيّة شيعيّة مهمّة)، وهو زعيم التيّار الصدريّ، مقتدى الصدر، ولهذا لا يمكن حتّى لزعماء المليشيات الردّ عليها، أو التشكيك بها!
وطالب الصدر، عبر تغريدة له على ” تويتر” الأربعاء الماضي فصائل الحشد الشعبيّ” بوقف القصف والاغتيالات، وبعدم التدخّل في شؤون العراق الداخليّة من جميع الأطراف”!
كلام الصدر عن مسؤوليّة بعض فصائل الحشد عن الاغتيالات يُعدّ أهم وأخطر اعتراف رسميّ عراقيّ حول جرائم الاغتيالات منذ العام 2003 وحتّى الساعة!
وهذا يعني أنّ الصدر يمتلك معلومات حول الموضوع، وبالتالي يفترض تشكيل لجنة رسميّة تذهب للكوفة لمعرفة تفاصيل المعلومات التي يمتلكها الصدر!
ويمكننا أن نجمل بعض عوامل غياب السلام في الدولة العراقيّة الحاليّة:
الغطاء الرسميّ لسلاح المجاميع المسلّحة، وهو في الغالب العامّ غير منضبط، ويعدّ من عوامل انتشار الجريمة والترهيب!
فوضى التسليح الحكوميّ لبعض العشائر بدعوى مكافحة الإرهاب!
تنمّر بعض العشائر على القانون ومحاولتها لأن تكون أقوى من الدولة!
عصابات التهريب والمخدّرات والاختطاف المتنامية والمستعدّة لقتل وترهيب كلّ مَنْ يقف بوجهها!
كلّ الأسباب آنفة الذكر بكفّة وضعف الدولة وهشاشة القوّات الأمنيّة في تطبيق القانون في كفّة أخرى!
التطبيق الطائفيّ، أو المزاجيّ للقانون من أكبر معاول هدم السلام في العراق، ولقد رأينا كيف أنّ قوّات مكافحة الإرهاب، وبأوامر مباشرة من رئيس الحكومة والقائد العامّ للقوّات المسلّحة مصطفى الكاظمي، قد فشلت في تفتيش بعض المنازل التابعة لعشيرة العساكرة في مدينة الناصريّة الجنوبيّة خلال حملة عسكريّة للبحث عن الناشط المختطف (سجّاد العراقيّ)!
وقد أصدرت العشيرة بياناً شديد اللهجة رفضت فيه محاولات تفتيش المنازل، والأغرب أنّها استنكرت ” تحليق طيران الجيش في سماء العشيرة”!
ومع ذلك رأينا كيف أنّ القوّات الحكوميّة، وقبلها مكتب الكاظمي شخصيّا، قدموا اعتذارهم لعشيرة العساكرة، رغم أنّ التحرّك العسكريّ تمّ بعد أن أصدر القضاء العراقيّ مذكّرتي قبض بحقّ المتورّطين باختطاف سجاد العراقي في أطراف الناصريّة، ومع ذلك فإنّ الحكومة فشلت في تنفيذ حملتها بسبب انتظارها لتدخل جهود الوساطة العشائريّة لإطلاق سراح الناشط المختطف وتسليم الخاطفين!
الغريب أنّ بعض الكتل السياسيّة الكبيرة في البرلمان والحكومة وقفت مع العشيرة ضدّ الحملة الحكوميّة، وهذا تناقض سياسيّ عجيب!
هذا الموقف الحكوميّ الهزيل يُؤكّد أنّ الدولة لا تمتلك قوّة عادلة، بل قوّاتها هشّة وعاجزة عن تطبيق القانون وفرض هيبة الدولة!
السلام الحقيقيّ يُبنى بفرض القانون، ووجود قوّة عادلة قادرة على تطبيقه على كلّ مجرم، أو مخالف، أو طائفيّ حقود وإلا فلن ننعم بالسلام وسنبقى نتخبّط في دهاليز الخوف والإرهاب!