خلف زلزال السقوط العراقي وراءه فراغ قوة ما لبثت إيران، بحكم إنها القطب الإقليمي الآخر من خلف تركيا، أن ملأته، دون أن تمتلك بعد رؤية واضحة لدورها الأكبر الجديد، ولا لدور حلفائها الذين تهتز بهم وبأدوارهم الأرض أيضاً، ولا لدور خصومها وليس بينهم من تخشى أو ما تخشى- ولا ما يهدد مصالحها- إلا المقاومة الوطنية العراقية ونسختها الأحوازية والبلوشية والكردية والأذرية في إيران. ولعل الربيع العربي والحرب السورية التي فُصِلّت على مقاس ما بعد الانهيار العراقي قد أُريد لها أن تؤكد معنى ملء الفراغ، وأن تفرض المنطق الروماني الجديد على العالم.
في أميركا مركز العالم الجديد وقراره، بدأت المراجعة الشاملة لكل شيء: للأهداف والوسائل معاً، وسيكون مخاض هذه المراجعة عسيراً، لأنه يؤذن بولادة مفهوم جديد لعالم مختلف، لا يملك أحد تصوراً محدداً له، وربما لن يملك تلك القدرة الخارقة على صياغته كما قد تفرض المصالح الجديدة- عن أية مصالح نتحدث؟..
مصالح عالم الغرب المنتصر على روسيا وإيران في سورية والعراق غداً، هذا العالم المتصالح، المتصارع، الخاضع للمركز الأميركي والمتمرد عليه، والذي يحكم تطوره عامل السوق الحرة أيضاً، وقد يدمر هذا العالم غداً هذا الموقع أو ذاك، تلك الامبراطورية أو تلك، من رأسماليات الغرب. إنه الخوف الجديد الذي يولد من رحم النصر، وما زال جنيناً، ليضع الغرب أمام مأزقه القادم.
في واشنطن وبعيداً عن هواجس الحلفاء، أوروبا الموحدة وإن مرضت، وألمانيا الجديدة من ضمن المجموعتان- الأُممية والأوروبية- ومن خارجها في آن، واليابان والصين التي تزاحم وتهدد الجميع وتخشاهم، بعيداً عن هذه الهواجس المؤرقة، كيف تنظر المؤسسة الأميركية للمستقبل، وهل صاغت تصورها لدورها ودور الآخرين، والعالم والنظام الدولي الجديدان، الذي تعمل فيه روسيا كضابط أمن بأجرٍ معلوم ولوقتٍ معلوم، وليس منافس أو شريك، كفايتها بالبيع والشراء، شراء الأراضي المحروقة- سورية نموذجاً-، وبيع السلاح وقبض الأثمان من دول النفط. عبر استفزاز هذه الدول بوجودها وابتزازها بأمنها إيرانياً، رضيت موسكو لنفسها بما رسمته لها أميركا من دور، مجرد صوت أُممي، كلما زاد تمنعه وتعطيله مشاريع القرارات الأُممية التي تخص حقوق الإنسان بالـ(فيتو)، كلما التف حبل الخناق حول رقبتها، وستكون ثورات الجوار الروسي كفيلة بالإطاحة بنظام الرئيس بوتين. الذي كلما زاد تمنعه الأُممي كلما انخفض سعره. كفتاة الليل تفتح بازارها في مطلع السهرة بسعر خيالي وعند انتهاء الحفل ببزوغ الفجر وانصراف الزبائن تضطرها الحاجة لاستدانة أُجرة التاكسي التي توصلها لمنزلها. كذلك رفعت موسكو سقف مطالبها في جنيف وتمسكت بالأسد رئيساً لدورة ثالثة كاملة أو نصفها عنوانها نقل السلطة، حتى بدأت تتخلى عنه بهدوء واستبدلته بصفقة ذات منفعين: توريد أسلحتها لمصر بقيمة 3 مليار دولار وقائمة التسليم والتسديد تبقى مفتوحة، ومنحها المشاركة في الطبخة “الأميركية السعودية” الخاصة بإيصال المشير السيسي لرئاسة جمهورية مصر العربية. بينما تتبنى السعودية ممثلةً بالأمير بندر- عراب الصفقة- دفع الفواتير.