وادي الرافدين.. الأرض التي شهدت أولى الحضارات.. وصنعت على يد أجيالها الأولى أولى آلات التوطن وأدوات العيش المتحضر، فضلا عن أول حرف خط في أبجدية القراءة والكتابة، من المؤسف بعد كل هذا أن ترث تركتها أجيال غير كفوءة، إذ بدل صونها والحفاظ على ديمومتها، وبدل أن يزينها التجدد شانها التبعثر والتهميش والتشويه، فضاع ماضاع خلال قرون، وانمحى ما انمحى من آثار وبصمات، كان حريا بالورثة الاعتماد عليها كأرضية صلبة لماضٍ عريق، ورصيد لاينضب يعينهم على حاضرهم ويضمن لهم مستقبلهم، فيكونون إذاك محورا تدور حوله الحضارات التي أتت بعدهم، ومركزا تتجه صوبه البوصلات التائهة في عالم الصخب وتضارب المصالح الأنانية والفئوية.
نعم..! لقد أساء الورثة الذين شرعتهم الأصابع البنفسجية أيما إساءة، بحق ماورثوه من أباء كانوا سادة الدنيا، فقد سلموا الجمل بما حمل الى أناس غير شرعيين، حتى غدوا يستعطون الخير من غير أهله، بالبحث عنهم وشد الرحال الى ديارهم تسبقهم يد السؤال والاستجداء، ناسين أنهم السابقون في الإرث العظيم.. متناسين تعاليم السماء وما نزلت به من حث على الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرقة، هاملين توجيهات نبي الرحمة (ص) في أن يكونوا كالبنيان المرصوص, وكذلك صموا آذانهم عن توصيات آل بيته الأطهار عليهم السلام أن يتصرفوا في دنياهم أحرارا فقد ولدوا كذلك. فبعد أن كانوا قبلة الراحلين ومقصد الزائرين.. بات شد الرحال وحب الترحال ديدن ورثة الحضارة السومرية والبابلية والآشورية والأكدية..! الذي تربعوا على عرش المجالس الثلاث للبلد، وكان الأولى بهم التمسك به بكل السبل والذرائع، التي تعيد شيئا من حضارة الأجداد التي ضيعها سابقوهم، إلا أنهم نحوا منحى التفريط وانتهجوا منهج اللامبالاة في أداء واجباتهم. إن لسفر ساسة العراق اليوم الى دول المشرق والمغرب، له أبعاد غير تلك التي يفصحون عنها، كما هي نياتهم المبيتة التي يتأبطونها في ذهابهم وإيابهم منها واليها، فهم على وجه العلن يعملون لصالح العراق والعراقيين، وماتنقلاتهم تلك إلا خدمة للمرحلة والحالة التي يمر بها البلد، إلا أن مايحصل في الخفاء وراء الكواليس ينم عن سوء قصد من سفرياتهم، ماينذر بخطر كبير فيما لو تم لهم ماأرادوا، إذ الأعداء على أهبة الاستعداد في الدول الإقليمية وتلك التي وراء البحار على حد سواء، ومامن أحد منهم يعمل لأجل (سواد عيون العراقيين)، وهذا الأمر يعيه الراحلون تماما، مايدل على أن الغاية الحقيقية من الترحال ليست هي المعلنة على الملأ، والنية المبيتة أسوأ بكثير من جدول الأعمال المزمع إنجازه من جولتهم باتجاهات الأرض الأربعة.
وإذا أخذنا رئيس مجلس نوابنا في دورته السابقة مثلا للترحال المضاد لمصلحة البلاد، والسفريات السلبية التي قام بها، لما كفانا عدد او عددان او حتى عشرة أعداد من مطبوعنا هذا. ولو عرجنا على رئيسه في الدورة الحالية لشممنا رائحة تفوح من سفرياته تدلنا على شيء من الفئوية والحزبية والمناطقية، أما غير الفواحة فيعلمها العلام العليم..! أما نواب رؤساء المجالس الثلاث.. فهم الآخرون شملتهم غيرة الأسفار وعدوى الترحال، فقد أطلقوا العنان الى جواز سفرهم -العراقي في مشوارهم هذا- كي يسهل أمر ولوجهم الى هذه الدولة أو تلك.. لمقابلة هذا الرئيس او ذاك الملك، وقطعا كلهم يبتغون خدمة البلاد وملايين العباد.
هي أسئلة يوجهها المواطن المغلوب على أمره، الى الذين يكثرون أسفارهم من مسؤوليه وساسته؛ هل حققتم شيئا من جولاتكم المكوكية يعود بالفائدة الى أبناء جلدتكم؟ أم أن “خفي حنين” هما ما أبتم به من ترحالكم! فإذا كان الأخير صيدكم ومغنمكم.. ألم يكن الأولى والأجدى أن تلملموا شتات بعضكم، وتذللون الخلافات التي تفصلكم، وتذوبون الجليد الذي صنعتموه بأيديكم وتقوقعتم بداخله، وترحلون منكم اليكم.. وتسافرون مجتمعين في رحلة على بساط الصدق في النيات، والغايات السليمة فيما بينكم معززين مكرمين، بدل ذل الاستعانة -بغير الله-؟ أما سمعتم بيت الدارمي القائل؛
خل روحك بعز دوم بالك تذلهه
ولاتطلب الحاجات إلا من اهلهه