23 ديسمبر، 2024 3:03 م

بعد أحد عشر عاماً من العلاقات المأزومة والمتأرجحة التي صاحبها الكثير من مواقف الشد والجذب بين السعودية والعراق عملت خلالها الاولى مراراً وتكراراً على خلط الاوراق في الساحة العراقية وتأزيم الاوضاع الامنية فيه وقادت ما يسمى بدول مجلس التعاون الخليجي الى محاولة عزل واضعاف العراق وتحميله مسؤولية حالة الاضطراب واللاستقرار الداخلي على الرغم من دورها الكبير والمباشر في ايجادها وادامتها وهي التي عملت طوال السنوات الاحدى عشرة الماضية بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003م الى دفع الجماعات الارهابية الى الداخل العراقي ودعمها وتوفير الغطاء السياسي لها من خلال بعض القوى السياسية العراقية المتعاونة معها لإدامة حالة الاستنزاف للدولة العراقية وكسر توازناتها السياسية وجهدت على تنسيق الادوار بينها وبين مؤسستها الدينية المتطرفة التي وفرت الغطاء الشرعي للجماعات التكفيرية فضلاً عن الحملات الاعلامية التحريضية المستمرة المعادية للعراق وشعبه ونظامه السياسي الجديد.

فهل تخلت السعودية عن سياساتها الرسمية التقليدية وتجاوزت آثار وتداعيات ثقافتها الرجعية التي تعد المحرك الاساس في مقاربة ازماتها الداخلية او الخارجية مع من يختلفون معها في التوجهات الايدلوجية والقناعات الفكرية؟

وهل ما تزال تحلم بقيادة العالم العربي والاسلامي بطريقتها الدموية عبر نشر التخريب الوهابي والفكر التكفيري واعتماداً على شراء الذمم بأموال البترودولار؟ وهل تخلت عن عدائها للعراق وشعبه ونظامه السياسي؟ وهل لديها الاستعداد لرفع الخطوط الحمر عن جارة بهوية شيعية طالما تحسست منها وعملت على طمسها وتغييرها، جارة يقوم نظامها السياسي على انتخابات برلمانية حرة مثلت تحدياً لنظام القبيلة الحاكم، جارة تمتلك ثاني اكبر الاحتياطات النفطية في العالم ما مثل تحدياً آخر للسعودية ولسياساتها النفطية وهيمنتها على اسواق النفط الذي باتت تتحكم بأسعاره وتستخدمه كسلاح مؤثر وعامل تحطيم لاقتصاديات الدول التي تعتمد على النفط كمورد وحيد او اساسي في بناء منظومتها الاقتصادية.

حتماً تغيّر السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق ليس ناشئاً من قوة الدبلوماسية العراقية الجديدة وحركة خارجيتها السريعة تجاه بعض دول الجوار دون رؤية واضحة فما زال العراق يفتقد في علاقاته الخارجية الى التنظيم الدقيق للأولويات والتأكيد الدائم على الثوابت على اسس موضوعية تناسب الامكانات الذاتية من نظام سياسي وبيئة اجتماعية وقدرات اقتصادية ومستوى توظيف الموارد والطاقات وحسن استثمارها لتحقيق اهدافه الخارجية، امكانات وموارد كان للسعودية وما يزال دور كبير في ارباكها وتأزيمها واستنزافها ما القى بظلاله على السياسة الخارجية العراقية.

يبدو أن هذا التغيّر السعودي ناشئ من بداية تكريس معادلات دولية جديدة وتوازنات اقليمية مستحدثة بدأت من اندحار الكيان الصهيوني في جنوب لبنان عام 2000م وتأكدت بعد انتصار حزب الله في حرب 2006م وهزيمة اميركا في العراق وخروجها عام 2011م وبروز ايران كقوة اقليمية كبرى بإمكانات عسكرية واقتصادية ضخمة ودبلوماسية نشطة وفاعلة، ادى بالإجمال الى صعود محور ممانع ومقاوم يسعى بقوة للمحافظة على سيادة دوله وتحقيق استقلالها التام ما يهدد مشاريع الارادة الخارجية وملحقاتها الاقليمية البالية.

مستجدات كبيرة عطل تكريسها على الارض الرفض الاميركي للاعتراف بها والعناد السعودي للتسليم بحقائقها ليبدأ المحور الاميركي وادواته مع بداية اندلاع “الحريق” العربي مرحلة جديدة عمل فيها على ادارة هذا الحريق وتوظيفه لمشروعها مشروع كسر التوازنات الجديدة وتغيير معادلاتها عن طريق نقل شرارته الى دول الرفض لمشاريع الهيمنة والتبعية.

رغم عظم التحديات وضخامة التضحيات لم تفلح اميركا وحليفها السعودي في المنطقة من تغيير التوازنات السياسية الجديدة في العراق كما اشتهت ولم تنجح في تحقيق اهدافها وتحطيم النظام في سوريا ولا في كسر المعادلات الحاكمة في الساحة اللبنانية بل على العكس خرجت هذه الدول أقوى واكثر قدرة على مواجهة التحديات الخارجية بعد ان حولت التهديدات الكبيرة الى فرص واسعة تكرست معه ايران كدولة اقليمية كبرى معترف بها دولياً بعد الرغبة الامريكية بتوقيع الاتفاق النووي قبل ان يتحول الى امر واقع، فضلاً عن التحول الاستراتيجي في اليمن وبروز حركة انصار الله كلاعب مؤثر في الساحة الاقليمية.

بل ان سحر السعودية الداعشي انقلب عليها وبات الدواعش يمثلون تهديداً حقيقياً للداخل السعودي فضلاً عن مشكلات الطائفة الشيعية ومظلوميتها وتحديات الحراك الشعبي الداخلي الذي ينتظر فرصة التعبير عن رأيه بعد نجاح محاولات احتواءه المؤقتة اضافة الى معضلات التنافس على السلطة بين افراد العائلة الحاكمة.

وقائع جديدة وحقائق على الارض لا يبدو حتى الان انها نجحت في تغيير القناعات الايدلوجية وتعديل الرؤى الاستراتيجية لتصحيح  المسارات السعودية القديمة بأخرى صالحة جديدة بقدر ما يبدو انها تكتيكات جديدة فرضت على صانع القرار السعودي اعادة تنظيم الاوراق وترتيب الاولويات.