الثقافة الدينية السائدة والمتداولة، ومن خلال ما يذيعه الشيوخ والدعاة، وفضلا عن “منجزها” المباشر المتمثل في شيوع الإرهاب والتكفير، فإنها أيضا ألغت بعدا أساسيا عند الإنسان، وهو ثقافة الحياة. النزوع إلى القتل والتكفير وإلغاء الخصوم والذبح والتفجير وغيرها، هي مظاهر دالة على انحسار ثقافة الحياة وانتشار ثقافة الموت. قضية نفسية وفكرية ودينية متشابكة تشي بأن مواجهة التنظيمات الإرهابية لن تحصل فقط على الميادين، بل إن المهام الأكثر صعوبة ستكون في مجالات الفكر والدين والثقافة وخاصة منع الثقافة الدينية من ولوج عالم السياسة.
استقالة من الحياة وتهيؤ للموت
في البحث عن الفارق بين “المتعة” و”السعادة” في دراسة شملت 900 سيدة أميركية طُلب من كل سيدة أن تسجل كل خمس دقائق شعورها، وبعد عدة أيام تم جمع هذه البيانات الكثيرة. لاحظ الدارسون أن أتعس أوقات السيدات هي تلك اللحظات التي يقضينها للعناية بالأطفال، وكن يشعرن بسعادة أكبر في العمل أكثر من تغيير الحفاظات وإطعام الأطفال. تربية الأطفال عملية غير ممتعة.
حين سألهن الباحث قلن جميعا إن أطفالهن مصدر سعادتهن. هنا الفارق بين المتعة والسعادة. فالسعادة تأتي من “معنى” الحياة، وهو غالبا ما يكون أمرا تفرضه الثقافة والمجتمع. الإنسان يحتاج إلى معنى ليعيش. مثلا الجندي في الفرقة الذهبية وهو يقوم بتحرير الموصل لا يعتقد بأنه يقاتل في سبيل راتب فقط، بل يعتقد، صدقا، بأنه يحمي الأطفال والنساء ويدافع عن الوطن. الطبيب في مستشفى الكندي ببغداد لا يعتقد بأنه يقوم بعمل روتيني ويحصل على أجر مرتفع، بل يعتقد أنه ينقذ حياة البشر بعلمه.
هذا المعنى الوهمي الذي يعطيه الإنسان لحياته، هو ما يبعث في نفسه السعادة. حتى الكتاب العراقيون يقعون في الوهم وكثيرا ما تجد كاتبا يقول إنه يحاول إنقاذ الوطن، وكأنه رسول إلى الشباب لتحذيرهم.
المتعة شعور مجرد تحصل عليه من قضاء وقت مرح، حين تأخذ صديقتك للرقص، أو تذهب مع أصدقائك في قارب، حين تشرب النبيذ وتأكل وجبة جيدة، أو تُمارس الجنس مع عشيقة جذابة، هذه كلها متعة. المشكلة في السعادة هي أنها متعلقة بالثقافة والمجتمع، فهي تأتي “على جسر من التعب” وهي الوهم الكبير أو “الراحة الكبرى” كما يصفها أبوالطيب المتنبي.
لقد كانت السعادة ممكنة في العصور القديمة. الفلاح في العصر العباسي كان يجمع بين الإيمان والعائلة، ويحرص على تعليم أبنائه النصوص المقدسة والحكمة. العصر الحديث، من جهة أخرى، كشف الغطاء عن الديانات. صارت الفلسفة تقول لك صراحة إن حياتك لا معنى لها، كل شخص عليه ابتداع معنى خاص به، وهنا صارت السعادة مسؤولية فردية، ولأن هذه المهمة صعبة خصوصا في المجتمعات الغربية الحديثة فقد ابتدع الإنسان المخدرات، أي تحويل السعادة إلى قضية طبية، إنها جرعة من المخدرات فقط.
داعش ظهر كقصيدة هجاء للحياة والفرح، كراهية لفكرة الإنسان والحياة والمتعة، مبالغة بالاحتفاء بالموت وتمجيده
في العام 2002 وبعد سنة واحدة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ورغم كل ما قيل عن الحروب وخطر الإرهاب فإن عدد الذين انتحروا في العالم خلال ذلك العام كان أكبر من عدد قتلى الحروب الإرهاب والجريمة. المأساوي في السعادة أنها معنى للحياة، وإذا ما اهتز هذا المعنى عند الإنسان تنقلب إلى شقاء.
من أكثر الأديان التي عالجت مشروع السعادة هي البوذية، فمن خلال تأملاته اكتشف بوذا قبل المئات من السنين أن السعادة تأتي من داخل الإنسان، وبما أنها كذلك يركز البوذيون في رياضتهم على التحكم في الذات. فالسعادة مجرد موجة في بحر النفس تأتي بعدها موجة شقاء ثم موجة يأس. يرى بوذا أن مشكلة الإنسان في إصراره على ملاحقة تلك الموجة العابرة، ينتظرها ويستدعيها. هذا يتطلب جهدا كثيرا ويسبب الألم، إن السلام الإنساني، برأيه، يتحقق حين نفهم هذه الحقيقة ونتوقف عن انتظار السعادة حيث نفهم حقيقتها في دائرة الحياة.
تبقى “المتعة” أكثر حيوانية وغير متعلقة بالتأمل العميق والمعنى بعكس السعادة. إن المتعة هي ما يهتم به الأذكياء من أصدقائنا. أولئك الذين يهتمون بالمتعة كثيرا لأنهم غير مشغولين بشبكة المعاني وأفخاخها. غالبا ما تكون السعادة جالبة لنقيضها أي التعاسة، بعكس المتعة التي هي مباشرة وغير متعلقة بمعنى.
بعد سنوات ممتدة في الغرب سيكون مذهلا التجول في الشرق. تلك الطرقات العتيقة حيث الملائكة والجن والروح وعذاب القبر، حيث البرزخ والسماوات السبع الطباق والعرش، حيث القيامة والنشور والحساب والثواب والعقاب والقضاء والقدر والجبر والتخيير. هكذا نكون في القرون الوسطى، والعالم الحديث يأخذنا على قدر عقولنا. الإنسان يرفض الاستغفال وعنده رغبة في أن يكون عاقلا ومدركا لعصره، يريد أن يعلم أولاده في جامعة بريطانية، لكن رجال الدين يعيشون من دم العقل، يبقونك تحت أوهامهم لتضيع في العدم، إنها طبقة ثرية طفيلية تعيش من دم الشعوب.
تفخيخ الأطفال يسقط أقنعة داعش الزائفة
أطفال للتفخيخ
السبت الماضي، مثلا، أعلنت وزارة الخارجية العراقية عن مقتل حوالي 40 عراقيا قرب مقبرة الباب الصغير بدمشق وسقوط حوالي 140 جريحا، عبوة ناسفة وتفجير انتحاري أعلنت جبهة النصرة مسؤوليتها عن الحادث. هؤلاء عراقيون يسافرون إلى سوريا لزيارة العتبات المقدسة، رحلات مدعومة ومجانية من الحوزات ورجال الدين. العوائل العراقية الشيعية تعتبرها سياحة حيث السمر والطريق البري في الباص والكباب والدعوات في الحسينيات. لا توجد عند العراقيين فرص ترفيه كثيرة، وهذه واحدة من الوسائل التقليدية حيث يختلط الدين بالسياحة.
أثار انتباهي في التقرير الذي نشرته الشرق الأوسط اللندنية إشارة إلى تفجير سابق يقول “في 16 ديسمبر الماضي وقع انفجار في مخفر شرطة وسط العاصمة دمشق قامت به طفلة عمرها سبع سنوات” ترتدي حزاما ناسفا. أب فخخ بنتيه (9سنوات و7 سنوات) حتى تفجرا جسديهما، الكبيرة خافت وعادت، والصغيرة مسكينة ذهبت وفعلت ما قاله لها بابا أن تفعل، وصارت أشلاء وسط المخفر.
لا يوجد في التاريخ أم وأب يفخخان طفلة عمرها سبع سنوات لتفجر نفسها بمخفر شرطة، ويقول لها أبوها أنت ذاهبة إلى الجنة يا بابا، وأمتنا هي أمة عز وكرامة. كيف يسير العقل بهكذا اتجاه؟ ما فائدة تفجير مخفر شرطة؟ وهل شيء كهذا يستحق تفخيخ ابنتي؟ إن الرجال يقتلون بعضهم بعضا في الحروب، لقد رأينا ذلك في التاريخ، غير أن تفخيخ الأطفال قضية تفقدنا الثقة بهؤلاء الناس وأهدافهم وقواهم العقلية. تنظيم داعش ظهر كقصيدة هجاء للحياة والفرح، كراهية شديدة لفكرة الإنسان والحياة والمتعة، مبالغة بالاحتفاء بالموت وتمجيده.
إن الإحباط الذي نعيشه اليوم ليس سياسيا ولا فرديا، بل هو من ذلك النوع الخطير الذي يتطلب انقلابا ثقافيا جديا. التغيير قادم لا محالة، والثقافة عليها استحضار العقل لمواجهة الواقع.
إن تنظيم داعش لن يختفي بالقنابل بل هو قد يعود ويصبح أكثر انتشارا، لأن المثقف متردد ولا يوجد نشاط عربي حقيقي. إن العقل في خطر، وجودنا كله صار في خطر، لا أعرف لماذا لا نحب رؤية حجم المشكلة؟
المتطرفون يخدعون الشباب بفكرة وهمية اسمها “الشجاعة”، إن الشباب ليسوا شجعانا بمقدار ما إنهم لا يعرفون الحياة، ولهذا السبب لا يحترمون الموت
إنها محنة كبيرة وضخمة وواضحة. كيف لا يريد أحد أن يواجهها؟ أين ذهبت كلمات زرادشت عن شجاعة الذين يحدِّقون في الهاوية؟ نحن لم نعد نثق بالثقافة الدينية إنها مراوغة وتتدخل في السياسة.
الشيخ محمد العريفي أصبح ليبراليا ويردد الآية “وما جعلناك عليهم حَفِيظًا وما أنت عليهم بوكيل”. “دع الخلق للخالق”، هكذا صار يغرد على تويتر. ولا نعرف بأي آيات كان يستشهد وهو يحرض على الجهاد في سوريا من مصر في العهد الإخواني البغيض. كان المجاهدون العرب في القاعدة بأفغانستان يستمعون إلى محاضرات الشيخ سلمان العودة، الآن الشيخ سلمان يحدثنا عن الأزهار والطيور وعظمة الخالق الذي خلق الوجه الحسن، صار يتكلم وكأنه جبران خليل جبران.
الشيخ عدنان العرعور في العام 2011 كان يصرخ بالفضائيات “يا أهل حمص يا أهل درعا يا أهل حلب يا رجال التوحيد قاتلوا الروافض والنصيرية”، حتى أنه كان يقف على قدميه في البرنامج ويحرض، الشيخ نفسه في العام 2016 وبعد تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب لصالح بشار الأسد صار يقول نحن نحب علي بن أبي طالب أكثر من جميع الخلفاء، واعتقادك أيها الشيعي بولايته لا يُخرجك من الملة “اطمئن”. كيف نثق بالثقافة الدينية بعد كل هذا التناقض وضياع البلاد وهدر الدماء؟ الوقت مناسب لظهور المثقف العلماني الحقيقي.
خطب دينية لتزيين ثقافة الموت
اكتئاب معمم
هناك حالة من الاكتئاب الشديد في العراق والشام خصوصا، بسبب الإسلام السياسي، الشعب بحاجة إلى متعة وسعادة. لم يعد الناس يطيقون ما يجري في الموصل والرقة وحلب من دماء وعنف. نحن بحاجة إلى مشاريع ترفيه وفرح تقوم بها الدول والمنظمات العالمية للخروج من هذا المزاج السوداوي.
المتطرفون يخدعون الشباب بفكرة وهمية اسمها “الشجاعة”، إن الشباب ليسوا شجعانا بمقدار ما إنهم لا يعرفون الحياة، ولهذا السبب لا يحترمون الموت. إنك حين تموت تستحضر كل شيء ويزداد تقديرك للوقت الجميل الذي عشته بسلام، ربما تمتلك حينها فكرة أفضل عن السعادة.
إنني غير متأكد من الشجاعة فهي تعني أشياء كثيرة ومتناقضة. هل الشجاعة في أن تبقى في وطنك مهما كان، أم الشجاعة في الغربة والهجرة؟ هل الشجاعة أن تبقى في عائلتك حتى لو شاخت زوجتك؟ أم الشجاعة أن تعشق فتاة أجمل وتركض خلفها على شاطئ البحر غير مكترث باشتياق أولادك لك؟
هل الشجاعة أن تعيش قرب عملك حيث يأكل المصنع شبابك وعمرك؟ أم الشجاعة أن تغامر وتبحث عن الفرص؟ هل الشجاعة أن تغطي رأس زوجتك بحجاب؟ أم أن تأخذها للرقص وتترك شعرها يحطم المكان؟ هل الشجاعة أن نفكر وبالمصادفة قد نكتب الروائع؟ أم الشجاعة أن تستمر بالحركة والعيش وسط العالم؟ هل الشجاعة أن تكون عاطفيا مليئا بالإحساس أم الشجاعة أن تحكم عقلك فقط؟ هل الشجاعة أن تنتصر على أقرانك أم الشجاعة أن تنتصر على نفسك؟
ثم بأي معنى يهبط عليك الموت وتسمي تلك المواجهة شجاعة؟ هل هذا لأنك قد عشت؟ ما الدليل على ذلك؟ كيف يعيش الإنسان مثلا؟ دون أن نعرف ذلك لن نعرف كيف نموت. ولأننا خارج المعرفة لا توجد شجاعة، المعرفة هي الشجاعة المطلقة، والسعادة المطلقة.
إن السعي نحو الرفاه أصبح مضمنا في دساتير الدول المتقدمة، بينما بقينا نحن نفر إلى السعي في سبيل الجنة. إن الإنسان المعاصر يحاول إيجاد حلول من خلال الحياة نفسها، وعلينا أن نشارك في هذا الحوار. ولا أن نقترح تفسيرات دينية متطرفة تجد الحل بقفزة واحدة إلى الجنة من خلال تفجير الآخرين بعمليات إجرامية وانتحارية.
نقلا عن العرب