بعد فشله (للمرّة الثالثة) في إقناع البرلمان بتمرير حكومته، انسحب رئيس الوزراء المكلّف محمد توفيق علاوي بانتهاء المدّة الدستورية، محمّلاً جهات سياسية، لم يفصح عنها، المسؤولية في عرقلة مهمته، متهمها بأنها غارقة في الفساد والمتاجرة بالطائفية والعرقية وأنها كانت تتفاوض للحصول على “مصالح ضيقة” على حساب قضية الوطن ومصلحته، رافضاً ” الاستمرار بالمنصب على حساب معاناة الشعب”. ولعلّ ذلك كان خيبة أمل بالنسبة لعلاوي الذي اصطدم بجدار حديدي أساسه نظام المحاصصة الطائفي – الإثني الذي جاء به والذي لم يستطع تجاوزه على خطى سلفه عادل عبد المهدي الذي اضطر للاستقالة.
وبينما كان أعضاء البرلمان مجتمعين للتصويت على حكومة علاوي، كانت أصوات المتظاهرين تعلو في ساحة التحرير تندّد بالسلطة وأحزابها وترفض حكومة المكلف علاوي، وتطالب بمحاسبة المسؤولين عن قتل المئات منهم وجرح الآلاف، ووضع حد لنظام الفساد والتقاسم الوظيفي وإجراء انتخابات مبكرة واعتماد المعايير التي حدّدتها لاختيار رئيس وأعضاء مجلس الوزراء من المستقلّين وغير المحسوبين على أحزاب السلطة المشاركين في الحكم منذ العام 2003، فضلاً عن تمتعهم بالنزاهة والكفاءة والوطنية .
وهكذا يستمرّ المشهد السياسي العراقي في تعقيداته وإشكالياته التي أصبحت معتّقة ومزمنة، تلك التي زادتها انقسامات الكتل الشيعية وصراعاتها الداخلية وتجاذباتها في الموقف من حكومة محمد توفيق علاوي، التي اتسمت باتساع حجم التباعد والتنافر فيما بينها، وخصوصاً بين كتلة “دولة القانون” برئاسة نوري المالكي وكتلة “سائرون” برئاسة مقتدى الصدر، وذلك لرفض المالكي ترشيح علاوي في حين كان الصدر وبدعم من هادي العامري رئيس “كتلة الفتح” من يقف خلف ترشيحه ، وهو الأمر الذي سبقه أيضاً التوافق بينهما على ترشيح عادل عبد المهدي، ويعود اليوم إلى الواجهة مطالبة كتلة سائرون بحقها في ترشيح رئيس الوزراء باعتبارها الكتلة الأكبر، استناداً إلى تفسير المحكمة الاتحادية ، بعد فشل مرشحها المشترك علاوي بالاتفاق مع كتلة الفتح برئاسة العامري.
ولعل مثل هذا الصراع الشيعي – الشيعي المعلن والمستتر، يؤكد على تفتت ما سمّي بالبيت الشيعي الذي احتكر سلطة الحكم لستة عشر عاماً، وذلك سينعكس مجدّداً على المرشح الجديد، حيث ستقف الكتل الشيعية واحدة بمواجهة الأخرى عند اختيار المرشح الجديد، لاسيّما الخلاف بين كتلتي سائرون ودولة القانون، مما قد يؤدي إلى إفشال أي مرشح جديد وبذلك يمكن لتجربة علاوي أن تتكرّر بحيث يتم تعطيل الإتيان برئيس وزراء جديد ليدخل العراق في دوامة الفراغ الدستوري، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء المستقيل عبد المهدي في رسالته المؤرخة في 19 فبراير (شباط) الماضي والموجهة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وعاد وكرره بعد فشل مهمة علاوي بإعلان “غيابه طوعياً” كرئيس لمجلس الوزراء، علماً بأن وزارته قد تحوّلت إلى وزارة تصريف أعمال منذ قبول استقالته من جانب البرلمان في 1 ديسمبر (كانون الأول) 2019.
لقد تجمّعت قوى عديدة من خارج البرلمان ومن داخله للإطاحة بعلاوي ، فإضافة إلى كتلة دولة القانون، هناك “التحالف الكردستاني” وبخاصة رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، و”تحالف القوى العراقية” برئاسة محمد الحلبوسي و”القائمة العراقية” برئاسة إياد علاوي، إضافة إلى معارضة شديدة من جانب حركة الاحتجاج. وهكذا وبانسحاب رئيس الوزراء المكلّف بات من الضروري البحث عن رئيس وزراء جديد، طبقاً للسياقات الدستورية، على الرغم من استمرار الأزمة الطاحنة التي تلفّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها منذ اندلاع حركة الاحتجاج التي لم يسبق لها مثيل تلك التي اندلعت في الفاتح من أكتوبر (تشرين الأول) العام 2019، وتوسّعت وتجددت في 25 من الشهر ذاته وهي ما تزال مستمرة حتى الآن على الرغم من انتشار الفايروس القاتل كورونا إلّا أن المتظاهرين رددوا بتحدٍّ :” كورونا لا يخيفنا والسياسيون هم الفايروس الحقيقي”، علماً بأن الجدل والصراع أخذا بعداً دستورياً أيضاً بشأن الجهة الرسمية التي يمكن أن تحلّ محلّ رئيس الوزراء.
إن استقالة عادل عبد المهدي وانسحاب محمد علاوي أعاد الكرة مرّة أخرى إلى ملعب رئيس الجمهورية والكتل الشيعية لاختيار مرشح جديد لرئاسة الوزارة يتم تكليفه من جانب رئيس الجمهورية، وهو الأمر الذي سيعيد التجاذبات والاحتكاكات مجدداً بينها من جهة وبين الكتل الأخرى فيما إذا كانت الشخصية المرشحة مقبولة أو غير مقبولة من طرفها، فضلاً عن موقف حركة الاحتجاج الشعبية ورؤيتها من جهة أخرى، خصوصاً وأنها وضعت معايير لم يتم اعتمادها من جانب الكتل التي رشحت علاوي، الأمر الذي أدى إلى رفضه شعبياً، بغض النظر عن صراعات القوى السياسية التي حجبت الثقة عنه في البرلمان، وكل يغني على ليلاه، بمعنى مصالحه الخاصة ويقدّم بذلك مبرراته وأسبابه.
وحسب المادة 81 من الدستور يمكن لرئيس الجمهورية أن يتولى مهمات رئيس الوزراء إذا شغر المنصب لأي سبب كان، لكن ثمة من له تفسير آخر لمثل هذا النص، لاسيّما بوجود نائبين لرئيس الوزراء يمكنهما القيام بمهماته وممارسة صلاحياته، الأمر الذي يستبعد تحقّق شروط المادة المذكورة، لكن مثل هذا الرأي يفنّده قبول مجلس النواب (البرلمان) استقالة وزارة عادل عبد المهدي في 1 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، وتكليف رئيس الجمهورية لمحمد توفيق علّاوي بتشكيل وزارة جديدة، وحتى لو استدرك رئيس الوزراء عن استقالته، فإن مجلس النواب كان قد وافق عليها وأصبح قراره نافذاً.
وفي ظلّ الانقسامات الحادة والتشظي الواسع والاستقطابات الجديدة، فإن مهمة تكليف رئيس وزراء جديد وحصول الأخير على ثقة البرلمان من جهة، وثقة حركة الاحتجاج من جهة ثانية، تبدو صعبة جداً وإن لم تكن مستحيلة، حتى وإن كان الهدف هو تشكيل حكومة انتقالية تضع في صلب برنامجها خيار إجراء انتخابات مبكرة على أن يكون حدّها الأقصى نهاية السنة الحالية (2020)، غير أن مشكلات جدّية وعقبات عديدة تواجه هذه المهمة، منها قانون الانتخابات الذي لم يكتمل بعد لكي يصادق عليه رئيس الجمهورية، وستطرح من هذه المهلة مدّة الـ 15 يوماً التي حدّدها الدستور لتكليف رئيس الجمهورية لرئيس وزراء جديد، وهذا الأخير سيأخذ فترة 30 يوماً ليتقدّم بوزارته إلى البرلمان لنيل الثقة، وكلّ هذه الأمور ستحتسب على موعد إجراء الانتخابات والتي قد تؤدي إلى تأخيرها، علماً بأن حركة الاحتجاج تعلن بكل صراحة ووضوح أنها مستمرة لاستعادة الوطن والكرامة والعدالة.
ويحاول رئيس الجمهورية عقد اجتماعات مع رؤساء الكتل، ولاسيما مع القيادات الشيعية، حيث التقى مع رئيس “تيار الحكمة” عمار الحكيم ورئيس “كتلة ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي ورئيس “تحالف الفتح” هادي العامري ورئيس “ائتلاف النصر” حيدر العبادي ، وقد تردّد بعض أسماء مرشحة هي :
1- مصطفى الكاظمي – مدير المخابرات الحالي
2- محمد شياع السوداني – وزير الشؤون الاجتماعية السابق
3- علي الشكري- وزير التخطيط السابق
4- حيدر العبادي – رئيس الوزراء الأسبق،
وهناك أسماء أخرى مثل عدنان الزرفي محافظ النجف السابق ونعيم السهيل مستشار الرئاسة سابقاً وأسعد العيداني محافظ البصرة السابق، كما تردّد إمكانية إعادة تكليف عادل عبد المهدي مجدداً لرئاسة الوزراء. وكان تحالف “سائرون” بقيادة مقتدى الصدر قد وضعت شروطاً أساسية لدعم أي مرشح لرئاسة الوزراء خلفاً لرئيس الوزراء المكلّف محمد علاوي، وأولها موافقة المرجعية الدينية، تلك التي كانت كلمتها نافذة في السابق والحاضر ، سواء في اختيار علاوي أم عبد الهادي أم العبادي أم المالكي، وهو ما يحملها البعض مسؤولية هذا الخيار ، على الرغم من أنها تحاول كما تقول عدم زج نفسها بشكل مباشر في مثل هذا الاختيار الصعب، دون إغفال الدور الإيراني المتغلغل والنفوذ الأميركي الذي يحسب له حساب أيضاً.
والجدير بالذكر أن المادة 76 تعطي الحق لرئيس الجمهورية في ترشيح من يراه مناسباً بعد فشل المكلّف الذي رشحته الكتل السياسية، علماً بأن التوافق بين المجموعات الشيعية أصبح صعباً جداً ، خصوصاً بعد انقسامها بين مؤيد ومعارض لمحمد توفيق علاوي، الذي تمت الإطاحة به بالتعاون بين كتل شيعية وكتل من خارج دائرة ما يسمى بالبيت الشيعي من الكتل الكردية والسنية حسب المصطلحات السائدة.
ويبدو أن “كتائب حزب الله” الموالية لإيران هي من يؤيد ترشيح عادل عبد المهدي، لاسيّما بعد مهاجمة ناطق باسمها ” أبو علي العسكري” مصطفى الكاظمي رئيس جهاز المخابرات، الذي يتردد اسمه باعتباره بديلاً لعلاوي، وقد سبق لها أن دعت إلى إجلاء القوات الأمريكية من العراق وقامت بأنشطة عسكرية ضد السفارة الأمريكية في بغداد، علماً بأن البرلمان العراقي صوّت لصالح سحب جميع القوات الأجنبية من العراق في ظلّ معارضة وغياب كردي وسنّي .وتعتبر “الكتائب” ترشيح الكاظمي لشغل منصب رئيس الوزراء بمثابة “إعلان حرب على الشعب العراقي الذي سيحرق ما تبقى من أمن العراق” وقد ردّ بيان صادر من رئاسة المخابرات على اتهامات كتائب حزب الله العراقي معتبراً إياها باطلة وهدفها إيذاء العراق.
وإذا كانت القوى الكردية لا تمانع من ترشيح عادل عبد المهدي مجدداً، كما جاء ذلك على لسان قباد الطالباني نائب رئيس وزراء إقليم كردستان، فإن الكتلة السنّية ” تحالف القوى العراقية” (برئاسة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي) لا تريد استنساخ تجربة ثانية له أو لمحمد علاوي، وتفضل شخصية مقبولة للمضي معها، كما جاء على لسان محمد الكربولي.
وكان عادل عبد المهدي الذي أعلن عن غيابه الطوعي قد قال في رسالته التي سبقت الإشارة إليها أنه ” لن يلبي أي دعوة لإجراء لقاءات أو مباحثات اجتماعية رسمية محلية أو أجنبية، داعياً إلى حل البرلمان قبل 60 يوماً من تاريخ إجراء الانتخابات المبكرة ” إلا أنه أوضح قائلاً إن ذلك ” لا يعني عدم احتمال اللجوء لاحقاً إلى إعلان خلو المنصب وفق المادة 81 من الدستور، إذا لم تصل القوى السياسية والسلطات التشريعية والتنفيذية إلى سياقات تخرج البلاد من أزمتها الراهنة وفق المادة 76 من الدستور”.وسواءً تم الاتفاق بين الكتل المتصارعة على مرشح أو لم يتم الاتفاق عليه فإن مهمته حتى وإن كانت انتقالية ومؤقتة لكنها ستكون مضنية ، خصوصاً بالضغوط التي سيتعرض لها من جانب القوى المتنافرة والتي قد تفشل مهمته مرة أخرى ، حتى وإن تم اختياره كمرشح تسوية .
وفي حين تتصارع الكتل والقوى الطائفية والإثنية على المواقع والمناصب بشراهة وأنانية وعدم شعور بالمسؤولية في السر والعلن غير آبهة بمطالب القوى الشعبية واحتجاجاتها وغير مكترثة بالدماء التي سالت فإن البلاد تنحدر يوماً بعد آخر إلى المجهول، لاسيّما باستمرار أزمة الحكم المستفحلة منذ 17 عاماً.
نشرت في مجلة الشروق (الإماراتية) ، العدد 1457-1469 تاريخ 9-15/3/2020