18 ديسمبر، 2024 6:50 م

السرد عندما يكون عشقا سريا .. مي مظفر نموذجا

السرد عندما يكون عشقا سريا .. مي مظفر نموذجا

نصحني صديق لا زال يعيش في بغداد وهو يقرأ ما أكتب أحيانا بأن اظل أتذكّر بغداد كما أكتب عنها في ظل ذاكرة قديمة بعد أن تغرّبت عنها قبل أكثر من عقدين من الزمن. ولعله يقول لقد تغيّرت المدينة اليوم حتى أنك ان دخلتها سوف لا تعرفها فلم تغدو كما كانت. ولعل القاريء لمجموعة القاصة العراقية مي مظفر للقصة القصيرة والمعنونة “ألم يبق منهم أحد” قد يوّد أن يقول الشيء نفسه وينصح مظفر لأن تبقى تكتب عن بغداد بذكرياتها التي راحت تنزفها على ورق حملّته عشرين قصة تأخذك عبرها حيث بغداد/المدينة وشوارعها وحاراتها وأزقتها وأسواقها وناسها وحكاياها، الشارد منها والوارد، وخاصة حكايا الحب والمحبين من أهل بغداد وعلى مدى عقود الزمن الماضية. وقد ينتبه القاريء الى تجنيس الكتاب فالمؤلفة لم تقل عنه انه مجموعة قصصية ولكنه الغلاف الداخلي مما وضعه الناشر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) وصفا وتجنيسا فذكر كونها قصص قصيرة.  والمؤلفة قبل ذلك قاصة عراقية معروفة وهي تذكر في مقدمة كتابها أنها حكايات بغدادية كمنت طويلا داخل ذاكرة مهملة. وقد تسأل كم من القصّاصين من يقدّموا لمجاميعهم القصصية بمقدمات فتكاد لا تذكر أحدا..
عتبة العنوان..ألم يبق منهم أحد!
والعنوان فيه الدلالة. فهو التساؤل الممّض فيما يخص البقاء الذي هو للخالق وحده. وكأن المؤلفة تريد من القاريء أن يعلمها فيما اذا كانت أية شخصية في كتابها على قيد الحياة باقية لتلتقيها وتستزيد من حكاياتها، ولكن أين لها ذلك؟.
 وجاء العنوان على الغلاف دون علامة أستفهام حيث استبدلت بعلامة تعجّب، وفي ذلك الدلالة ولا غرابة. وقد أحتلت صورة فوتغرافية لفتيات ثلاث غلاف المجموعة، وهي الصورة التي أبدعها زوج القاصة الفنان رافع الناصري، فكأن الفتيات من خلال ملابسهن ونظراتهن وحيازة أحداهن على آلة العود الموسيقية وسواد وبياض الصورة يردن أن يعطين اشارة لما ستقوله الحكايات بين دفتي غلاف رصين يحمل نكهة بغداد القديمة.
وتبدأ القصص أو قل الحكايات القصيرة عن بغداد بموضوعة الحب ولوعته وشجونه وشؤونه، وما أدراك ما شؤونه بين أهل بغداد في زمان مضى سحيق وزمان مضى قريب. ولكن الحب كموضوع يبقى لب حكايات الأنسان عبر الأزمان. فقصة “نحت بالرخام” تنقلك الى محلة الفضل ومدرسة البارودية والصلة الخفية السرية بين من كان قوامها ممشوقا صاحبة “قصة المودة” لشعرها وبين المحامي الشاب الذي كان يتردد على الدار. ثم تأخذك قصة “المسيو جميل” الى موضوعة الحب من جانب واحد. وهو الحب غير المصرّح به الذي دفنته القلوب في تلك الأجواء البغدادية غير التقليدية حيث المسيو جميل التركي الجنسية مدرّسا في معهد للفنون الجميلة. فالفضاء المكاني البغدادي فيها خاص جدا لأناس كانوا يعيشون عيشة رغدا، فهم من المحظوظين وقتها في بغداد ولكنهم لم يكونوا دون مشاكل وهموم.
وفي قصة ” رأيت شارع الرشيد مهجورا” تأخذك مي مظفر في مشهد حديث كئيب لشارع الرشيد من خلال شاشة التلفاز، ثم تسترجع ذاكرتها كيف كانت قد رأت الشارع العامر ذات مرة خاليا، فتأتيك الحكاية بسيطة منسابة كأنسياب زورق البلاّم في نهر دجلة الخالد، فأذا بك تقرأ عن “طوب ابو خزامة” ودكان الحاج زبالة لشراب الزبيب والجبن الأبيض وشارع المتنبي ودكان أبن كنو للفواكه ومحلات أورزدي باك البغدادية ومكتبة مكنزي وسينما الحمراء الصيفي.
ويبقى السؤال ألم يبق منهم أحد ؟ يلّح في بال القاريء وهو يلتهم صفحات حكايات مي مظفر التهاما. ويكاد يصيح لماذا  لم يبق أحد منهم؟ فأين تلك التي أسمها أسمهان فتاة القسم الداخلي في مدرسة الراهبات ببغداد تلك التي حاولت الهروب من سجن ظنّته يوما سيحميها الى فضاء حر ولكنه صعب. فيا ترى هل سيكون مرحّبا بها؟ وماذا حلّ ب عبد القادر وشخصيته الغريبة التي تماهت مع مطربة مشهورة هي أم كلثوم التي صدمته أخبارها بزواجها من الحفناوي طبيبها. وفي ذلك يبدو ولع الكاتبة بالفن والفنانين وأهل الطرب، فتكون حكاية يوسف عمر قاريء المقام العراقي المعروف من حقائق الحكايات التي اجتهدت مي مظفر لتذكير قارئ مجموعتها بشخصية غنائية بغدادية كان سلوكها صادما وغرائبيا وغير متوقع عند بطلة الحكاية التي تعلقت بمطرب مقام لم تره من قبل.
وللحب والهيام حكاياته البغدادية عند مظفر ففي ” قصة حب” يكون هذا الحب المستحيل..البعيد، فيه الهجر وعدم التواصل وفيه ذكريات لا يخلو منها مكان!. وفي “لقاء ووداع” حكاية حب فيه وداع الحبيب لحبيبته ولكن هل من لقاء آخر؟..فالحبيب جندي عراقي ذاهب للحرب في الجبهة المصرية، والحبيبة خائفة من المستقبل. وهناك دائما من يطاردها ترميزا ودلالة على زمن ظلّ فيه العراقي يتحسب من مستقبله. ولكن حكاية “البيت العتيق” تبقى مهماز هذه المجموعة حيث تتناول بيتا بغداديا قديما وشخصية تعيش فيه، حيث لم يعد للبيت مكان في الحاضر من زمن فقد فقدت علاماته والطرق المؤدية أليه في بغداد الحاضر، تلك المدينة التي قدّمت لها المؤلفة في سطور مقدمتها الأولى فتقول” لا يوجد مدينة مثل بغداد يتداخل فيها الأسطوري بالواقعي..” وهو التداخل الذي حاولت مظفر جاهدة لأن تجعله ثيمة مجموعة حكاياتها التي تنهيها ببغداد عشية الغزو فتروح متأملة المدينة، تلك التي ستمتلأ سماؤها بصقور حديدية لا تعرفها الطيور حيث ستراقب من أسوار غربتها أهلها يتساقطون مثل أوراق الشجر. وحكاية “بازبند” وهي تسرد عن حادث سرقة الدار..دلالة عن سرقة الوطن، ولكن “الدار باقية..”.
لقد عوّدتنا القاصة العراقية مي مظفر أن تكون لغتها أنيقة شفافة قريبة الى قلب القارئ وعقله وعواطفه ومشاعره. وهكذا كانت حكاياتها تلك التي سافرت بنا حيث الوطن العراق وعاصمة الرشيد. وعندي أن مي مظفر في تجربتها السردية الفريدة هذه قد وفرّت زخما أنفعاليا عاطفيا للمدينة-المكان الذي تقّص وتحكي عنه. فلم تكن بغداد/المدينة مجرد فضاء مكاني يدور فيه حدث معين بشكل ميكانيكي متوقّع بل ان هناك نمط حياة تنفرد به المدينة وناسها من خلال كل تاريخها الذي تلهث القاصة ناشرة أياه عبر حكاياتها بشكل متسارع وكأنها تريد أن تنهي عذاب قلمها وهو ينزف على ورق الكتابة.