17 نوفمبر، 2024 5:50 م
Search
Close this search box.

السرد المفتوح على الذاكرة في كتاب تمر ولبن ..

السرد المفتوح على الذاكرة في كتاب تمر ولبن ..

خيال السرد يتحول الى ذاكرة مكتنزة في كتاب الذات الجمهورية او تمر ولبن كما اسماه مؤلفه خضير فليح الزيدي . الذات التي مرت بكل شيء ولكنها نسيت كل شيء او تناست .. في أي سرد ثمة منقولات واقعية ووصف تخيلي تربطهما حبكة متقنة تؤدي غرض الكتابة في اطاريها الزماني والمكاني فيحيلنا الى وقائع حدثت وحفرت لها مكانا في تفاصيلنا اليومية مذ ان عرفتنا نشرات الاخبار طيلة عقود من الاستماع باضطراب وقلق ، الى بيانات الانقلابات والثورات التي لم نعرف عنها سوى ما يقله المذيع المتجهم بنبرة قوية وحماس يخدش الآذان وهي تسمع ما يحدث او ما يراد لها ان تسمع تحديدا ..
يشتغل تمر ولبن على المفارقة الواضحة في اساليب الذات العراقية في زمنين ، الملكية وما بعدها الزمن الجمهوري وهو مساحة البحث والتقصي للكتاب في هوامشه وتفاصيله .. من خلال تحر دقيق وبذاكرة راصدة عن المزاج المتغير للذات في واقع متحرك .. فكانت مساحة السرد المنثال تغطي جزئيات وتفاصيل المشهد التاريخي بأسلوب كتابة النص الأدبي المقترن بعناصره الثابتة . فهو يطرح بنية المجتمع العراقي بانحياز الى النص مبتعدا عن البحث المجرد القريب من المفصل التاريخي والعلمي لعلم الاجتماع .. انه ابتعاد مدروس اتكأ على ثقافة المؤلف الروائية والسردية .. في الكتاب ثمة استكشافات مرئية في البنية والاتجاه والأسلوب وهو ما كان حفرا في مقاطع ظلت بعيدة عن التناول ومنسية طويلا في ظل تزاحم الاحداث وانشغال التدوين عنها بسبب تراكم الحقب وانشغال الذاكرة بالتخزين المتسارع مما لم يسمح بإيرادها ضمن مدونات السردية العراقية وان دونت فهي مقاطع من قصة او رواية . ان انشغال الذاكرة عن تذكر الأشياء والأسماء والأزياء وسواها ، اوردها الكاتب خضير فليح الزيدي في كتابه تمر ولبن مدركا بانها تصلح ان تكون حفرا في سرد يمكن ان يؤسس لجنس  مغاير عن السردية المعروفة في القصة والرواية او هو نتاج معرفي منهما وخاصة ان ايراد تفاصيل الاشياء جاء بلغة لم تبتعد كثيرا عن مهارة فعل الحكي عند كاتب القصة او الرواية . يكتب المؤلف في مقدمة كتابه ” تحيلنا هذه الفوضى الى تفكر سري بمآلات ذواتنا القلقة .. ترى الى اين تذهب تلك الذوات بعد دوامة ما قبل وما بعد ؟ ”
ان دراسة بنية أي مجتمع تحيلنا الى الإيغال في تفاصيل سايكولوجية الذات .. وعندما نتحدث عن الذات نفسها وبمفهومها العريض ، تتحدد امامنا عدة وصفات اهمها ما تقرره تلك الذات وهي تعيش ضمن اطر مفروضة عليها او كما يقول ليفي شتراوس ” بان الفرد محدد بآلية مقيّدة ” وهو ما نشره المؤلف على جغرافية مكانية امتدت لأكثر من خمسة عقود منذ اول عهد جمهوري في العراقي وهو ما شكل سردية كبرى للذات حسب المؤلف . يخوض الكتاب عبر ثلاثة فصول في آلية نزوع الذات العراقية نحو التغيير او التشيث بكل جديد ولو كان مغايرا لواقعها . في الفصل الاول الذي حمل عنوان : عراقيون في الزي ، يتناول تأثيرات ثقافة الرصد النقدي على تعاطي الزي في الشارع العراقي ” ان تحولات المنظومة اللونية الحسية الى دلائل وإشارات يدركها الجمهور تتنمط في لاوعيه وذاكرته في عهود سياسية مفصلية في حياة الذوات .. الوان الملوكية لها من الخصوصية تختلف عن الوان الثورات / الانقلابات في زمن الجمهورية ” ص45.
في الفصل الثاني : عراقيون في البيت وهو استدراج لفضاء أرحب حين تكون الذات الجمهورية بحاجة الى مكان للسكنى لتضم القطبين الأساسيين بين جنباته وهما المأكل والملبس .. هو استدراج مادي لمعطى انطباعي حول اكتشاف نمط الذات في هندسة البيوت وقد اطلق عليه الكاتب عرين الذات وملاذها وخيمتها المحدثة .. مكعب مغلق لا يفضح أسراره في النظر إليه من الخارج الذي لا يمت بصلة إليه من الداخل .. هو بذخ في تفاصيل السرد وفق انطباع سوسيولوجي عراقي متغير من زمن الى آخر .. يقول اوكتوفيو باث ”
 المجتمعات تتغير باستمرار ويكون التغيير أحيانا عنيفا . ولكن كل تغير هو تقدم ولم يعد الزمن البدئي هو الماضي العصر الذهبي الخيالي والوهمي ، والزمن الذي هو خارج الزمن فكرة انزاحت امام فكرة التقدم . ” ولا يكتفي الباحث السارد في وصفية الهندسة المعمارية للبيت العراقي ، انما تعداها الى تنظيرات في مدى تقبل الذات لتلك البيوت واهواءها وقناعتها وحسب المدخول المعاشي لها .
في الفصل الثالث :عراقيون في المطبخ .. تنازع النفس البشرية على الاشتهاء في غرفة المعيشة ” المطبخ ” وفقا لالية الانتقال من الملكية الى الجمهورية .. نوعية الطعام وتصاميم المطبخ العراقي .. هناك اكثر من ثنائية متلازمة تظهر في المأكل العراقي مثل تمر ولبن وخبز وشاي وقيمر وعسل وبصل وخبز الخ ..
ينحى السرد في تمر ولبن منحى مختلفا من السرد المعروف ، حين يشتغل في منطقة لم يصلها السارد العراقي بعد .. مع ان بعض محاولات من زملاء آخرين اتجهت نحو إيجاد منطقة وقوف فيها لكنها تحتاج لكثير من التنوير . إنها منطقة بوح لجزيئيات مرت بنا لكننا لم نعد نتذكرها او لم تعد موجودة في قواميس اهتماماتنا لذا تطلب حضورها ايقاظا لمعارف ركنت في سبات طويل وكأن معولا استخدمه الزيدي في احضارها لنا او كما يقول هو بأنها مجموعة افتراضات بروح تنظيرية في سوسيولوجيا عراقية محضة ..
تمر ولبن كتاب ” الذات الجمهورية ” صدر في دمشق سنة 2011 .

أحدث المقالات