اسئلة كثيرة تواجه من يحاول البحث عن تفسير هذه الطريقة الخاصة جدا للتعبير عن الرأي التي يسميها العرب (النكتة). وتندر الاجابات او لا توجد بالمرة، ولكن تبقى النكتة، كثيفة، ساخرة، سريعة النفاذ، تغني الواحدة منها عن مقال كامل او خطبة نقدية مطولة او شروح مسهبة متغلغلة للمواقف، فهي في ذاتها موقف صاغه عقل جماعي مجهول بمفردات بسيطة نسيجها المفارقات المكثفة التي تنطق بها وقائع حياة كل يوم.
انها حزب البسطاء ومنشورهم الذي نفذ بسخريته اللاذعة الى الاعماق وصحيفتهم غير المكتوبة وسلاحهم في مواجهة ما يحيط بهم. فهم يلتقون جماعة من خلال النكتة ويروضون عبر عملية تخيل ذهنية عجيبة واقعاً لا يمكنهم احتماله ولا يستطيعون تغييره. ولانهم يفهمون بغريزتهم ما يحدث، ولانهم لا يستطيعون تدبيج المقالات والخطب والتحليلات التي تفسره، فانهم يضحكون من واقعهم ومن عجزهم ومن انفسهم.
النكتة ايضا هي كلمة السر السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتخاطب بها الذين لا يملكون وسيلة اخرى للتواصل بلا لقاء، وهي تصاغ جماعة، اذ لا فضل لمن وضعها في صورتها النهائية الا بقدر فضل من جمع تعليقات متداولة بالفعل، وهي تتدفق كتيار ضاحك يبلور رأي المجتمع من غير ان يعرف أحد من أي شقوق هذا المجتمع يأتي، ولا أين ينوي ولكنه ما كان ليوجد وينتشر من الاصل لو لم يكن هناك اجماع صامت بالاتفاق على الاراء التي يحملها.
هل سمعت آخر نكتة؟
يسأل احدهم صديقه، وغالباً ما تكون الاجابة بالنفي على الرغم من ان الصديق سمع بالتأكيد ذات يوم نكتة كانت هي الاخيرة بالنسبة اليه. ولكن النفي هو التعبير غير المقصود عن التواطوء الاجتماعي على حماية هذا الاسلوب الخاص من اساليب التعبير وعلى ضمان انتشاره. فثمة احتياج لوجوده، ثم انه ينقل رأياً لا يمكن سماعه في مكان آخر بالاسلوب نفسه.
كتاب خالد القشطيني- السخرية السياسية العربية- الذي نحن بصدد مراجعته، نال قسطه من النجاح عندما صدر بالانكليزية، فكانت المرة الاولى التي يتعرف فيها الجمهور الغربي على الظرف العربي، طبيعته، جذوره، واسبابه. الكتاب، صدر عن دار الساقي في لندن بالعربية بعد ان ترجمه الدكتور كمال اليازجي، وهكذا تتاح فرصة قرائته لأصحاب الشأن الاول فيه.
الكتاب، وضعه بالانكليزية مؤلفه الذي اشتهر بكتاباته الساخرة وابحاثه السياسية والادبية. اما لماذا وضعه بالانكليزية ليترجمه له الى العربية كاتب عربي آخر قدم اضافات الى النصوص الاصلية، اضفى عليها طرافة فوق طرافتها، فيبرره المؤلف بشعوره بعظمة ثروتنا الادبية في ميدان الفكاهة والظرف وبجهل الغربيين التام تقريبا لهذه الثروة. مع ان المؤلف يعترف بأن الغربيين يعتبرون الفكاهة وروح النكتة شيئا اساسياً من اشياء الحضارة والفن والادب ودليلاً على النضج وسماحة الخلق والميل الى السلام والقدرة على التفاهم العقلاني وبرهاناً على الثقة بالنفس، بينما يرى ان الفكاهة والنكات والتعليقات لا تزيد عن الكثيرين من العرب على كونها مزاجاً عابثاً ومضيعة للوقت وتعريضاً بالناس وتحديا للتراث والدين، علما بان الغربيين يقولون بان العرب لا يتصفون بروح النكتة وليس لهم ادب فكاهي ومسرح كوميدي. وفسر بعضهم انعدام الكوميديا في الادب العربي بانه وليد احتقار المرأة عند العرب.
ومن هنا، يرى المؤلف ان لجوئه الى اللغة الانكليزية، ابراز هذا الجانب من الشخصية العربية والتراث العربي للغربيين، هو اهم في رأيه من ترجمة المتنبي او ابن رشد او ابن بطوطة الى اللغات الاوروبية. ومن اسباب لجوء المؤلف الى اللغة الانكليزية، نظرة الاحتقار التي اخذ الغربيون ينظرون بها الى اوضاعنا السائدة وضرورة اثبات ان هذه الاوضاع تلقى من الجماهير العربية نفس نظرة الاحتقار والادانة، وان التنكيت نفسه الذي يمارسه المواطن العربي على حكومته وحكامه هو تعبير حي عن هذه الادانة وسخرية من تصرفات بعض القادة والسياسيين.
الكتاب، ليس موسوعة ضاحكة كما قد يتبادر الى الذهن، وان احتوى على كم هائل من النكات والطرائف بل هو بحث موسع يأخذنا فيه المؤلف في جولة سياحية الى عالم الظرف العربي، مبتدئاً بفلسفة الضحك ومجيباً على السؤال البديهي: لماذا نضحك؟ فيورد اراء الفلاسفة في هذا الموضوع، الاعاجم منهم والعرب، ليخلص الى تحليل سبب الفكاهة عند العرب، وهو الشعور بالاحباط وخيبة الامل في وعود الماضي التي لم تتحقق اليوم من جهة، ومن جهة اخرى الى الفوضى السياسية والحكم القهري والتمزق الاجتماعي والفتك بابناء الوطن، وسلسلة طويلة من الاخفاقات والهزائم.
ان الكتابة في موضوع النكتة السياسية او الظرف السياسي في وطننا العربي قديما وحديثا، مهمة محفوفة بالمخاطر والتحديات والمحاذير. الموثوق بها، لان النكات والدعابات لم تدون يوماً في الوقت الذي اطلقت فيه، بل خضعت للتغيير والتحوير، التلميح والتبهير، حسبما يحلو للراوي، الذي يتناقل عنه الدعابة رواة آخرون ينقلها عنهم آخرون، من مكان ومن زمان الى زمان، حتى تصل الينا وقد ضاع اصلها او كاد.
كما ان العرب اقتبسوا الكثير من نكاتهم في غضون الثلاثينات والاربعينات من شعوب اوروبا الغربية، في حين انهم اتجهوا في السبعينات والثمانينات الى الاقتباس من دول اوروبا الشرقية، كما يشير المؤلف نفسه في تصديره للكتاب، وهذه صعوبة اخرى تضاف الى صعوبات تاريخ الظرف السياسي العربي، ولم تتح الظروف للمؤلف ان يختار فكاهات ونوادر من بلدان المغرب العربي ولا يكفي اعتذاره لاغفال هذه الناحية ونواح اخرى من تغطيه الاغفال.
على الرغم من كل ذلك… اتخذ المؤلف قرار المجازفة في اقتحامها ولا سيما في اقتحام موضوع الحس الدعابي عند الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وائمة الاسلام الابرار، ولم يجد المؤلف نفسه امام تحد آخر لا يقل عن الاول رهبة، هو التحدث عن الدعابات السياسية التي نسجت حول الزعماء المعاصرين في وطننا العربي.
الفكاهات والنكات والنوادر التي يوردها المؤلف بعضها متداول معروف في الشارع العربي المعاصر او شائع من خلال كتب كبار الادباء العرب عبر التاريخ كالجاحظ وابن المقفع. ففي احد فصول الكتاب ركز المؤلف على حب العربي للمرح لا سيما الكلامي منه، ففي احد فصول الكتاب ركز المؤلف على حب العربي للمرح لا سيما الكلامي منه، حيث ترك لنا تراثا حرياً بان ينقل الى الاجيال التالية، ويحيا في مناخاتها، ففي مثل عربي قديم: ان الرجال لفي سجن الى ان يغمرهم الظرف. والمؤرخون يوردون نماذج كثيرة من النكات العربية القديمة يروون بعضها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) ربما كان الوحيد بين الانبياء ممن عرضت في سيرتهم نماذج من النوادر وارباب الظرف. وهو امر متوقع من شخص موهوب بحس شعري مرهف – على حد قول المؤلف-
ان الرجل الفكه لا يملكه الغضب، والنبي (صلى الله عليه وسلم) – والكلام لازال للمؤلف – لم يعرف عنه مطلقا انه انفعل ففقد اعصابه مع كل ما تحمله من التحديات والاساءات… وقد كان ينعم بكثير من الانفتاح والتسامح والتساهل وسعة الصدر.
وكان من شأنه المزاح مع صحابته، يضحك لنوادرهم ويوصي المؤمنين بالمزاح. قال لهم: روحوا القلوب ساعة فان القلوب اذا كلت عميت. وفي حديث آخر جمع بين الظرف والفلسفة، قال: انا امزح ولا اقول غير الحق.
لقد روى ابن قتيبة كيف ان النبي (صلى الله عليه وسلم) بقي يضحك سنة كاملة لاحدى نوادر نعمان المزاح، عندما باع بدوياً رجلاً من الاحرار كعبد. والمؤرخون يصفون النبي (صلى الله عليه وسلم) في مناسبات كثيرة ، يضحك من كل قلبه وبكل جوارحه حتى تظهر ثناياه.
ولقد تجلى روح الظرف عند العديدين من صحابة محمد (صلى الله عليه وسلم) المقربين، كان ابرزهم عثمان بن عفان (رض). فقد روي ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كرمه بطريقة فريدة اذ قال: يدخل عثمان الجنة ضاحكا لانه كان يضحكني. اما كيف اضحكه؟ فربما كان مما روي من ان النبي (صلى الله عليه وسلم) رآه يأكل تمراً وفي احدى عينيه رمد، فصاح به: أتأكل التمر وانت ارمد؟ فأجاب عثمان: انا آكله من الجانب الآخر.
يبد ان عثمان نفسه وقع ضحية لمقلب من منكت هو نعمان الانصاري منكت الرسول (صلى الله عليه وسلم). يروي البيهقي في المحاسن والمساوئ ان نعيمان مر بمخزمة بن نوفل الازهري، وكان رجلا ضريرا فسأله هذا ان يقوده الى مكان يستطيع ان يبول فيه، فأخذه الى مكان في المسجد وما كاد يهم بقضاء حاجته حتى صاح به الناس (يا أبا المسود انك في المسجد)، فسأل من جاء به الى ذلك المكان فقالوا له انه نعيمان، فقال: والله لاضربنه بعصاي هذه ان وجدته. وكان ان اتاه نعيمان وقاله له: يا ابو المسود هل لك في نعيمان فأجاب نعم، فأخذه الى حيث كان عثمان وهو خليفة فانهال عليه ضربا بعصاه.
وفي فصل الظريف وخصائص الظرف العربي، يعرض المؤلف خصوصية بناء النكتة والظرافة المستقاة من المفارقة اللغوية، وهذا الفصل يضم وجبة دسمة من التراث العربي الفكاهي وقد اضيفت اليه الكثير في طبعته العربية نظراً لاستحالة فهم قراء الانكليزية لطرائف مترجمة ومبنية عن المفارقة اللغوية. ومن ذلك طرائف شعرية ونثرية تحولت الى امثال وحكم نقلها المؤلف من شيخ الظرفاء العرب الجاحظ ومن بينها- الاذن تعشق قبل العين احياناً- و- لقد ذهب الحمار بأم عمر فلا رجعت ولا رجع الحمار-.
قصص ونوادر كثيرة، سياسية وغير سياسية، تجعل هذا الفصل من امتع فصول الكتاب، غير ان القارئ سيتوقف من دونما جهد كبير عندما اورده المؤلف فعلاً عن مصادر تاريخية، عن الظرف الذي كانت تتمتع به شخصيات تاريخية تتمتع بالقداسة.
واود ان اقول في هذا السياق انه ليس كل ما ورد في كتب تاريخنا صحيح وكم تمنيت لو تأنى المؤلف فمحص ماقرأه وتناول الامر على روية او على الاقل ثبت المصادر التي نقل عنها تلك المقولات.
الى غير ذلك فالفصل ممتع جداً بما ورد فيه من طرائف سياسية تعبر في الغالب عن نقمة العامة من سطوة السلطان، وتبين كذلك شجاعة العرب في التصدي للحاكم الجائر باسلوب يجمع بين الفكاهة والفطنة:
جاءت بثينة صاحبة جميل وعروس شعره الى الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان في شيخوختها فقال لها:
– لعنك الله، ماذا رأى فيك جميل؟
– ما رأه فيك الناس يوم ولوك امرهم؟
لقد كان عبد الملك متهما بالاستبداد، لكن اخاه معاوية كان موصوفا بالبله كما تشهد عليه النادرة التالية: قيل رأى يوما حماراً يدير حجر طاحون وفي عنقه جرس، فسأل الطحان عن الفائدة من الجرس في عنق الحمار، فقال له: قد يأخذني النعاس فاذا توقف صوت الجرس عرفت ان الحمار قد توقف وكذلك الحجر فأصيح بالحمار فيستأنف الدوران بالحجر.
– وماذا اذا وقف الحمار وحرك رأسه يميناً ويساراً؟
– انَّى للحمار عقل كعقل الامير؟
ويعود المؤلف الى كتاب الجاحظ (البخلاء) ليسلط الضوء على ظاهرة سخرية العرب من الاعاجم حتى ان الجاحظ – يقول المؤلف- استخدم كتابه المذكور كوسيلة للتشهير بالفرس. فالعرب باعتبار تاريخهم الطويل في الجود والضيافة والسخاء رأوا البخل والاعراض عن الضيافة من اقبح خصال المرء. والجاحظ الذي اشاد كثيراً بفضائل قومه العرب، استغل كتابه المذكور لابراز هذه النقيضة في اهل فارس وجعلهم من ابخل اهل الارض.
يروي ان الجاحظ في نادرة عن جماعة من اهل فارس اتفقوا على التخفيف من شدة الظلام في لياليهم باضاءة سراج زيت بالاشتراك، لكن احدهم امتنع عن دفع ما يترتب عليه من ثمن الزيت والفتيل، فكانوا اذا اضاءوا السراج عصبوا عينيه ومتى اطفأوا ليناموا ازالوا العصبة عن عينيه.
وما تناول كتابنا، نوادر لاشهر ظرفاء العالم الاسلامي (جحا)، الذي حظي على شعبية تاريخية كبيرة. ونوادره اصبحت جزءا من تاريخ الوطن العربي الشعبي مكتوبا ومروياً، وقدر لها ان تصبح مصدر الهام احيانا في حقل السياسة المعاصرة. ويمثل جحا كذلك شخصية العاقل الذي يصبح مجنونا او يتظاهر بالجنون ليستطيع التعامل مع عالم مجنون، وليبدو جحا احياناً اخرى خبيثا ووقحاً كما تشير هذه الحكاية:
رافق جحا مرة الوالي الى الحمام فسأل الوالي وليس عليه سوى المنشفة..
– كم تقدر انني أساوي؟
– خمسين ديناراً.
– ويحك ان منشفتي وحدها تساوي هذا المبلغ.
– اعلم ذلك، وعليه بنيت تقديري.
وحكاية اخرى تقول: لاحظ تيمورلنك ان حكام المسلمين يسمون انفسهم المتوكل على الله والمعتصم بالله والمستنصر بالله، فسأله ان يقترح عليه اسما يستعمله، فقال جحا- اعوذ بالله.
ويفرد المؤلف فصلاً كاملاً من كتابه لتوثيق ولادة وتطور الصحافة الهزلية في الوطن العربي ويقدم نماذج كثيرة منها ويعرض لسير روادها وما لا قوه من ويل بسبب سخريتهم من الانظمة الحاكمة آنذاك. فيأتي بشيء من الاسهاب على ذكر الكتّاب والصحافيين العرب الذين وجدوا في التهكم والسخرية من السلطة متنفسهم الوحيد للتعبير عن رفضهم للفساد المستشري في البلاد والمحتل الاجنبي القابض بخناقها. من هؤلاء: يوسف صنوع وعبد الله النديم وابراهيم المويلحي… وغيرهم، هذا بالاضافة الى رسامي الكاريكاتير الذين حققوا شهرة ذائعة كاسكندر صاروخان وصلاح جاهين وجورج بهجوري. ولم يكتفي المؤلف في هذا الفصل بتناول الكتّاب الهزليين بل تناول المعارك الادبية بما حوته من سخرية وهزل، كالمعركة التي نشبت بين زكي مبارك وطه حسين.
كما تناول المؤلف سخرياته عصر التهكم والخيبة، الذي يروي فيه مرارة الشعور العربي بخيبة الامل من الوعود التي قطعت بالامس، فاذا بها هباءاً منثوراً.
ان الانظمة التي طردت الكابوس المخيم على الاقطار العربية (الاحتلال الاجنبي) فشلت بدرجات متفاوتة في تحقيق اماني العرب في بناء وطن واحد يسوده العدل والتكافؤ الاجتماعي، وبالاضافة الى النكات الشعبية التي تعبر عن الحس الجماهيري والتي كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يعتبرها مؤشراً لما يدور في خلد الشعب، فان كثيرا من الطرائف الواردة في الكتاب هي وقائع حقيقية اكثر اضحاكاً من النكات.
ومما تناوله كتابنا من نكات وسخرية ما كان يقال عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان حريصا على سماع النكات التي يتبادلها المصريون، خصوصاً تلك التي تتعلق به شخصياًحتى انه طلب علناً في احدى خطبه- وكان ذلك في الشهور التي اعقبت هزيمة 1967 – ان يخفف الشعب المصري قليلاً من تنكيتهم على النظام ورموزه. لكن المصريون لم يتوقفوا عن التنكيت لا في فترة عبد الناصر ولا في غيرها من الفترات، والسبب في ذلك يرجع فيما يبدو الى ان حالة التدهور من المفارقة بينما كان الناس يسمعونه عن قدرة بلادهم العسكرية وبين الحجم الكبير للهزيمة، أطلق تياراً من النكتة السوداء التي حملت نقداً عميقاً للذات وللنظام ولكل ما قيل قبل الهزيمة.
ومما يحكى بهذا الخصوص، ان جمال عبد الناصر كان يعلم كل ما يقال عنه من نكات وسخرية ويتحمله، لكنه اغتاظ مرة من افراط احد الظرفاء في تلفيق الدعابات غير المستحبة فطلب احضاره اليه واخذ يعاتبه ويسرد على مسامعه بعض ما قاله عنه، وختم عتابه بقوله: تتذكر ولا شك انني انتخبت رئيسا بتسعة وتسعين بالمئة من اصوات الناخبين، فقال الظريف مقاطعاً- اقسم بالله ان هذه النكتة ليست من صنعي.
ومما يرويه الكتاب ايضاً، ان عبد الله السلال الرجل الذي خلع ملك اليمن وأنشأ الجمهورية اليمنية اقام نفسه رئيساً عليها، قصد الى القاهرة للمعالجة من داء البواسير، وقد دخل احد مستشفيات القاهرة المتطورة حيث عولج بالكي الكهربائي، وعندما سأله احد معارفه كيف كانت الجلسة العلاجية، اجاب- اختبار جديد، فقد دخلت الكهرباء دبري قبل ان تدخل جمهورية اليمن.
صحيح ان الانسان حيوان ضاحك، اذ لا يستطيع غيره من المخلوقات ان يضحك ولكن الانسان العربي لا يتداول النكتة السياسية كي يضحك فقط، اذ كم من النكات اقلقت حكاماً واطلقت عناصرها من الامن العام في محاولة للبحث عن مصادرها.
فالنكتة العربية تكتسب في بعض صورها دور المؤشر بالغ الحساسية على حالة المزاج الاجتماعي، اذ انها الابنة الشرعية لهذا المزاج، فهي تولد سراً وتروج سراً فيما اجهزة الاعلام الرسمية تفرد صفحاتها الاولى للاخبار الرئاسية والصور الخاصة للقائد المبجل. وبقدر المفارقة تكون سخرية النكتة، ولانها ذلك كله فان الحكام في كثير من الحالات يحرصون على سماعها حتى في الحالات التي يكونون هم انفسهم موضوعها.
ان النكتة السياسية او الهزل السياسي او الظرف السياسي.. مرحلة راقية من المزاج وظاهرة حديثة النشأة، سواء على مستواه الفردي او على صعيده الجماعي، وحقل جديد من حقول البحث قلما فطن له العرب والظفر بمادة كافية له تصلح للتقييم والتحليل يفرض على الباحث القيام به بغربلة مجموعة ضخمة من النكات والنوادر والحكايات والاشعار التهكمية المنشورة في كثير من المؤلفات والمجاميع. فالنكات والدعايات لم تدون يوماً في الوقت الذي اطلقت فيه. فليس لراويها المتأخر معتمد في استحضارها الا الذاكرة، فهي لذلك خاضعة للتغيير المعتاد الذي يصيب الادب المنقول شفيهاً في تحوله من محدث الى آخر. ذلك ان الرواة كلاً منهم تبعاً لكفاءته وزمانه راحوا يروون ما وصل اليهم على هواهم بل يجرون في ما ينقلون من التعديل ما يحلو لهم بحرية لا تعرف الحدود.
عشرات الامثلة رواها المؤلف في الظرف والظرفاء مما يجعل من العسير على القارئ ان يترك الكتاب، فهو يشده من الغلاف الى الغلاف، وهو نجاح يحسد عليه المؤلف، اولاً لاختياره موضوعاً محبباً للنفوس، وثانياً لصبره وحده في البحث بين هذا المصدر وتلك الوثيقة، ليقدم مادة دسمة وجديرة بالقراءة.
ومن اسباب نجاح المؤلف، التقنية التي اتبعها في التوفيق بين الجد والهزل. فكلما نحا منحى الجد، سارع بالقاء نكتة او ذكر طرفة تبعد عن القارئ أي ملل قد يكون اصابه من مطالعة الجد، خاصة اذا كان الجد مما يثير الحزن.
الكاتب، بائع، بضاعته الكلمة، وكلما اقبل الشارون على بضاعته كلما زاد رصيد منتجها. هذا هو واقع الحال مع الكتّاب الذين وجدوا في الظرف والسخرية والتهكم انجح السبل للنجاح، وهم في نفس الوقت ينفسون عما يعتمل في صدورهم من اكتئاب وحسرة وغيظ.
في كل الحالات … الكتاب جهد قيم بذله المؤلف والمترجم، كما انه ذا قيمة خاصة ونكهة مميزة، لانه محاولة جدية تفتقر اليها مكتبتنا العربية، وان لم يكن المضمون وثائقياً مسلماً بصحته ونرجو ان يكون المؤلف قد حقق هدفه القومي من وراء وضع كتابه بالانكليزية، فيتفهم الغربيون ان العرب مارسوا فن السخرية السياسية منذ فجر الاسلام حتى اليوم، وان كان نجاح هذه الممارسة يتفاوت بين عصر وعصر ومجتمع وآخر.
• الكتاب
السخرية السياسية العربية، تأليف- خالد القشطيني، ترجمة- كمال اليازجي، ط2، دار الساقي، لندن، 1992، 215 صفحة.
[email protected]