ما أشبه مبارك الأمس بمالكي اليوم. ففي يونيو 1992 أصدر “حسني مبارك” أمران رئاسيان. الأول علني قضى بإطلاق سراح جواسيس إسرائيليين. والثاني سري قضى بسجن الفريق “سعد الشاذلي” لمدة “ثلاث” سنوات. وردت المحكمة العسكرية إلتماساً بإعادة النظر في حكمها الغيابي الذي أحاطت به حينها ظروف سياسية. بينما محكمة المالكي وقضاءه وقدره بقيادة (مدحت المحمود) يرد ويرفض ويطعن بكافة قرارات الإستئناف التي حصل عليها الأسرى (قادة المؤسستين العسكرية والأمنية ومنظومته السياسية- حزب البعث-) ويتجه لإعدامهم علناً وسراً بطرقٍ شتى منها سوء المعاملة وتعليق المواجهات وإسعافهم بمنع إستطبابهم وعدم مراعاته كبر سنهم وسوء أحوالهم الصحية. وكما أعفى مبارك عن الجواسيس الإسرائيليين المدانين بتصفية خبراء وكفاءات مصرية- عسكرية ومدنية-، يعفي المالكي اليوم عن العميل والإرهابي والقاتل الدولي (واثق البطاط).
لانعترض على القانون، لكن نعترض على طريقة تنفيذه وعلى منفذيه. ونتحدث للتاريخ:
الفريق الشاذلي كما أقرانه من القادة العراقيين المعتقلين سجلهم حافل بالبطولات، فهو رئيس أركان الجيش المصري، خطط وقاد معركة العبور وتحطيم “خط بارليف” على الضفة المحتلة من القناة، معيداً بذلك لمصر والعرب جميعاً الإعتبار المفقود، إختلف الشاذلي مع الرئيس الراحل “أنور السادات” حول ثغرة “الدفرسوار”، وعكس خلافهما منطقين: منطق المقاتل، منطق السياسي. وانتهى الأمر بتعيينه سفيراً في الخارج، ثم إرتفعت حرارة الخلاف فغدا الشاذلي لاجئاً سياسياً، ثم ملاحقاً بحكم القضاء العسكري بالسجن “ثلاث” سنوات غيابية بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وتشكل تلك الأسرار روايته الأمنية للوقائع في الرد على حملة التشهير ضده. فضل الشاذلي مواجهة السجن بعودته لبلاده. وفي ذات اليوم أعفى مبارك تلبيةً لمهاتفة (إسحاق شامير) عن الجواسيس اليهود الذين بحوزة المخابرات المصرية. وكانا الحدثين على موعد: حدث الإفراج عن الجواسيس، وحدث الحكم على بطل مصر والعبور والكرامة. تصديق الحكم على الشاذلي جاء لإرضاء المشاعر الخاصة لمبارك آنذاك، يوم كان الشاذلي قائده في الجيش. فلقد عرف الشاذلي بشدته العسكرية وقد عانى منها مبارك الكثير. ولم تكن شدة الشاذلي إلا التعبير عن مرحلة التغيير في الجيش المصري الذي فرضه الإحتلال الإسرائيلي والحاجة إلى قدر كبير من الجدية والصرامة والعسكرية.
ثم كشفت فضائح مبارك بعد خلعه أنه قام بسجن قائده السابق- الشاذلي- تلبيةً لرغبة إسرائيل التي لم تكتفي فقط بتحرير مبارك جواسيسها الذين قتلوا خيرة النخب المصرية. فإسرائيل لاتنسى أن قيادة هذا البطل- الشاذلي- قد ألحقت بها أول هزيمة عسكرية. ليس مهماً أن يكون سجن الشاذلي قد جاء تعبيراً عن إجتماع رغبتين: إسرائيلية، وكره شخصي من مبارك. فالمهم أن رسالة قد تم إبلاغها إلى كل عسكري عربي، وكل مقاتل، وكل حر رافض للذل، أن مصير من يقاتل إسرائيل وأميركا وإيران أو يقف في وجههما سيكون مثل مصير الشاذلي وأقرانه العراقيين في سجون إيران والمالكي، وأن ليس أمام العربي إلا الركوع والإستسلام.
أغرب المفارقات أن صوتاً لم يرتفع في مصر أو العراق ممن يسمون أنفسهم بالمراجع يسأل مبارك والمالكي: كيف يجوز إطلاق سراح الجواسيس الإسرائيليين ووكيلهم في العراق “واثق البطاط”، والحكم بسجن الشاذلي، وممارسة القتل البطيء بحق أبطال القادسية الثانية في سجون المالكي السرية. فإذا جاء الجواب: ولكنه القانون، قلنا وإين هو هذا القانون الذي نحترم وقد إتسع بصلاحية العفو الخاص عن الجواسيس اليهود في مصر وعن البطاط في العراق، وضاق مثل هذا العفو عن الأبطال الشاذلي وقادة ملحمة القادسية.
أم هو عنوان المرحلة ورمزها: الحرية للخسيس والجاسوس، والسجن للأحرار والأبطال والمقاتلين.