يحيلنا تعريف الفن ، وفقا للمثاليين، الى معاني ودلالات تتعلق بمجملها باصداء انعكاس المنتج الفني على دواخل الذات الانسانية من غير وعي بالعالم الخارجي، ولا بما يقتضيه من ضرورات ووقائع تتحكم اصلا بالذات ووجودها فيه، والتي تفترض، من منطلقات واقعية، ان يكون للفن معاني ترتبط وتوجه نحو خدمة المجتمع الذي يعيش فيه الفنان، بل كل ماله علاقة بالوطن الذي ينتمي له الفنان المبدع.
فالواجب الوطني، والاخلاقي ايضا، ينادي الفنان، خصوصا في الايام التي تتعرض فيها بلاده لظروف قاهرة او تمر بتحديات تتعلق بكيانها او وجودها، من أجل أن يقدم شيئا من ” فنه ” لبلده كتعبير بسيط عن مظاهر الدعم والوقوف بجانب وطنه وشعبه الذي يدين، بداهة ، بالولاء له والانتماء لاحضانه.
الخبر الذي تناهى لسمعي قبل ايام قليلة، أعادني من جديد الى التساؤل عن العلاقة بين الفنان ووطنه ومايجب ان يقدمه الاول للثاني، اذ أشار الخبر الى اصدار اغنية ثناية” دويتو” للمطربين محمد عبده وكاظم الساهر بعنوان “سر سعادتي” تم تسجيلها، كما أشار الخبر، في استوديوهات “أغاني للإنتاج الفني والتوزيع” في دبي، من الحان خالد ناصر وكلمات الشاعر الشاب سلطان مجلي الذي كتب الاغنية باللغة الفصحى والنبطية، اي الشعر العربي المنظوم بلهجات الجزيرة العربية، وكان الساهر فيها يغني العبارات المكتوبة بالفصحى، اما عبده فكان يغني بالنبطي .
المفاجئة التي حصلت، من المنظور الفني، تكمن في لقاء عبده والساهر لاول مرة في عمل فني على الرغم من العلاقات المتوترة والباردة بينهما والتي تدهورت بسبب رفض واعتذار الساهر عن تأدية اغنية من الحان عبده في مهرجان الجنادرية، وما تبع ذلك من تصريحات نارية بين الاثنين ادت الى حدوث جفاء بينهما ، وهي مفاجئة لاتعنينا كثيرا في هذه المقال ولسنا بصدد التحدث عنها.
اما المفاجئة الحقيقية في هذه الاغنية، والتي تستحق التأمل والوقوف عندها، فكانت تتعلق بمن تم اهداء الاغنية لها، فالكثير من العراقيين يتوقعون ان يغني الساهر وغيره من المطربين للعراق ويقفون مع جيشه وقواته الامنية في ايام القتال ضد تنظيم داعش الارهابي، ولكننا صُدمنا بان اغنية ” سر سعادتي ” كانت مهداة الى ” اميرة اماراتية” تدعى ” فاطمة” هي حفيدة شيخ الامارات الراحل المرحوم زايد بن خليفة.
تقول الاغنية في احد ابياتها التي يغنيها كاظم الساهر:
منصورة بالمجد من منصورها وبعمها وبخالها وجذورها
فالجد زايد ذلك الشهم الأبي ومحمد آل مكتوم فخر سطورها
وللموضوعية اقول بانني شخصيا لم اعرف من كان يقصد الساهر في اغنيته على الرغم من وضوح معنى البيت الشعري اعلاه، حتى تابعت احدى التعليقات المتعلقة بالخبر في احدى الصحف الالكترونية والتي انقلها نصا كما هي:
(بعد السلام يرجى التوضيح رجاءا ان هذا العمل ليس ديو غنائي متاح لكافة الناس اي انه عمل خاص بمناسبة عيد ميلاد فاطمة احدى اميرات الامارات العربية المتحدة وواضح ذلك في الكلمات ذكر جدها الشيخ زايد رحمة الله و الشيخ محمد المكتوم . يعني اغنية مجاملة وليس ديو غنائي بين العملاقين . تحياتي ).
تساؤلات مشروعة واستفهامات حائرة نضعها أمام اي فنان يقصّر امام واجباته تجاه بلده ويتغاضى عن الوقوف معه من خلال التخصص الفني الذي يجيده على الرغم من علمه وادراكه، يقينا، ان هذا هو المطلوب منه، بل اقل مايمكن ان يقوم به لبلده.
ففي حين يترك رجالات الجيش والشرطة والحشد والعشائر عوائلهم وابنائهم ويتوجهون لساحات القتال ويقدمون ارواحهم ونفوسهم الغالية من اجل العراق والعقيدة في صورة رائعة ومشرقة تمثل اعلى درجات التسامي وتجسد اسمى مراتب التضحية، نرى من ناحية اخرى صورا قاتمة، مخجلة ومظلمة لاخرين بخلوا بتقديم اي شيء لخدمة بلدهم برغم قدرتهم على ذلك وعدم وجود مانع للقيام بهذه الخدمة، مع ملاحظة ان لا قيمة حقيقية لما مايمكن ان يقدمه هؤلاء مقارنة بما يقدمه الابطال الذين ينزفون الدم ويقدمون الارواح لبقاء هذا البلد على قيد الحياة.
اي تفسير لهذه الظاهرة التي نجدها لدى الساهر وربما عند غيره ايضا من الفنانين الذي يقبلون تقديم اغاني للاخرين في وقت تجدهم صامتين وصائمين امام وطنهم وشعبهم ؟
هل من سبب وجيه او ذريعة مقبولة او تبرير مقنع يمكن ان يقدمه الساهر عن نسيانه وطنه في هذا الوقت العصيب ؟
وكيف يصف اي فنان نفسه بانه ” عراقي ” وهو يضن بفنه ويتقاعس امام واجباته الوطنية التي تتطلب الاخلاق والقيم، قبل الوطن، ان يقوم بها؟
يقول احد الاشخاص بان الاغنية سوف لن تذاع وستبقى في ارشيف تلفزيون دبي، كما انني لا اتدخل وليس لي علاقة بقرارات الساهر الغنائية، فهذا أمر يدخل ضمن حريته الشخصية وخياراته الفنية التي هو اعلم بها ويتحمل وحده مسؤوليتها ومايترتب عليها ، لكن مع هذا ، اجد ان عدم تقديم الساهر اي عمل فني سيجعله في مرمى الادانة والنقد بسبب عدم وقوفه مع وطنه في هذه الايام التي يسجل فيها رجالاتنا الابطال سفرا خالدا من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء، ويقدمون دروسا مكتوبة بالدم لكل الاجيال اللاحقة التي ستقف بعجب ودهشة امام رجال سيكتب التاريخ عنهم بعد ذلك ماتعجز الكلمات الان عن التعبير عنه او وصفه .