23 ديسمبر، 2024 2:35 ص

الساحة الثقافية العراقية تشهد انبثاق عقلية نقدية خطيرة

الساحة الثقافية العراقية تشهد انبثاق عقلية نقدية خطيرة

أقول بثقة وبلا تردّد ان الساحة الثقافية العراقية قد شهدت عامي 2018 و 2019 وبحدود متابعتي المتواضعة ظهور عقلية عراقية علمية نقدية جدلية تاريخية (وأؤكد على السمات الخمس السابقة لهذه العقلية) اسمها الدكتور “عبد الرضا حمد جاسم” الذي لم أتعرف عليه شخصيا حتى اليوم ، وبرغم ما قد يجده البعض من اختلافات مع طروحاته وهو أمر متوقع في العمل العلمي والثقافي وخصوصا في مجال العلوم الاجتماعية والنفسية التي – وحتى يومنا هذا – لم يتفق علماؤها على الكثير من أسسها المنهجية والبحثية ومسلماتها الفكرية.
وحين أستخدم صفة “انبثاق” فلأنني – وقدر تعلق الأمر باهتمامي العلمي – قرأتُ الحلقة الأولى من سلسلة “الراحل الدكتور علي الوردي في الميزان ” للدكتور عبد الرضا حمد جاسم في مركز النور – 22 شباط 2018 بصورة مباغتة وبلا مقدمات للدكتور عبد الرضا في هذا المجال البحثي وكأنه – بالنسبة إلي – قد انبثق من الفراغ. ثم سار الأمر صعوداً عبر سلسلة “ما هكذا نقدّم انتحار شباب العراق” ووصولا إلى الحلقة الأولى من سلسلة “المخدرات في العراق – مناقشة مع أ.د. قاسم حسين صالح (1) – صحيفة المثقف – 17 آب 2019) بل وفي السلاسل السياسية البارعة عن الاحتلال الأمريكي للخليح ورسائل إلى الزميل جون كيري والصديق أوباما وغيرها ، وجدتُ إن هذا الجهد الهائل والمضني الذي يبذله الدكتور عبد الرضا حمد جاسم في مناقشة الأسس المنهجية للتفكير العلمي في العراق هو واحد من المفاتيح الأساسية لإشادة الأسس العراقية العلمية النقدية الجدلية التاريخية للبحث العلمي الفردي والمؤسسي. ومن المؤسف أن مثل هذا الجهد التغييري الجذري الذي سوف يشمل أسس العقلية والقيم السلوكية العلمية أيضا يمضي بلا ردود أفعال فكرية نقاشية تتناسب مع أهميته ، وقد حصل هذا ويحصل للأسف مع جهود باحثين ومفكرين عراقيين آخرين منهم على سبيل المثال لا الحصر ومع الاحتفاظ بالألقاب : عبد الجبار الرفاعي و ميثم الجنابي وصالح الطائي وعلي الربيعي وعلاء اللامي وماجد الغرباوي وصائب خليل (والأخير اتحفنا اليوم بمقالة قصيرة لكنها “مفتاحية” فكريا ومركزة ومكثفة أدعو السادة القراء لقراءتها وعنوانها : “هل فشل العلماء المسلمون حقاً باكتشاف حجر الفلاسفة؟” – صحيفة المثقف – 17 آب 2019) .. وغيرهم الكثير وعذرا من الأساتذة الأفاضل الآخرين بسبب ضيق المجال.
قد يقول قائل إننا نعيش في مجتمع (لقد أسمعتَ لو ناديت حيا) لكن هذا حال كل فكر جديد وفي تواريخ كل المجتمعات حيث مواجهة الفكر الجديد بالتغاضي وقلة الاهتمام خصوصا حبن يستفز هذا الفكر الجديد ويهدّد البنى القائمة التي – وللأسف – استراح لها الباحث والجمهور في وسطنا الثقافي العراقي على حدّ سواء كما ذكر الدكتور عبد الرضا بدقة في مقالته الأخيرة.
ومن الأمثلة المهمة من تاريخنا الثقافي في العراق على المواجهة السلبية للأفكار الجديدة هي حالة المفكر الراحل الدكتور علي الوردي. فحين بدأ الدكتور الوردي نشر طروحاته الفكرية الصادمة اشتعلت حساسية الجمهور تأييدا ورفضا ، إيجابا وسلبا ، وبصورة هزّت أركان الحياة الثقافية العراقية آنذاك. فلماذا تخمد الروح النقدية العلمية لدى المواطن العراقي بشكل عام والمثقف العراقي بشكل خاص في أيامنا هذه وخصوصا تجاه هذه الطروحات التنويرية المهمة؟
تصاعدت الحملة ضد الدكتور الوردي لتصل ذروتها في “تكفيره” ومحاولة الاعتداء عليه. صار بعض خطباء الجوامع في بغداد يعلنون يوم الجمعة إن المفسدات ثلاث : الميسر والخمر وأفكار علي الوردي. وقد وصلت هذه الحملة الذروة في “جلسة التكفير” حسب التسمية الموفقة للشيخ “جواد الخالصي” شيخ المدرسة الخالصية أطال الله في عمره ووفقه لخدمة هذه الأمة بعقليته المتفتحة التي لمستها مباشرة أنا والباحث اللامع الأستاذ سلام الشماع حين زرناه في شقته في دمشق عام 2011 للحصول على معلومات مهمة عن الكفاح الفكري للعلامة الوردي بصفته – أي الخالصي – شاهدا حياً ، وقت كنّا – الأستاذ سلام وأنا – نعد لإصدار كتابنا المشترك المهم “الازدواجية المُسقطة: محاولة في تحليل شخصية الدكتورعلي الوردي” (صدر في دمشق عن دار الينابيع عام 2012 وسوف يصدر قريبا في بغداد عن دار الورشة) والذي كان محاولة جريئة رأى فيها البعض – كالعادة وكما هو متوقع – انتقاصا من شخصية العلّامة الراحل الوردي. حدّثنا الشيخ جواد الخالصي عن جلسة التكفير هذه التي أمر بها جدّه المرجع العلامة الشيخ محمد مهدي الخالصي شيخ المدرسة الخالصية في الكاظمية وجدّ الشيخ جواد ، وجرت في ساحة المدرسة الخالصية وحضرها جمهور غفير بينهم عضو في مجلس النواب حاول تأجيج الهجمة وركوب الموجة لأسباب انتخابية كما يقول الشيخ جواد الخالصي. كتب لنا الشيخ جواد بخط يده ورقة عن هذه الجلسة عنوانها “جلسة التكفير” نشرتُ نصّها في كتابي (علي الوردي عدو السلاطين ووعّاظهم) الصادر عن دار ضفاف في بغداد عام 2013. قال الشيخ الخالصي في الورقة إن الجلسة بدأت بعد صلاة العشاء واستمرت حتى صلاة الفجر وكان فيها الوردي جالسا منفرداً على كرسي أمام الجمهور الكبير الثائر يرد على أسئلتهم بل اتهاماتهم الحامية بكل هدوء وشجاعة ولم يتراجع عن أيّ من أفكاره على الإطلاق وانتهت الجلسة دون اتفاق ـ فرأى الشيخ محمد الخالصي أن الوردي سوف يتم الاعتداء عليه إذا خرج وذهب إلى بيته بمفرده ، ولهذا “طلب منّا” والكلام للشيخ جواد “أن نوصل الوردي إلى بيته لضمان سلامته” من الدهماء المتحمسين. فتم توصيل الوردي إلى منزله حيث انتقل بعدها هو وعائلته إلى منطقة النواب لتلافي ردود الفعل السلبية في الحي الذي كان يسكنه.
ومن وجهة نظري الشخصية أعتقد أن واحدا من أهم الأسباب التي تجعل الكثيرين يتغاضون عن تناول طروحات الدكتور عبد الرضا النقدية المهمة هو فقدان أو ضعف “العقل النقدي” لدى المواطن العراقي قارئاً وكاتبا بشكل عام. وأعتقد أن السبب الرئيسي في ذلك هو عدم تربية هذا العقل من خلال الفلسفة. في الدول العربية التي زرتها والتي تدرّس الفلسفة في مدارسها لاحظت المستوى العالي للعقل النقدي والروح النقاشية والثراء اللغوي لدى المواطن هناك. انظر إلى المواطن التونسي والمصري أو السوري العادي حين يتحدث من شاشة التلفاز في البرامج الترفيهية العامة وقارنه بحديث المواطن العراقي العام ستجد حديث الأخير عمومياً وغير مخصص ومليء بالعبارات الاطلاقية والنسب المئوية الجزافية ويشكو من فقر الخزين اللغوي الواضح ممثلا بتكرار مفردات لازمة مثل “يعني ..” وغيرها عشرات المرات. إنها دعوة للنظر بجدية إلى موضوعة تدريس الفلسفة في مدارسنا. وقبل أيام قرأتُ عدة مقالات بالانكليزية عن ضرورة تدريس الفلسفة للأطفال وراجعت عناوين عشرات المقالات عن هذا الموضوع وكيف أن بعض البلدان الغربية تدرّس الفلسفة لتلاميذ قسم من المدارس الابتدائية.
إن عدم وجود ردّ فعل نقاشي واسع لطروحات الدكتور عبد الرضا حمد جاسم متوقع أيضا في حالنا الراهن حيث تدهور البنى والمظاهر العقلية المؤسساتية والجماهيرية وغرق المواطن في تفاصيل الحياة اليومية الخانقة وتدويخه المتعمد في ما هو قشري من الأفكار والنزعات والصَرَعات وانحسار الدور الطليعي للمثقف العراقي بل أكاد أقول هزيمته .. والحديث يطول ، ولكن الاستمرار والمثابرة العزوم من جانب الدكتور عبد الرضا في الطرق على هذه الطروحات والإصرار على إغنائها بالأفكار المتجددة واحتضان المثقفين الخُلّص المؤمنين بدورهم القيادي التنويري الثوري في مجتمعاتهم لهذه الطروحات والأفكار التغييرية البنّاءة ومناقشتها بروح علمية هادئة هو واحد من أهم العوامل في نشرها وتحقيق التأثير المرجوّ منها.
وما أتمناه مخلصاً هو أن تستمر هذه الطروحات وتتسع لتناول ظواهر فكرية أخرى في حياتنا بالإضافة إلى أفكار الراحل الدكتور علي الوردي وموضوعة الانتحار ومعضلة المخدرات كمظاهر لما يراه د. عبد الرضا ابتعاداً عن أسس التفكير العلمي (وفي رأيي أصلا عن “المنطق” الفلسفي).
ومن المؤكد أن رعاية منظمات ثقافية لهذه الطروحات وعقد الندوات حولها ونشرها بطرق مختلفة لإشاعة تناولها من قبل الجمهور هو عامل مهم آخر.
وأخيراً ، أرجو أن تتسع دائرة النقاش المهمة هذه بعيدا عن دائرة التجريم والاحالات القانونية لأننا عن هذا الطريق نجهض هذا المشروع نفسه في خطوته الأولى من خلال التكميم السلطوي الذي يئد الفكر ويرهب الأرواح وحيث لا ينتعش الفكر إلا في ظل الحرّية .. والحرّية في أبسط وأدق تعريفاتها هي “الحياة بدون قلق”.
ثم أختم بالعبارة الخالدة للإمام علي عليه السلام والتي ذكرها د. عبد الرضا أيضا في مقالته الأخيرة:
“لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه”
والله من وراء القصد.