23 ديسمبر، 2024 5:35 م

الزيارة الاولى لبغداد

الزيارة الاولى لبغداد

بغداد شتاء 2003
اشرعت الحدود ابوابها. السماء والصحراء تحرسان البلاد، وصلتُ بغداد، وجدتها  ترسم ضحكة يشوبها الحزن والفرح معاً، منهكة، كأنها أرملة، تنوح وتبكي مما خلفه الديكتاتور بها. صورة ابو تحسين الذي ضرب صورة الرئيس بالحذاء لا تزال عالقة في ذاكرتي.
صعدتُ السيارة من عمان الى بغداد،. وصلتُ البيت الذي احتجت إلى شيء من الوقت لأستدل عليه. كل شئ تغير بعد عشر سنوات، المدينة وملامحها.
بعد وليمة عراقية دسمة أسهبت بالحديث عن سنوات المنفى. امطرني أهلي بوابل من الاسئلة وكان اخرها “بشرفك أحك لنا عن اللجوء” قالها أخي وهو يشرب بيبسي كولا، “أريد أن اسافر إلى هولندا، كيف وصلت إلى هولندا”؟ سحبتُ نفساً طويلاً من سيكارتي. كل الانظار تتوجه نحوي، عليً إذن أن أستعيد عشر سنوات خارج البلاد: “من اليمن إلى عمـّان، ومنها إلى موسكو، ثم براغ. وسط ظلمة حالكة عبرت الحدود التشيكية إلى ألمانيا مشياً على الاقدام، نمتُ اياما معدودة في أحدى الحدائق العامة خائفا من الشرطة الالمانية. جوع، برد، خوف، صعدتُ القطار، عبرتُ الحدود، وصلت أمستردام.”

هكذا اختصرت حكاية السنوات الصعبة.. هل يمكنني أن أسرد لأخي كل شيء؟ كل الخيبات والسعادات العابرة.. راحت ذاكرتي تستعيد ذلك اليوم الغريب الذي أعقب وصولي إلى أمستردام.. التهمت سندويجا باردا من الجبن الهولندي، شربتُ عددا لابأس به من البيرة الهولندية اللذيذة في حر الصيف، تسرب مفعول البيرة في جسدي. ثملٌ أنا، منتشيا أمشي وحدي في المدينة المجنونة المبتهجة كأنها مراهقة ذاهبة الى حفلة، أرى وجوها لا أعرفها، اتطلع الى النساء. “أنت فين والحب فين” أمشي وادندن مع الاغنية التي انبعثت من أحد المطاعم العربية. العرب في كل مكان. قطعت الشارع مرات عدة، خائفاً من الدخول في الشوارع الفرعية، أنظر في وجوه المارة علني اعثرعلى صديق قديم يصادفني ويستضيفني.

كنتُ أظن أنني ما إن أصل إلى مركز اللجوء حتى أجد فرصة للعمل في إحدى الفرق الهولندية واصبح نجما مسرحيا مشهورا، وألتقي بامرأة جميلة.. تعشق الشعر والمسرح والمطر.. تلك المرأة التي كنت أصادفها في صفحات الروايات والمسرحيات الأوربية. أحلام!!
 
لا شئ معي سوى ورقة صغيرة جدا ملفوفه كأنها حرز أحتفظ بها في مكان سري بملابسي، فيها عنوان لطبيب عراقي يسكن في مدينة روتردام، أخرجتُ الورقة من مكانها السري، فرحت كثيراً وأنا أنظر اليها كأني ربحتُ ورقة اليانصيب. انها المنقذ الوحيد في هذا البلد الغريب الجديد، قرعتُ الباب، طردني هذا العراقي، صرتُ وحدي في الشارع لا أحد معي، مزقتُ عنوانه ورميته في الارض، ثم بصقت. مشيتُ وحدي، أتذكر وقتها بكيت، مشيتُ كثيراً لا أعرف إلى أين كنتُ ذاهبا؟ أمشي وأردد أغنية المطرب الكبير داخل حسن :”يمه يايمه” ما نمت ليلي أوف…. أهنا يايمه. وكفه على حيلي، هذا اليمر عليك”

وتنفيذاً لوصايا “خبراء اللجوء” رميتُ ما تبقى معي من عملة هولندية في سلة المهملات. وصلتُ مركز الشرطة وقلت لهم بانكليزتي العراقية، أنا لاجئ، أريد أن أبقى هنا في هولندا. أعطوني عنوان مكان اللجوء، وتذكرة للقطار، بعد عناء طويل وصلت المكان.

“خمس سنوات في انتظار ورقة بليدة اسمها الإقامة.. أم عن اللغة اللغة الهولندية  التي عذبتني ولا تزال.” خيم صمت حزين على الجلسة.. سقطت علبة الكولا من يد أخي المنذهل والراغب بسماع المزيد.. لكنني غيرت الموضوع..

بدأت أنا بطرح الاسئلة عليهم عن احوالهم واحوال البلاد. قال أخي الاكبر:” بعد السقوط تغيرت صورة العباد والبلاد، كل شئ تغير، تعصب ديني أعمى، زادت مظاهر التدين والشعارات الدينية، وانتشر الحجاب، واللحى عند الشباب، كثرت الخرافات والاساطير، هاجرت أهم العقول خارج البلاد، الصورة أصبحت قاتمة، فوضى، عجز عن فهم ما حدث وما يحدث من نهب وسلب وسرقة. قاطعه أخي الصغير ساخراً: “لكننا نسخر من الالم بالضحك عليه، نمزح كثيرا ونأكل أكثر، صار عندنا ستلايت، موبايل، وكومبيوتر”. واكمل أخي حديثه:” نحن نخاف من الحرب الاهلية يا أخي، كما نسمع بين الحين والأخرعن قطاع الطرق، خطف سائق وركابه على طريق الاردن، في الكيلو 160. قال أخي الاخر: “نحن نخشى من القاعدة أن تتسلل في بلدنا، والبعثيين أن ينهضوا من جديد”.

نهضتُ من مكاني متوتراً، صعدت السطح، حاولتُ أن أستعيد أنفاسي، أشعلتُ سيجارة وأتكأتُ على سياج السطح مغمض العينين، متذكراً أيامي في اكاديمية الفنون الجميلة، اللحظات الجميلة، وزميلتي الطويلة الجميلة التي كانت مُشتهاة من قبل الجميع، في حفلة التخرج كان “ظ” قواد عدي صدام حاضرا  حاول أن يستدرجها أو يغويها لكنها قاومت بصمتها ثم هروبها من الحفلة للبيت .محاولاته الغبية أفسدت علينا متعة الرقص والبهجة، أنهزمت هي وانسحبت أنا مكسوراً، خائفا.
اعادتني الذاكرة كثيراً إلى الوراء.. الرفاق واللون الزيتوني، الايام الصعبة حين كان يستجوبني مدير آمن الكلية، في غرفتة في الطابق الثاني في عمادة الكلية. متذكراً صديقي”علي” الذي أخذوه من معهد المعلمين في بغداد وأعدموه، أخي الذي مات في الحرب سهواً، أمي وحزنها الأبدي، معسكر الطلبة في منطقة “العظيم”، اختفائي من رجال الشرطة والجيش الشعبي حين كنتُ هارباً من الجندية “فرار”، وايام سجني في أمن صدام، وهروبي من العراق بجواز سفر مزور إلى عمان. شربتُ كاساً من العرق العراقي المغشوش، بصمت بكيت على نفسي والبلاد ثم نمتُ حزيناً.

 شارع المتنبي
أول ما فكرت به هو زيارة هو شارع المتنبي، ” أراك يوم الجمعة” قال لي صديق عزيز، “بعد عشر سنوات من الغياب، أراك في شارع المتنبي ياله من موعد خيالي؟” اجبته.
كان صباحاً مشرقاً، في شارع المتنبي، تجولتُ كثيراً، متصفحا الوجوه، التقيت أصدقاء قدامى وجددا. أنظر في الكتب والمجلات على رصيف الشارع ، كتب مكدسة فوق رفوف المكتبات بعيدة عن عين الرقيب. تبادل التحايا والقبلات مع الاحبة والاصدقاء. “الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح القرطاس والقلم “جاء هذا الصوت من صاحب أقدم مكتبة في شارع المتنبي “نعيم الشطري”. ألقيت عليه التحية ومضيت.

جاء صديقي متأخرا اكثر من نصف ساعة متعذراً بالازدحام. ونحن نمشي بأتجاه مكتبة “محمد الفلفلي” ثم أكمل: “شارع المتنبي تغير كثيراً، حتى نهر دجلة تغير ليس كما تركته ياصاحبي”. خرجنا بعدها إلى ضفاف دجلة، شممتُ رائحة السمك. قطع علي صديقي افكاري وتأملاتي قائلاً:” أنا مدمن على زيارة شارع المتنبي، هذا العشق الذي لافكاك منه، بل انه طقس اسبوعي يبدأ من سوق السراي وينتهي في اتحاد الادباء ساحة الاندلس ببغداد” .
حين هدنا التعب أكلنا الكبة مع الطرشي في بداية زاوية شارع المتنبي، بعدها جلسنا في مقهى الشاهبندر أرتشف الشاي وأتطلع إلى الناس، وجدران المقهى وأذوب في الصور القديمة للفنانين. غادرنا المقهى .

ودعتُ صديقي والأحبة، تركتُ شارع المتنبي ورائي وأنا غارق في ذكريات الكلية وأصحابي، أمشي وحدي أحب المشي. عبرت جسر السنك، اخاف من التنقل بين الزحام، مر قربي مجنون بملابس رثه يلعن ويشتم السلطة، لكن لا أعرف أي سلطة يقصد؟! امرأة كبيرة السن تحمل قنينة غاز على رأسها، طفل يبحث في القمامة، شرطي المرور يتثاءب بجانب عمارة الاتصالات التي لازالت مثلومة مثل أحلام موظفيها، رأيتُ بيوتا مهدمة، أشتريت قنينة ماء للشرب،.صعدت التاكسي باتجاه البيت، بلغة لا تكاد تخلو من البراءة قال لي السائق:” أكيد أنت شيوعي لو تعيش خارج البلاد؟” وانا أرى نصف وجهه وهو منهمك بالسياقة، قلتُ له لا هذا ولا ذاك.

قال لي بعد بعد صمت طويل :” كل الذين يعيشون خارج العراق لا يشربون الماء من الحنفية”. تذكرتُ حينها أحد الاصدقاء الفنانين  المسرحيين في حانة اتحاد الادباء قال لي وأنا في طريقي إلى التواليت ” أهلا بك أيها المسرحي المغترب، نحن نشرب الماء الوسخ وأنتم تشربون الماء النظيف، وأعادها بصيغة اخرى ميكم حلو مينا وسخ، نحن لم نغادر البلد أنتم تركتونا”. واصل السائق حديثه بلغة درامية مخيفة عنيفة ودموية وهو يشن هجوما عنيفا على الامريكان ومن جاؤوا معهم على ظهور الدبابات.. حسب تعبيره. شعرتُ بالضيق من أحاديثه وأرائه السريعة البسيطة الساذجة. اوقف سيارته في محطة الوقود دون استئذان مني، فرصة لأن استعيد انفاسي، جاء صوت من خطيب الجامع في الجهة المقابلة: وعظ نصائح وتهديد. وأنا أنظر من النافذة الى الشارع، قرأتُ عبارة كُتبت على الحائط بخط مرتبك “فك يو امريكا”.
في اليوم التالي كنتُ على موعد مع مشهد تاريخي وسريالي أيضاً.. اختلطت فيه تراجيديا الماضي بكوميديا الحاضر..  لقد قبضوا على صدام حسين.. وعلى شاشة التلفاز بدا “الرئيس” مستسلما لجندي أمريكي يفحص اسنانه..
مشهد كهذا لا بد أن نحتفل به جماعياً.. تجمعنا في المسرح الوطني، رقصنا كل انواع الرقص، تعبت من الفرح والرقص، رجعت إلى البيت فرحاً مستلقيا على الاريكة أفكر بالحشرة التي كانت تمشي على السقف في صالة بيتي في أمستردام، ولحظة القبض على صدام. مستلقيا على الأريكة أحلم بالعودة إلى أمستردام.

فنان مسرحي عراقي يقيم في هولندا