17 نوفمبر، 2024 3:51 م
Search
Close this search box.

الزمن الجميل

الطيبة والحنان تكاد أن تكون صفات متلازمة لأغلبية العراقيين. يحنون إلى الماضي ويحبون الأرض ولا يغادرون الذكريات بسهولة. بل ويعيش العراقي في الغالب في ذاك الماضي الذي ما زال ينتمي إليه أكثر من الحاضر.
ذكريات الزمان والمكان تحنو علينا أحياناً كما تحنو الأم على أبنائها. الأيام الخوالي تمور بين أضلعنا وأحيانا كثيرة تكون كالبحر الهائج في أمواجه والتي تلاطم سواحل بحورنا. ما أن تأخذنا سنة من النوم حتى تجدد الذكريات نفسها أمام أنظارنا وتثقل مخيلتنا، بل ونسافر فراداً إلى ذاك الماضي التليد حتى تغط أعيننا في نوم شبه مريح. سرحات وشطحات كلها بتأثيرات الماضي الذي يأبى الرحيل.
اختلف الشعب العراقي في تسمية الماضي. منهم من يطلق عليه تسمية (الزمن الجميل) ويخاطب أناس تلك المرحلة بـ(جيل الطيبين) ومنهم من يعارض الفكرة تماماً. جماعة (الزمن الجميل) يستندون في ادعائهم هذا على كل جميل عاشوه في تلكم الفترة، منها عنفوان الشباب وكنف العائلة التي جمعتهم تحت أجنحة حنان الأم وخيمة الرحمة للأب. إنهم يحنون للمكان الذي لعبوا فيه معاً وهم أطفال وكل ما أحاط بهم من الحوادث المحزنة والمفرحة. حتى لو رحلوا في أصقاع الأرض فإن وطأة الذكريات والحنين إلى الماضي بكل تفاصيله الحلوة والمرّة تسافر معهم وليس لهم الخلاص منه. وإن حلّو في أرض وأقاموا الفردوس هناك، فهم تحت تأثير أفيون الذكريات وما حنين الفتى أبداً إلاّ لأول منزل.
فئة أخرى من العراقيين أسدلوا الستار بمحض إرادتهم على ذاك الماضي والذكريات الموروثة عنه. أنهوا المرحلة بكل تفاصيلها وهم يتحججون بظلم النظام البائد وسطوا الحزب الواحد. لا يرون منها إلاّ المآسي والويلات والآهات التي كانوا يستنشقونها والحروب. يرون الماضي مليئاً بالخرافات التي ظللهم بها النظام. خرافة الوحدة العربية والتأميم والغضب الساطع آت والثورة الفلسطينية والمقاومة وما إلى ذلك من الكلمات الرنانة التي لم تكن إلاّ ضرباً من الخيال. زمن طويل هدر من أجل لا شيء سوى تطفل السلطة على دم شعوبها.
هكذا تجد أن الفريقين متضاربين في وجهة النظر إلى الماضي. تباين الآراء هذه واضحة للعيان وكلٌّ يغني لليلاه.
الماضي وإن كثرت مآسيه، إلاّ أنها فترة رحلت وأخذت معها كل شيء ومنها الذكريات الجميلة. أنا أحن للماضي أيضاً وأستذكر منه أبي وأمي وأخوتي. أستذكر اللمّة الحلوة على مائدة الطعام والحديث البريء. أستذكر أبي وهو يأتي إلى البيت بعد يوم عمل طويل. أمي التي كانت تعد لنا ما لذ وطاب دون أن نكد ونسعى ونتعب. أبي وأمي كانوا مصداً للرياح العاتية التي كانت تطير القبعة من رؤوسنا. كانوا يحموننا من كل النوائب ويسرون قلوبنا. كانت ضربات الحياة لا توجعنا كما اليوم ونحن على مهب الريح.
لم نكن نحمل هم العمل والكسب الحلال لنشبع بطوننا. كأن أبي كفيلاً لأن يأتي لنا بكل ما تتمناه أنفسنا. كان أبي كالمارد الذي يخرج من مصباح علاء الدين ليقول لك (شبيك لبيك أنا بين يديك) ثم يأتي بلبن العصافير إن تطلب الأمر ذلك.
الأسواق والشوارع والأزقة والمحلات التي كانت تضم بيوتاً مفتوحةً أبوابها للجيران. أناس يأكلون مع بعضهم البعض ولا يفرقون بين الأفراد وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
هكذا ذهبت الأيام بحلوها ومرها وها نحن نجمع أمتعتنا لنلحق بها اليوم أو غداً أو بعد غد ونتحول إلى مجرد ذكريات كأسلافنا.
ويظل الماضي جميلاً بحلوه ومره وتبقى الذكريات ناقوساً يدق في عالم النسيان.

أحدث المقالات