23 ديسمبر، 2024 6:32 ص

الزبالات الورقية ومحاولة اعادة صياغة العقول

الزبالات الورقية ومحاولة اعادة صياغة العقول

انتشرت في عموم العراق بعد 9/ نيسان/ 2003، دور نشر صغيرة مجهولة المرجع، همها الاول نشر الخراب الديني والفكري عن طريق التعامل مع نوعية من الكتب والمنشورات الدينية، حيث ركزت على اعادة طبع بعض النصوص القديمة ونشرها كما هي، من دون ان تتناولها اقلام المحققين، ولم يهذبها عمل باحث، خرجت للناس بحروفها القديمة بذات التبويب الذي ظلت تطبع به منذ عقود من السنوات.
وبعد ان كانت هذه الكتب محدودة التوزيع، تحولت في فترة ما بعد 9/ نيسان، فترة اختفاء المجلات الجادة وغياب الكتب الهامة، الى مصدر وحيد للثقافة، لذلك أقبل على قراءتها (بعض) الجامعيين، والمتعلمون والمثقفون.. فأعادت صياغة عقولهم بطريقة جديدة تماماً. وتمكنت في اقل من عشر سنوات ان تنسج حائلاً منيعاً بينهم وبين العصر، جعلتهم بشكل او بآخر ضد منجزات العلم، لأن العلم خرافة وتدجيل وسحر، وجعلتهم يكرهون الحياة السياسية باطارها الحزبي، لأن الحزبية لعبة غربية (صليبية) مكشوفة، هدفها ابعادنا عن تراثنا وقيمنا…
تمكنت هذه الكتب، صغيرة الحجم عظيمة التأثير من اعادة بناء خلايا التفكير داخل الجيل الجديد، خصوصاً ابناء الجامعات التي سيطرت عليهم جماعات شبه مسلحة، جاهزة لتكفير اي انسان يفكر بطريقة مختلفة عن سلوكياتها واساليبها.
والذين نقلوا هذه النصوص وطبعوها ووزعوها، لم يهتموا بتأثيرها السلبي، فقد حولت العقيدة الى مجموعة متناثرة من النصوص والادعية والمواعظ والحكم، سحبت من جوهر العقيدة موقفها الواضع من قضايا التخلف والعلم والعدل الاجتماعي.
واغلب هذه الكتيبات، تم طبعها في عصور ازمات مرت بها الحياة الاسلامية، عكست صفحاتها ملامح هذه الازمة. والذين نشروا هذه النصوص كان هدفهم ابعادنا عن الجوهر، وتركيز جهودنا على القشور وحدها.
ونتيجة لعوامل الاضطراب السياسي والانقلابات الفكرية التي تمت في عقود عربية وعراقية ماضية، فأن بعض دور النشر المعروفة شاركت للأسف بدورها في ترويج مثل هذه الاصدارات دون ادراك لخطورتها على عقل الشباب بالذات، فعملت مؤسسات كان لها صبغة عقلية وعلمية على نشر مؤلفات مضادة للعلم وروح العصر، تنقل افكاراً غريبة، تساعد على الغاء العقل والترحيب بالخرافة.
وساعدت الحياة الجامعية المجهضة اليوم، على رواج هذه المطبوعات الغريبة، فقد عانت مؤسساتنا الجامعية بعد 9/ نيسان، من غياب صريح للفكر العقلاني، والتيارات التجديدية، فعندما ياهاجر (س) و (ص) و (…) وغيرهما من رموز الاستنارة، تتحول الجامعة الى سرداب او تكية، عبارة عن كراسات ومحاضرات ودروس توعية (تخلفية).
في هذا المناخ اللا اكاديمي يغيب وضعها الريادي والتنويري، تتحول لمؤسسات تدعم القمع الفكري، واذا كانت الجامعات عندنا قد نهضت نهضة وطنية خلال عقد السبعينات، وشهدت قاعاتها عقول طلابية خلاقة، فان الضربة المضادة نجحت في نزع هذا الجيل المتمرد، طاردته خفافيش الكواتم، ولاحقته ظروف لقمة العيش التي تحولت لعامل طرد في غاية القسوة، دفعت اغلب ابناءه للمنافي يبحثون عن مورد للرزق والامان، ومن اختار منهم المكوث في الداخل اجهدته الملاحقات الامنية والاجتثاثية والتصفيات الوقائية…
تعمل مؤسساتنا الجامعية الآن على ترويج هذه المطبوعات، فالجيل العراقي الجديد من الشباب، وجد امامه قيادات جامعية مسطحة الفكر، تلهث وراء السلطة، وتمارس دوراً ذيلياً، يعمق التبعية، ويقتل دور الجامعة كطليعة مستنيرة تقود الحياة الفكرية والعلمية الى الامام.
وبعد ان كان طالبنا الجامعي العراقي يتغذى على كتب التنويريين العرب اصبح يطالع كتب الادعية والمأثورات (العنكبوتية) وبعض كتيبات الفقه القديمة الخالية من الاجتهاد، والتي تمت كتابتها في عصور الهزيمة، وهيمنة القوى الاجنبية، وفي ظل قوات الاحتلال العسكري والسلطوي…
مضمون هذه الكتب الصفراء لا يشجع تعليم البنات ولا يرى دوراً للمرأة في ظل المسيرة الاجتماعية، فصوت المرأة عورة، وهي كائن ناقص عقل ودين وتدبير، لذلك قمعها مطلوب وضروري لتكون الحياة سوية سليمة.
وبجانب هذه (العنكبوتية) المعادية للحياة ذاتها، والمضادة لجوهر العقيدة، وأصولها، ازدهر الفكر التكفيري وراجت الكتب التي تكفر المجتمع وتطالب بالابتعاد عنه لانه مجتمع كافر، لا يحكم بما امر به الله.
هذه النصوص وجدت الطريق الى الشباب، لم تتعرض لها اي جهة رقابية او سياسية او اعلامية، وقد شجع اعلام الحكومة وصحفيها ترويج هذه المطبوعات (العنكبوتية). فقد تصورت الحكومة – قاصرة النظر ومتخلفة الفكر- ان الهاء الشباب بقراءة ومتابعة هذه المطبوعات هو افضل الطرق لحمايتها من الافكار الوطنية التنويرية الخلاقة التي هبت بينهم تطالب بالعدل الاجتماعي وبمحاربة الفساد والجهل وبناء الدولة على اسس عصرية.
شجعت الحكومة التخلف وهذا اللون من المطبوعات بشكل او بآخر، دعمت هذا الاتجاه، اعتقلت وطاردت  وقمعت خلال العشر سنوات الاخيرة الشباب الذي رفض الاحتلالات الاجنبية لوطنه… وخرج في الشوارع يطالب بالديمقراطية الحقيقية والحرية وبحق الجميع في المعرفة والتنوير والحياة الراقية…
اصبحت الساحة العراقية اليوم خالية، فكتب (المتخلف) و (الجاهل) تطبع عشرات المرات، ومؤلفات (الدجال) عن النجوم وقراءة الطالع، تطبع وتروج بالالاف، ومنحت بعض مؤلفي هذه (الزبالات الورقية) جريدة ومنبراً يخاطب من خلالها الناس، بينما جماعات سياسية اخرى لا تقرأ (البخت) ولا تفهم في قراءة (الطالع) تطاردها القوانين السيئة السمعة المضادة لفكرة التعددية الفكرية والعقلانية التنويرية.
ان تلك الاساليب، هي جذور ما يحدث الآن، الذي يراه البعض غير مفهوم كأنه نبت شيطاني برز فجأة على سطح الاحداث.وما جرى في عصور الانحطاط الاسلامية، يتكرر عندنا هذه الايام بالطريقة نفسها، وبذات الخطوات.  فالحكومة (الغبية) واحدة، وسلوكها متشابه، وهي عندما تقع في ازمة مثل تلك التي تهددها الآن، تتحدث كثيراً عن الارهاب الذي يهددنا، بينما تأمل تاريخها وممارستها، تبين انها هي التي مارست اعنف اشكال الارهاب، وهي التي ساعدت على نمو كل الحشائش الضارة التي تركتها تلتهم كل شيء، وعندما وصلت اليها صرخت باعلى صوتها تحذرنا من (اخطبوط) الارهاب. طبعاً بعد فوات الأوان.
[email protected]