عندما يتوفر ظرف انساني سليم وعادل فمن المؤكد سيكون ذلك عاملا جوهريا في خلق انسان سوي في مشاعره ومواقفه ازاء نفسه وازاء العالم المحيط به،وإذا ما حصل العكس،ووجد نفسه معزولا ً في بيئة مُعدَمةٍ من ابسط الشروط الانسانية التي تحترم آدميته،عندها ستكون الفرصة ملائمة لأن يولد بين احضان هذه البيئة افراداً إنْ لمْ نقل جماعات واجيال تحمل مِن الكراهية والحقد مايهدد امن ومستقبل المجتمع .
الإهمال صفة دائمة للريف
الرّيف في العراق كان دائما مُهملاً لمْ يحظى بأي اهتمام من قبل الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921،إذ لمْ تصله الخدمات الادارية مِن صحة وتعليم وكهرباء ورفاهية،كما هو الحال في المدينة،رغم ماتعانيه المُدن هي الاخرى مِن نقص كبير في الخدمات،ومع هذا فالمقارنة لاتصح بين الاثنين طالما البون كان شاسعا بينهما والفوارق كبيرة،مع أنَّ المدينة ـــ وهنا تكمن المُفارقة ـــ مازالت تعيش على خيرات الريف وجهد الفلاحين،لانها لمْ تستطع أنْ تنهض بدورها الاقتصادي الى الحد الذي تكون فيه قادرة على ان تخرج من طور المُستهلِك الى طور المُنتج،عندما عجزت عن تأسيس قاعدة مادية صناعية تتمكن من خلالها في أن تلعب دور المنتج.
بقي الريف مُستَغَلاً مِن قبل المدينة دون أن تقدِّم له المدينة في المقابل ما يستحقه من ثمن مقابل جهد وعرق ابنائه مع انهم يعيشون ظروفاً وخدمات سيئة جدا.
كان هذا الوضع عاملا جوهريا حتى يصبح الريف هدفا سهلا لكل من يريد تصفية حساباته مع الدولة والحكومات سواء كانوا زعامات او احزاب،وحتى الانظمة الحاكمة نفسها استثمرت هذه البيئة المحتقنة بالغضب بسبب ماتعانيه من اهمال لتصفية حساباتها مع خصومها،فغالبا ماكانت تلجأ الى استمالة ابناء الريف لهذا الغرض،وحتى سلطات الاحتلال الاجنبية التي سيطرت على العراق من سلاجقة وصفويين وعثمانين وبريطانيين ومِن ثمَّ اميركان، لعبوا جميعا هذا الدور مع ابناء الريف من أجل ضرب القوى التي تناهض وجودهم ومصالحهم،ومن الطبيعي أن يكون ثمن هذه المهمة أموالا واراض وسلطة كبيرة تمنح لزعمائهم،بهذا الصدد يذكر الكاتب حنا بطاطو في كتابه الشهير(العراق)بأجزائه الثلاثة،وخاصة الجزء الاول منه الذي يتناول فيه فترة مهمة من تاريخ العراق تمتد من منتصف القرن التاسع عشر مروراً بسقوط الدولة العثمانية ودخول القوات البريطانية وتأسيس الدولة العراقية وحتى نهاية العهد الملكي.في هذا الجزء يورد المؤلف امثلة عديدة حول الدور الذي اوكل الى ابناء الريف من قبل السلطات التي حكمت العراق ــ العثمانيين والانكليز ــ مُدعمة بالوثائق التي تؤكد حصول زعمائهم على مساحات شاسعة جدا من الاراضي ثمناً للدور الذي كلفوا به .
الانظمة العراقية والريف
الحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم العراق لم تخرج عن ممارسة هذا الدور الانتهازي مع الريف العراقي في مقابل اهماله خدميا وتعليميا وصحيا، وما زاد الامر تعقيدا عندما بدأ صدام حسين في مطلع ثمانيات القرن الماضي الاعتماد على ابناء الريف بشكل واسع جدا،خاصة بعد أن نشبت الحرب العراقية الايرانية في عام 1980 وبدأ يستشعر ان المعركة ستطول وتحتاج الى مقاتلين،من هنا جاءت سياسته التي فتح فيها الابواب واسعة لابناء الريف لكي ينخرطوا في القوات المسلحة والاجهزة الامنية وسلمهم قياداتها،واجزل العطاء لهم بأموال وأراضٍ وبيوت داخل المدن الكبيرة حتى انهم باتوا يشكلون يوما بعد آخر حضورا مجتمعيا قويا فيها،وبذلك بدأوا يتركون اثرهم
العميق والسلبي في الكثير من ظواهر مجتمع المدينة عبر غرس عاداتهم القبلية التي باتت تتسلل شيئا فشيئا لتكتسب المدينة طابعا مُتريِّفاً بمرور الزمن في مقابل انحسار القيم والمظاهر المدنية .
مابعد الاحتلال الاميركي
الفترة التي اعقبت سقوط نظام البعث في 9/4 /2003 وما خلفته من غياب شبه تام لسلطة الدولة وانهيار مؤسساتها،زادت من هيمنت الريف على المدينة من بعد أن وجد الاف الضباط والقادة الامنيين من ذوي الاصول الريفية انفسهم مطرودين من وظائفهم فانخرط عدد كبير منهم في صفوف الجماعات المتطرفة،وبات الريف يشكل الخزين الاساسي الذي يمدها بالمقاتلين،وقد ساعد على ذلك جملة العوامل التي اشرنا اليها،مضافا لها مشاعر الغضب التي تراكمت في نفوس القرويين بعد أن اصبحوا بين ليلة وضحاها مطرودين من سلطتهم فاقدين لها.
من خلال مراجعتنا للاسماء التي تم اعدامها في الموصل خلال شهر آب من هذا العام 2015 من قبل تنظيم دولة الخلافة الاسلامية(وصل عددهم الى 5000 شخص)نجد أن معظمهم ينتمون الى سكان مدينة الموصل وليسوا من ابناء القرى والارياف.
قد يقول البعض بأن هذا الرأي يحمل من التطرف اكثر مما يحمل من العقلانية في التفسير والتحليل،لربما يكون هذا البعض محقاً في رأيه فيما لو تجاهلنا الظرف والحالة الخاصة التي نحن نتحدث عنها، فنحن لانستطيع أن نتجاهل الحاضنة الكبيرة التي وجدها تنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم الخلافة في الريف،ولولا هذه الحاضنة لما استطاع ان يتوغل ويتمدد على مساحة واسعة تصل الى نصف مساحة العراق(الموصل وصلاح الدين والانبار وديالى )ويزداد عدد المنضوين تحت جناحه حتى اصبحوا يعدون بالاف.
إن الذين اعدمهم التنظيم ليسوا فلاحين ولارعاة اغنام،إنما يشكلون الطبقة المدنيّة التي كانت القاعدة الجوهرية في بناءالعراق الحديث منذ تأسيس الدولة
العراقية،غالبيتهم يحملون صفة اطباء ومدرسين ومهندسين وتجار وموظفين وكتاب وصحفيين ومصورين، ينتمون الى عوائل موصلية تعيش وتنتمي الى مركز المدينة،الى شوراعها وجامعاتها ومقاهيها ومسارحها وامسياتها الثقافية واشعارها واغانيها،هولاء هم الذين وقفوا ضد قوى الارهاب،فكانت وقفتهم واضحة الى جانب الوجه المدني للمدينة وليس الى اي عنوان آخر.
المدينة والتعايش
الموصل/المدينة كانت ملاذا لمكونات دينية وعرقية متنوعة ومختلفة من مسيحيين ومسلمين وايزيدية وكورد وشبك،تتعايش مع بعضها جنبا إلى جنب وبينهم علاقات يومية انسانية مشتركة،لم يكن من الممكن ان تتواجد مثل هذه الفرصة من العيش والتفاهم الانساني في بيئة مثل الريف اعتادت على ان يعيش فيها من هم ينتمون الى ملة واحدة،وليسوا من اعراق واديان وطوائف مختلفة كما هو الحال في المدينة،فكانوا كلهم ينتمون لها ويفخرون بانتمائهم إليها، والشعور بالانتماء للمدينة المتحضِّرة كان قويا جدا لدى الجميع،لذا لم يكن من السهل القبول بفكرة أن يكونوا متواطئين مع من يريد تشويه هويتها المدنية ،كما حاول أن يروج الاعلام الطائفي المهيمن في العراقي تبرير عملية سقوطها بأيدي سلطة دولة الخلافة في 10 /6 / 2014 وتحميل سكانها مسؤولية ذلك وابعاد الجيش عن هذه المسؤولية بعد أن فرّ هاربا دون يقاتل.
ماجرى في الاعوام العشرة الاخيرة بعد الاحتلال الاميركي للعراق قدم لنا الكثير من الادلة على ان معظم الذين انخرطوا في التنظيمات الارهابية وتورطوا فيها كانوا من اصول قروية ــ قيادات وقواعد ــ والقليل منهم كان ينتمي الى المدينة. وشهادات النساء الايزيديات الناجيات من قبضة تنظيم الخلافة كما جاءت في كتاب صدر حديثا 2015 عن مطبعة خاني في دهوك للكاتب خضر دوملي وعنوانه(الموت الاسود،مآسي نساء الايزيدية في قبضة داعش)تشيرعلى أن معظم الشخصيات المتورطة في عمليات بيع وشراء الايزيديات في الموصل هم من ابناء الريف،الذين ينتمون الى القرى التابعة
للأقضية والنواحي التابعة للموصل،أبرزها(تلعفر،الشورى،القيارة،البعَّاج، الشرقاط ،ربيعة).
هذه الحالة تستدعي السؤال عن الاسباب التي تدفع ابناء الريف لأن ينخرطوا بسهولة في مثل هذه التنظيمات وتجعلهم وقودا لحرق مدنهم وبلدانهم.
من المؤكد أن التعليم يلعب دورا اساسيا في نضج الموقف الذي يختاره الفرد ،فالجهل سلاح فتاك يسحق الانسان،اضافة الى بؤس البيئة وافتقارها الى الخدمات الانسانية بالقياس الى المدينة.
كل هذه العوامل مجتمعة من الممكن أن تؤجج في ذات الانسان مشاعر الاحتجاج والغضب والحقد والكراهية لتمتد في داخله حتى تصل حدود تدمير محبته لوطنه،طالما قد تسبب في حرمانه من العيش بشكل يليق به كأنسان،وكرس سياسات التمييز بينه وبين ابن المدينة فألحق به ضرراً نفسياً جعله أشبه بقنبلة موقوتة قابلة للأنفجار في اية لحظة .