لطالما احتلت الرموز الدينية وما يرتبط بها من طقوس وشعائر ، صدارة الأهمية في مضمار الممارسات السياسية بشكل خاص وفي ميادين النشاط الاجتماعي على وجه العموم . ليس لأنها عنصر حيوي من عناصر المنظومة الثقافية ومكون فاعل من مكونات بنية الوعي الاجتماعي فحسب ، وانما لخطورة دورها في هرمية النسق القيمي للمجتمع المعني ، وجسامة وظيفتها في تعبئة سيكولوجيا الحشود كذلك ، وهو الأمر الذي حدا بالامبراطور(نابليون) ذات مرة ليعلن استغرابه حين قال (( كيف تقوم للنظام قائمة في دولة بلا دين ؟ )) . وحيال هذه الحقيقة الجوهرية لاينبغي أن نحمل الرأي الذي مؤداه ؛ ان هذه الظاهرة هي من خصائص المجتمع العراقي دون سواه ، وانها تمارس سحرها على نمط تفكيره بطريقة ميثولوجية خارقة وغير مألوفة ، مثلما هي عند الشعوب الأخرى على محمل الجد ، وذلك بواقع صيرورته التاريخية المتسمة بتعدد أديانه وتنوع طوائفه . بل هي صفة عامة مشتركة تدلل على طبيعة الاجتماع الانساني ، وتعكس نمط القضايا والاشكاليات التي تأسر تفكيره وتثير تأملاته ما بين المعنى الانطولوجي والمغزى الميتافيزيقي ؛ ابتداء من الرموز الطوطمية في المجتمعات البدائية المندثرة وانتهاء بالرموز الدينية في المجتمعات الحديثة المتحضرة . ولعل هذا الأمر دفع بالروائي الفرنسي الشهير (بودلير) الى القول (( بأن العالم ما هو الا غابة من الرموز )) ، الا انها على صعيد التجربة الغنية والمعقدة في نفس الآن ، حين تلامس الواقع العيني وتحتك بالمكونات الحية ، لا تفتأ أن تأخذ أبعادا”مختلفة وتتفرع باتجاهات متباينة ، بين هذه الجماعة أو تلك بين هذا المجتمع أو ذاك ، ان من حيث الاتساع الأفقي أو من حيث العمق العمودي ، تساوقا”مع مستوى التطور الحضاري في مرحلة تاريخية معينة ، ودرجة النضح العقلي والارتقاء المعرفي الذي أحرز في اطارها . وعليه فان مسألة تأثير الرموز الدينية على مسار الممارسات السياسية في المجتمع العراقي ، وانعكاس ذلك على مستقبل خياراته الوطنية ، سوف لن تكون بذات الايقاع الملتبس الذي كنا نسمع عنه ونقرأ حوله في السابق ، من حيث طبيعة العلاقة الراكدة والحراك التقليدي بين حقول الدين ومجالات السياسة ، بل سترتهن – اعتبارا”من هذه اللحظة التاريخية الحرجة والقلقة – هذه بتلك عبر جملة من المعطيات الايديولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتظافر تارة وتتنافر تارة أخرى ، بحيث تتراوح الاحتمالات ما بين انبثاق وعي سياسي / عقلاني يغمر تضاريس العقل العراقي ويعمق أخاديده الديموقراطية ، أو يحصل العكس ، باتجاه نكوص عناصر الأول وتقهقر مقومات الثاني . بمعنى ان المعادلة ستكون على النحو التالي : كلما تجذرت مظاهر الوعي الديمقراطي وترسخت ثقافة المشاركة وتفتحت قنوات الحوار ، كلما تضاءل شأن الرموز الدينية وضعف تأثيرها في رسم معالم المستقبل لأي نشاط اجتماعي وبالعكس . على انه تجدر الاشارة الى ان هذا الاستنتاج النظري لا ينبغي أن يفضي بنا تأويله الى تقليل شأن العامل الديني في حياة الانسان الروحية وتقليص أثره في تأطير وعيه وتشكيل معتقداته . لا بل ان هذا العامل سيحظى بكامل قيمته وينال أقصى اعتباره ، كلما ترسخ الوعي النقدي وتفشت المعرفة الانسانية ، لاسيما وان تنوع الرموز الدينية (أشخاص ، أفكار ، مؤسسات) قمين بجعلها أقرب الى الجانب الاجتماعي منه الى الجانب الاعتقادي ، والا فقدت طابعها الرمزي وانسلخت عمن يمحضها هذه القيمة المتعالية . وهنا تتضح أمامنا مخاطر لجوء البعض ، ممن يفتقر برنامجه السياسي الى فكرة الواقعية في التعامل مع الشأن الاجتماعي والعقلانية في تقييم أبعاده ودراسة مضامينه ، عبر تسييس الرموز الدينية في الخطاب السياسي المؤدلج ، والتعويل عليها في نيل مطالبه الفئوية وتحقيق أهدافه الحزبية ، دون أن يعي حقيقة ان ممارسة هذا الضرب من السلوك الشاذّ ، كفيل بالحاق الضرر وايقاع الأذى ليس فقط بالخطاب السياسي والمنهاج الفكري للتيار المعني أو الحركة المقصودة ، اللذان ينتهجان هذا المسلك الملتوي فحسب ، وانما توجيه الاساءة الى الرموز الدينية ذاتها كذلك ، وبالتالي الاستهانة بالمنظومة الاعتقادية للمجتمع بأسره . والحقيقة ان توظيف الرمز الديني في العمل السياسي ، على خلفية احياء الآمال بقدوم المنقذ أو كمثابة لميلاد المخلص ، غالبا”ما يتم في لحظات المحنة الاجتماعية والضائقة الاقتصادية والفوضى السياسية ، فاذا ما انفرجت أسارير المجتمع وازيحت أسباب معاناته وتعبدت سبل طموحاته ، انتفت الحاجة الوظيفية لتلك الرموز وأصبحت من رصيد تراثه الروحي وذخيرة عقله الباطن . ولهذا فنحن نعتقد بأن تأثير الرموز الدينية في بنية الوعي للانسان العراقي وخضوعه لجبروت سلطانها على أنماطه السيكولوجية ، سيرتهن بالكيفية التي يعالج بها هذا الانسان المنتهك ، حزمة مشاكله الاجتماعية المتراكمة وتخطي فرشة أزماته السياسية العالقة ، ليس بعيدا”عن تلك الرموز أو تجاوزا”لها ، ولكن بتحييدها سياسا”، وعقلنتها حضاريا”، واستيعابها ثقافيا”. اذ ليس من مصلحة الشعب العراقي ككل ، لا حاضرا” ولا مستقبلا”، زجّ الرموز الدينية في تقرير شكل النظام السياسي الذي ينشده ونمط الدولة التي ينوي بنائها . ذلك لأن طبيعته السوسيولوجية وخصائصه الانثروربولوجية ، حتمت عليه ان يشتمل ، بالاضافة الى مجموعة من القوميات المتآخية ، على طيف متنوع من الأديان والطوائف المتآلفة التي لكل منها رموزها المميزة ومرجعياتها الخاصة ، مما يستتبع أن يكون الخيار الديمقراطي قائم ليس فقط على ثوابت المشاركة السياسية والانفتاح على الآخر فحسب ، وانما اعتماد التفكير بطريقة عقلانية وبناء العلاقات على أسس حضارية .