14 سبتمبر 2025 10:50 م

الريف داخل المدن العراقية: ظاهرة تقوّض مستقبل الدولة

الريف داخل المدن العراقية: ظاهرة تقوّض مستقبل الدولة

رغم أن العراق يزخر بمدن عريقة تمتد جذورها إلى آلاف السنين مثل بغداد والموصل والبصرة، إلا أن المتأمل في الحياة اليومية داخل هذه الحواضر سرعان ما يلحظ حضورًا قويًا لمظاهر الريف والبادية في السلوك الاجتماعي والعلاقات الإنسانية وحتى في أنماط العيش. هذا التداخل بين روح المدينة وإرث الريف لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مسار طويل من التحولات السكانية والاقتصادية والسياسية التي شهدها العراق خلال القرن الماضي. فالهجرات الداخلية الكثيفة، وتراجع الطبقة الوسطى المدينية، وضعف مؤسسات الدولة، جميعها أسهمت في إعادة تشكيل ملامح المدينة العراقية على نحوٍ جعلها أشبه بمرآة تجمع بين المدنية الحديثة من جهة، وامتداد البداوة والريفية من جهة أخرى.

منذ منتصف القرن العشرين (خصوصًا بعد خمسينيات وستينيات القرن الماضي) شهد العراق موجات نزوح ريفية كبيرة نحو المدن بسبب الفقر، البطالة، التصحر، وانهيار البنية الزراعية. الوافدون جلبوا معهم عاداتهم الريفية والبدوية، من أنماط اللباس والأكل إلى أساليب حل النزاعات (العشائرية مثلًا). مع ضعف قدرة الدولة على “دمجهم” في ثقافة المدينة، بقيت هذه المظاهر حيّة وفاعلة، مهيمنة على النسيج الاجتماعي.

بغداد والموصل والبصرة ومدن العراق الأخرى كانت تتميز بطبقة وسطى مثقفة، مدنية، تقود الحياة الثقافية والسياسية. الحروب والعقوبات والهجرة منذ ثمانينات القرن الماضي، أدت إلى تفكك هذه الطبقة، وبقيت الفئات الشعبية الأكثر تمسكًا بجذورها الريفية والعشائرية، وصارت المهيمنة على المجتمع المدني، مما أعاد صياغة الحياة في المدن وفق منطق الريف والعشيرة.

لم تنجح الدولة العراقية الحديثة في ترسيخ ثقافة مدنية جامعة تتجاوز الولاءات والهويات الفرعية. ومع انهيار القانون والخدمات العامة، عاد الناس إلى التمسك بالعشيرة والروابط الريفية باعتبارها ملاذًا يوفر الحماية والهوية، وهو ما عمّق الطابع غير المدني في سلوكيات المدن.فمع انهيار القانون والخدمات، عاد الناس إلى العشيرة والقرية في التفكير كملجأ للحماية والهوية. بدلاً من بناء مؤسسات حديثة قوية، وبقيت الدولة عاجزة عن فرض القانون والثقافة المدنية، ما ساهم في ترسيخ عقلية الريف والبادية داخل المدينة.

العراق تاريخيًا بلد “تداخل بين الريف والمدينة”، فالمدن ليست معزولة، بل كانت دائمًا محاطة بأرياف ترفدها بالمنتجات والعمالة. حتى البغداديين الأصليين مثلاً، كثير منهم ينحدر من قرى قريبة (من ديالى، الكوت، الحلة…). هذه الروابط جعلت الحدود بين بين الريف والمدين مرنة، وسهلت استمرار تأثير الريف في حياة المدن. على خلاف مدن عربية أخرى مثل بيروت أو القاهرة التي تأثرت مبكرًا بالتمدن الحديث، تعمقت في العراق الروح الريفية نتيجة عقود من الانغلاق والحروب.

بدل أن تجرفه موجة العولمة نحو “التمدن”، أعادت الظروف السياسية والاقتصادية إنتاج الريف داخل المدينة نفسها.المدن العراقية ليست مدنًا “صافية” بالمعنى الغربي، بل هي فسيفساء هجينة تجمع بين سمات الريف والمدينة والبادية في آن واحد. ولهذا لا يبدو غريبًا أن ترى البغدادي يرتدي أرقى الأزياء العصرية، لكنه في لحظة أزمة يعود إلى شيخ عشيرته طلبًا للنصرة، أو أن تكتشف في قلب العاصمة عادات وأعراف قروية صِرفة لم تتغير كثيرًا عن مثيلاتها في الريف.

إن استمرار طغيان المظاهر الريفية والبدوية في المدن العراقية لا يمثل مجرد مسألة اجتماعية سطحية، بل هو عامل عميق التأثير في مسار الدولة والمجتمع ومستقبل العراق برمته. ويمكن تلخيص أبرز هذه النتائج في النقاط التالية:

هيمنة الولاءات العشائرية والريفية تحجب سيادة القانونوتضعف الولاء للدولة كمؤسسة جامعة، وتُبقي القانون عاجزًا أمام العُرف العشائري. هذا يعرقل بناء مؤسسات رصينة قادرة على فرض سيادة الدولة.

عندما تكون العشيرة أو القرية أو الطائفة أقوى من فكرة “المواطنة”، تتراجع الهوية الوطنية الجامعة، فيتحول المجتمع إلى فسيفساء متناحرة بدل أن يكون كيانًا موحدًا.

الذهنية الريفية تميل إلى الاقتصاد المعيشي والاستهلاكي أكثر من الإنتاج الصناعي والخدمي الذي تحتاجه المدن. وهذا يحدّ من قدرة العراق على بناء اقتصاد حضري متطور قادر على المنافسة.

نقل تقاليد الثأر وحل النزاعات بالقوة من الريف إلى المدينة جعل العنف جزءًا من الحياة اليومية في بغداد وغيرها. وهذا يعمّق هشاشة الأمن المجتمعي، ويغذي دوامة العنف السياسي.

بقاء الأعراف الريفية والبدوية داخل المدن يعيق انتشار قيم مدنية حديثة كالمساواة بين الجنسين، وقبول الاختلاف، واحترام الحريات الفردية. وهو ما يُبقي المجتمع متأخرًا عن ركب الحداثة.

بدل أن تكون المدن العراقية منارات للعلم والثقافة كما كانت تاريخيًا، صارت في نظر الكثيرين مجرد تجمعات سكانية ضخمة يغلب عليها الطابع العشائري، وهو ما أفقدها جزءًا كبيرًا من بريقها الحضاري.

إن سيادة الريف والبادية داخل المدن العراقية لا تعني مجرد “تنوع ثقافي”، بل تمثل تهديدًا استراتيجيًا لمستقبل الدولة الحديثة في العراق. فبقاء المدن رهينة أنماط الريف والعشيرة يجعلها عاجزة عن لعب دورها الطبيعي كمحركات للحداثة والتنمية والاستقرار.

لم تكن ظاهرة تغلغل الريف والبادية في المدن العراقية نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية فقط، بل ساهمت الحكومات المتعاقبة بدور خطير في إذكاء هذه النزعة وتعميقها، بدل أن تعمل على معالجتها. فقد اتبعت السلطات المتوالية، منذ قيام الدولة العراقية الحديثة وحتى اليوم، سياسات قصيرة النظر جعلت من العشائرية والريفية أداة بيدها لتثبيت حكمها وضمان ولاءاتها. ويمكن تلخيص هذا الدور السلبي في المحاور التالية:

عوضًا عن ترسيخ مؤسسات الدولة الحديثة، لجأت الحكومات إلى استدعاء العشائر ومنحها امتيازات مادية ومعنوية لضمان ولائها. فكان شيوخ العشائر بمثابة “أذرع” للسلطة، يستعملون نفوذهم لضبط المجتمعات المحلية مقابل مكاسب شخصية.

في كثير من القضايا، تغاضت السلطات عن تطبيق القوانين المدنية، وسمحت للأعراف العشائرية بأن تكون المرجع في فض النزاعات. وهذا أضعف ثقة المواطن بالدولة، ورسّخ فكرة أن “العشيرة أقوى من القانون”.

بدل دعم النخب المدنية والطبقة الوسطى التي كان يمكن أن تقود مشروع تحديث حقيقي، جرى التضييق عليها عبر سياسات اقتصادية قاسية، وحروب مدمرة، وإقصاء سياسي، مما أفسح المجال لتضخم النزعات الريفية على حساب المدنية.

من الأنظمة الملكية والجمهورية وصولاً إلى ما بعد 2003، استُخدمت البنية العشائرية كأداة لتصفية الحسابات السياسية وتثبيت الحكم. وهكذا تحولت العشيرة من مكوّن اجتماعي طبيعي إلى أداة للصراع السياسي.

بدل أن تُطرح مشاريع وطنية عابرة للهويات الفرعية، كرّست الحكومات عقلية الانقسام بين المدينة والريف، وبين العشيرة والدولة. بل إن بعض السلطات وجدت في هذه الانقسامات وسيلة لضمان بقائها، لأنها تمنع تشكّل كتلة مدنية موحدة قادرة على مساءلتها.

لقد لعبت الحكومات العراقية المتعاقبة دورًا أساسيًا في إعادة إنتاج “الريف داخل المدينة” وتسويقه كأداة حكم. فبدل أن تكون الدولة مشروعًا لتجاوز البداوة والريفية وبناء مجتمع مدني حديث، تحولت إلى راعٍ للعشائرية وساعٍ لتوظيفها سياسيًا. وهو ما جعل المدن العراقية تفقد دورها التاريخي كحاضنات للتمدن والتجديد، وتتحول تدريجيًا إلى فضاء مختلط يغلب عليه منطق الولاءات التقليدية.

إن مستقبل العراق لن يتجه نحو الاستقرار والحداثة ما لم يُكسر هذا التحالف غير المعلن بين الدولة والعشيرة، وما لم تُستعاد للمدينة العراقية هويتها كحاضنة للتجديد والمعرفة.”

أحدث المقالات

أحدث المقالات