حين وصل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر الى الاردن عام 1997 ، سكن في غرفتنا البسيطة والتي تفتقر الى ابسط مقومات العيش الكريم . ولعل فترة طويلة من الزمن كفيلة بمعرفة الكثير ما كنا لا نعرفه عن شاعر التزم الصمتوابتعد عن الاضواء إلا ان نصوصه ظلت تجوب الفضاءات وتخترقها وهي متوقدة بجمرة الشعر . وعادة ما نجلس في النهار في مقهى السنترال برفقة أصدقاء كثيرين ، ومن خلال لقائي اليومي بالشاعر والسكن معه في غرفة واحدة تمكنت من اكتشاف المزيد من خفايا سيرته في معترك الثقافة على مدى اكثر من ستين عاما ما بين جنوب العراق وعاصمته بغداد وموسكو . وفي صباح ذات يوم كان المرحوم القاص غازي العبادي يجلس في شرفة المقهى حيث جاء عمّان قبل حسب الشيخ بشهر او اكثر , وقد سألني عنه قلت له : انه في البيت , بعد فترة قصيرة استأذنته في الذهاب الى صندوق البريد لأرى ما وصل من الرسائل لي ولأصدقائي , وما ان فتحت صندوق البريد حتى وجدت برقية قادمة من بغداد , مضمونها يقول : ( الى حسب الشيخ جعفر , احضر حالاً لمجلس الفاتحة على روح زوجتك , ام نؤاس ). كانت البرقية لا تحمل عنوان صندوق البريد العائد لي ، كانت معنونة الى غاليري الفينيق والذي هو عنوان الشاعر منذ اول يوم وصل فيه عمّان , ولحد الان لا اعرف كيف جاءت تلك البرقية على عنواني البريدي بالخطأ ؟ بقيت متأملاً كيف لي ان ابلغ الشاعر بوفاة زوجته التي تركها في بغداد مع ابنائه . عدت ادراجي الى مقهى السنترال وتمعنت في الامر جيداً , فليس امامي غير غازي العبادي والذي هو اقرب شخص لحسب الشيخ جعفر. فهم ابناء مدينة وقرية واحدة واصدقاء طفولة ودرسوا معاً في موسكو فترة الستينات حيث معهد غوركي . فلما قلت له بالامر انتفض واراد الصراخ الا انني هدأت من روعه وانزلني مسرعاً الى الشارع قائلاً لي هل تعرف مكان سكن حسب الشيخ ؟ قلت: نعم , قال : فلنذهب اليه على الفور , وفي الطريق اتفقنا بعد ان فكرنا كثيراً في كيفية وقوع الخبر عليه وهو مازال في نومه والساعة كانت العاشرة صباحا , واتفقنا على ان نقوم بابلاغه بعد الساعة الخامسة عصراً سوف نجتمع جميعاً عند مائدة البياتي في غاليري الفينيق ولسوف يقوم البياتي بتلك المهمة كونه اكبرنا سناً . وما ان طرقنا باب الغرفة على الشاعر حتى فز من نومه مرعوباً وكأنه يعلم ثمة شيء ما ؟ وحين فتح الباب وشاهدنا قال لنا اهلاً , وقبل ان يكمل صرخ غازي العبادي باكياً بقوة ومعانقاً حسب الشيخ جعفر! قائلاً له البقاء في حياتك أخي يا ابا نؤاس ! قال الشاعر مندهشاً : بمنْ ؟ قال له زوجتك ام نؤاس , في تلك الاثناء جلست انا على الاريكة وهم واقفون في جل المأساة , قلت لغازي العبادي بعد ان اخذ حسب الشيخ يفكر وحده في الامر , ما هكذا كان الاتفاق يا ( ابا ضفاف ) . قال لا يا ابني انت لا تعرف ماذا يعني لي حسب الشيخ جعفر ! لم ينطق حسب بكلمة واحدة بعد ان افرغ غازي العبادي ما بقلبه , فقد اشعل سجارته ويده ترتعش من شدة الصدمة التي باغتته وهو يضع خطواته الاولى في المنفى , ثم التفت لي وسألني عن صحة الخبر , وبعد ان تيقن انه حقيقة . ظل يتأمل كثيراً , ذلك انه اعتقد انها خدعة من مؤوسسة النظام العراقي لكي تعيده الى بغداد ! خاصة ان حميد سعيد ظل يلح عليه كثيراً في العودة وعدم الانخراط في المعارضة قبل سفره من بغداد . ذهبنا الى مركز المدينة وقمنا بالاتصال في بغداد وقد تأكد صحة الخبر , لكن اولاده قالوا ان العزاء انتهى منذ ثلاثة ايام فلا داعي لمجيئك !
لقد مّر هذا الشاعر بايام صعبة حقاً الا انه كان اقوى منها واستطاع ان يتغلب عليها بالرغم من ظروفه المادية السيئة . وشاءت الاقدار ان يكتب الشاعر الاردني يوسف ابو اللوز مقالاً في صحيفة الدستور الاردنية ( ان من المخجل على وزارة الثقافة الاردنية ان يكون في ضيافتها شاعر بحجم حسب الشيخ جعفر يسكن في غرفة بائسة في جبل الحسين ) وبعد يوم من نشر المقالة جاءنا الى الغرفة عبد الله حمدان رئيس تحرير مجلة عمّان الثقافية قائلاً ان امين عمّان الاستاذ ممدوح العبادي وهو بدرجة وزير سوف يقوم بزيارة الشاعر بهذه الغرفة عصراً , وبالفعل جاء السيد ممدوح العبادي امين عمّان وجلس في غرفة الشاعر حسب الشيخ لساعتين سائلا عن اوضاعه . ومن خلال الحديث تبين ان امين عمّان يعرف الشاعر منذ الستينيات حيث كان يدرس ايضا في موسكو , كانت صدفة اثلجت قلب امين عمّان في حينها. وقد تحدثت الصحافة الاردنية عن هذه الزيارة الأولى من نوعها والتي يقوم بها مسؤول اردني رفيع المستوى لشاعر عراقي . وبينما تنثال المواجع على الشاعر, فقد ظل ينزف شعراً يومياً دون ان يدري حتى انه في اقل من شهر اكمل مجموعة شعرية . وقد انجز حسب الشيخ جعفر اكثر من ثلاث مجاميع شعرية وكتب في الترجمة والنثر خلال فترة مكوثه في العاصمة الاردنية عمّان , ومازال عطاءه يتدفق بشكل كبير من خلال ما كان يكتبه بشكل مستمر ومازال ، وبعد كل هذا العطاء الثري لشاعر كبير بحجم حسب الشيخ ظل مواظباً على ابداعه في الشعر والترجمة حتى بعد أن غادر العديد من اصدقائه الى المنافي الواحد بعد الآخر وما أن سقط النظام عاد الشاعر الى وطنه العراق . وفي تلك الاوقات كانت دار المدى قد اصدرت كتابه النثري في دمشق قبل وصوله عمّان والذي هو بعنوان ( الريح تمحو والرمال تتذكر ) . الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية كتبها الشاعر بلغة شعرية عالية ، فهو يسرد رحلته الثانية الى موسكو عام 1989 وكذلك فأنه أمتداد لكتابه النثري الاول ( رماد الدرويش ) الذي تحدث فيه ببراعة الشاعر العارف بالكثير ما كان يدور من حوله خاصة في موسكو ، فوصف أصدقائه غائب طعمة فرمان وغازي العبادي وعبد الوهاب البياتي والدكتور المعماري خالد السلطاني وآخرون أو في بغداد وقريته الميسانية في جنوب العراق . كان استاذنا سعدي يوسف يزور دمشق شهرياً وقد جلب معه نسخة من هذا الكتاب النثري الى صديقه حسب الشيخ جعفر الذي لم يره ولم يعرف بصدوره بعد . وقد تحدث الشاعر في ذلك الكتاب عن سيرته الشعرية وايام موسكو بطريقة فنية غاية في الجمال والروعة , والكتاب واحد من الكتب المهمة التي اصدرتها دار المدى ضمن مسيرتها الطويلة برفد الحركة الثقافية العراقية والعربية . ولطالما تنفس الشاعر الحرية التي كان محروماً منها في بغداد عندما التقى اصدقاء الابداع الحقيقي بعمّان . ولعل عنوان كتاب حسب جعفر ( الريح تمحو والرمال تتذكر ) له دليل واضح على لغة الكتاب الممتزجة بالشعر وربط الماضي الموسكوي بالحاضر العراقي . الكتاب صدر عام 1996 ب ( 180) صفحة وقد أرخ لمرحلة مهمة بتاريخ هذا الشاعر الكبير الذي له الفضل الاول بالقصيدة المدورة ..