حبُّ الطبيعة وكراهية الحرب ركنان أساسيان في حياة الهندي الاحمر، أما العزلة فهي معبده الحقيقي، فهو غير معني ببناء معبد لآلهته، لأنَّ العبادة اسمى من أن تحيطها جدران، والطبيعة كلها معبده، لذا فهو لا يتحدث في المسائل العميقة، طالما أنه يؤمن بها، وكان، أثبت بان الطعام جيد لكنَّ التخمة قاتلة، وأنَّ الحبَّ حسن لكنّ الشهوة مدمرة. كان الهندي الأحمر قد حفظ روحه حرّة من قيد الكبرياء والجشع والحسد ونفذَ المرسوم الإلهي كما آمن به بعمق، كأمر هام بالنسبة له.
كنت أقرأ في كتيب صغير، اسمه (الروح الهندية) كتبه تشالز الكسندر ايستمان وترجمه الحسين خضيري، ولأنَّ شعوري بالتعب والخذلان طاغ، الأيام هذه، فقد إتخذت من جذع نخلة متكأ لجسدي، في شبه قيلولة، أرقب السيّد أبا منذر، الفلاح، الذي يعمل في البستان العائد لي، آن أصغي فيها لنداء الهندي، وهو يقول: “في اللحظة الجليلة لشروق الشمس او غروبها أشغل موقعي، أطلُّ على الامجاد الارضية، مواجها السرَّ العظيم وقد مكثتُ هناك عاريا، منتصبا، ساكنا بلا حراك، متعرضا للعناصر لليلتين ويومين”. لا أعرف، كيف التصقت صورة أبي منذر بصورة الهندي الأحمر ذاك، وتشكلت عندي صورة واحدة لحب الطبيعة وكراهية الحرب وطريقة العبادة وعشق الحياة .
قبل يومين قال لي أبو منذر: انا، ومنذ تقاعدت عرضوا علي أشغالا كثيرة، لكنني لم أختر واحدة، أردت أن أكون فلاحاً، مثل أبي وجدي، ويصحح: مثل آبائي وأجدادي، انا، أحب الأرض، قد لا تمنحني ما أريده من مال، هناك مهن تدر أموالاً اكثر، في الصناعية مثلاً، وفي الشركات الأجنبية لكنني، أحب الأرض، أحب ان أجني مما ازرعه، التراب والماء والاشجار عناصر لا أشعر معها بالغربة، أعيب على المتقاعدين جلوسهم على الطرقات، قرب محال البقالة وفي المقاهي. ومن زاويتي، تحت الجذع الرطب، كنت ألم شتات الصور في ما أقرأ وما أسمع. كان أبو منذر يرسم صورة الهندي الأحمر الذي رأى المعجزات في كلّ يد تعمل، معجزة الحياة في البذرة والبيضة، معجزة الموت في ومض البرق أو في الغابة العميقة.
أمس، جاءني بأقلام دفّلى بيضاء، قال: لم أر في بستانك إلا الأحمر والورديّ منه، كان يعي تماماً معنى الأبيض ازاء الأحمر والوردي، وقبل ذلك، حمل لي على دراجته الهوائية فسيلاً نادراً، سألني ما إذا أود ان أغرسه قرب النهر ام في مكان آخر، ومثل من يحمل وليداً، قال: باسم الله، وعلى بركة الله، زرعنا والزارع الله، للطير وما سهّل الله. يا الله، وأنبته في الموضع الذي احتفره له. أيّ نشيد سماوي هذا، هو يزرع ولا يمانع إن أكله الطير منه. كان الهندي الأحمر يرى في الحيوانات كلها إخوة له في الكون، لهم الحق في الحياة مثلما له، وكان يسلم نفسه للسكون الذي تهدهده تنهدات الاشجار وشدو الطيور المبتعدة وخرير المياه، توغل الاصوات هذه في روحه نبضاً سامياً.
أبو منذر، سيّد هاشمي، من سلالة محمد النبي، وهو من أسرة عمل البعض منها في الدين والسياسة، وله أقرباء في السلطة، يمكّنونه من إشغال وظائف مميزة، وقد عرضوا عليه بعضها، لكنه رفض، ورفض أكثر منذ ذلك، أراد أن يعبد ربه في فسحة من الطبيعة، تحت النخل وبين السواقي، بعيداً عن المساجد والحسينيات، أراد ان يبقى هندياً أحمرَ، يعتني بالحيوانات والاشجار ويصغي لنداء المخلوقات. اما أنا فقد رحت أسجد في الموضع الذي تساقط فيه حبات عرقه، أرفع يداي الى السماء قائلا: اللهم، تقبل مني هذه الصلوات.
نقلا عن المدي