19 ديسمبر، 2024 6:01 ص

الروحانية في الثقافات والحضارات الإنسانية

الروحانية في الثقافات والحضارات الإنسانية

لا أظن أن مفهوماً أو مصطلحاً أنتجه العقل الإنساني نال الاهتمام الواسع في مجالات الفكر الإنساني وفي عموم الثقافة والحضارة الإنسانية، مثل مفهوم الروحانية أو الروحية. بسبب الأبعاد الدينية والعقيدي والتأملية العقلية التي يحملها هذا المفهوم في بنيته الأساسية.
انصب الاهتمام في  البحث عن الروحانية وبعدها الدلالي واللغوي والميتافيزيقي الديني – الفلسفي، معظم الأديان والفلسفات والفنون والثقافات في مجمل الحضارات الإنسانية، لارتباط هذا المفهوم بالإنسان نفسه وما يتصل به من مخلوقات أخرى، فمنذ أن وجد إنسان على هذه الأرض بدء يفكر تفكيراً تأملياً عقلياًُ عميقاً في  مصدر وجوده وأصله ومبدأه ومنتهاه. مما دفعه إلى هذا الاهتمام بذاته والكشف عنها باعتبارها سراً مخفياً في داخل الإنسان غير الظاهر،  فأطلق على هذا السر المخفي لفظة الروح أو النفس، في مقابل ما هو ظاهر من ذاته وشخصه  وهو الجسد أو الجسم.
ولهذا نجد أن الاهتمام بالروحانية في معظم الحضارات والأديان السماوية منها أو الطبيعية، فضلاً عن  الآراء الفلسفية واللاهوتية والصوفية، والأساطير  والفنون واللغة،  إنما للإجابة عن هذه المشكلة العويصة التي شغلت عقل وذهن الإنسان قديماً وحديثاً وحتى يومنا هذا، ولطمئنت الإنسان الحائر في هذا العالم الواسع الكبير عن هذا السر الخالد فيه، والذي هو مصدر حياته ووجوده ومعارفه ومواقفه. ولهذا جاءت إجابات الأديان السماوية والفلسفات  والفنون والثقافات متنوعة ومتشعبة وعميقة بل وحتى متناقضة فيما بينها.
 ومن هذه الإجابات نجد من أقر بوجود الروح والنفس في الجسم، وهي غير الجسم،  هي مبدأ حياة الكائن ووجوده ومجمل فعاليته العقلية وغيرها، وأنها جاءت من مصدر إلهي خالد هو (الله)، وسوف تعود إليه بعد الموت، وهي (أي الروح)  شريفة الأصل وخالدة، وأصحاب هذه الآراء من الحكماء واللاهوتيين نطلق عليهم لقب الروحانيين أو المثاليين التأمليين. أو القائلين أن النفس غير مادية.
وفي مقابل هذه الآراء،  نجد من لا يعترف بوجود روح أو نفس في داخل الجسم بأي شكل من الأشكال، وأن الجسد الإنساني أو الحيواني (المادي) هو الأصل، ولا يعود مرة أخرى بعد فنائه وموته، وبالتالي لا يوجد خلود في عالم آخر، وهؤلاء يسمون بأصحاب المذاهب المادية والإلحادية.
عليه، فإن بحثنا هذا سيدرس التحديد المفهومي للروح والروحية والروحانية من خلال ما ورد من نصوص في المعاجم اللغوية أولاً، وما ذكر عند الاصطلاحين ثانياً، ودراسة مواقف الفكر البدائي والحضارات والثقافات القديمة من الروح ولاسيما الحضارات العراقية والمصرية والهندية والفارسية والعربية قبل الإسلام، مع إشارة لذكر هذا المفهوم في النصوص الدينية المقدسة وتفسيرها ولاسيما في القرآن الكريم حصراً.
أما رأي الفلاسفة والمتكلمين اللاهوتيين  والمتصوفة، بصدد موقفهم من المعنى الدلالي للروح والنفس. فقد أجلنا البحث فيها  هنا لأن هذا له مجال بحث آخر، سنعمل عليه في قابل الأيام.
أولاً- البعد المفهومي للروح وللروحانية عند اللغويين
أن الروحانية Spiritualism عند أصحاب اللغة، تعني النسبة إلى الروح Spirit، أو Soul، وهي ما بها حياة الأنفس. والروحاني Spiritual عندهم ما فيه الروح، بمعنى النفس أو الملائكة أو الجن. في حين يسمى القرآن كلام الله روحاً لأنه حياة لمن حفظه،  ويقال للمسيح عيسى عليه السلام روح الله، ومثل ذلك يقال عن جبرائيل روحاً. وغير ذلك من المواضع التي تدل على معنى الروح.
وتعني الروح في اللغات السامية حركة خفيفة، أي حركة محضة، وفعل مجرد، وفعل بسيط.
وفي العبارة لغتان: روحاني بالضم من الروح، وروحاني بالفتح من الروَح، والروح والروَح متقاربان، فكأن الروح جوهر، والروَح حالته الخاصة به.
ومن جهته يزودنا ابن منظور صاحب كتاب لسان العرب بتفصيلات لغوية دقيقة عن معنى الروح والروحانية، بقوله: الروح: النَّفْس، والجمع أرواح، غير أن الروح مذكر والنفس مؤنث، وتأويل الروح ما به حياة الأنفس،…، وقيل: الروح هو الذي يعيش في الإنسان، لم يخبر الله تعالى به أحداً من خلقه ولم يعط علمه لعباده،..، كما ويقال: أن الروح هو النفس الذي يتنفسه الإنسان وهو جار في جميع الجسد، فإذا خرج لم يتنفس بعد خروجه،…، والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة.
أما الروحاني، فتعني في اللغة عندنا كان فيه روح من الملائكة والناس والدواب والجن، والجمع روحانيون، أما الروحانيون أرواح ليست لها أجسام، ولا يقال للشيء من الخلق روحاني إلا للأرواح التي لا أجساد لها، مثل الملائكة والجن وما أشبهها، أما ذوات الأجسام فلا يقال لهم روحانيون. وبهذا تكون الروحانية هي رؤية ومذهب يرى أن النفس غير مادية.
كما ويرتبط من الناحية اللغوية بلفظ الروح والروحانية لفظة النفس، وهي مأخوذة من النَّفَس. وتعني الروح، والنفس هي ما يعبر بها عن الإنسان جميعه، كقولهم: عندي ثلاثة أنفس، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلا عند الموت. ولهذا يقال: أن لكل إنسان نفسان: نفس العقل التي يكون بها التمييز، والأخرى نفس الروح التي بها الحياة. والتحديد الأخير لمعنى النفس يحمل في طياته بعداً ميتافيزيقاً دينياً جلي الوضوح.
ثانياً- الروح والروحية والروحانية في المصطلح
يحدد الاصطلاحيون، معنى الروح والروحية والروحانية، بعدة معاني، يتداخل فيها الفلسفي مع الديني والطبي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي وغير ذلك. وسوف نوردها هنا لأهميتها.
معنى الروح:
1. عند القدماء تعني جسم بخاري لطيف يتولد من القلب، وينتشر بواسطة العروق الضوارب في سائر أجزاء البدن. وهذا التحديد للروح يحمل في طياته بعداً مادياً حسياً ملموساً.
2. الروح مبدأ الحياة في البدن، فإن من شرط حياته سريان الروح فيه كسريان ماء الورد في الوردة.
3. الروح مرادفة للنفس الفردية، ويرى بعض المتصوفة وعلماء اللاهوت أن هذه النفوس الفردية صور إلهية قادرة على الاتصال بالله، ومنها قولهم أن الملائكة والجن والنفوس الإنسانية الباقية بعد الموت أرواح مجردة.
4. الروح هي الجوهر العاقل المدرك لذاته من حيث هي مبدأ التصورات، والمدرك للأشياء الخارجية من جهة ما هي مقابلة للذات، وهذا التقابل بين الذات والموضوع شائع في الفلسفة الحديثة. وله وجوه، منها: الروح ما يقابل المادة، والروح مقابل للطبيعة، والروح مقابلة للبدن، لأن الروح تمثل القوة العاقلة والبدن يقابل الغرائز.
5. والروح تعني القوة المفكرة المستقلة عن كل هوىً.
6. وروح الشيء نفسه، فإذا أضيف لفظ الروح إلى الشيء دل على ماهيته وجوهره، كقولنا: روح المذهب الفلاني، أي معناه وحقيقته.
7. الروح الأعظم مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، وروح القدس عند المسيحيين أحد الأقانيم الثلاثة.
8. والروح في القرآن الكريم لها عدة معان، هي: ما به حياة البدن، ومعنى الأمر، والوحي، والقرآن، والرحمة، وجبريل، وسوف نوضح هذه المعاني في المبحث القادم.
وللروح علم يسمى بعلم الروح Spiritism، وهو مذهب يقول: أن الروح تبقى بعد الموت على صورة جسم بخاري لطيف لا يرى بالعين، بل يظهر بتأثير الوسطاء في ظروف خاصة. ويتميز علم الروح بعدة خصائص منها:
1. أن علم الروح لا يبحث إلا في أرواح الأموات.
2. وأنه يبني نظرياته على التجربة لا على الاستدلال.
3. وأنه يُلبس الروح ثوباً مادياً يسمى بالغشاء البخاري لا يرى إلا في ظروف خاصة.
4. وأنه يعزو إلى الروح تأثيراً مادياً كتأثيرها في تحريك الأجسام، وهنا فرق واضح بين علم الروح  والميتافيزيقا، إذ تذهب الميتافيزيقا إلى القول بتأثير قوى أعلى من قوى النفس الإنسانية، في حين يذهب علم الروح على تفسير ذلك بتأثير أرواح الأبدان في العالم المادي.  
معنى الروحي Spiritual:  كما ويرتبط بمفهوم الروح مصطلح الروحي، ويعني المعاني الآتية:
1. وهو المنسوب إلى الروح، وهو المقابل للمادي والجسماني والبدني، فكل ما كان مادياً أو نباتياً أو حيوانياً، لم يكن روحياً. وعلى ذلك فالحياة الفكرية حياة روحية، وهي مقابلة للحياة المادية.
2. والروحي أيضاً هو المنسوب إلى الأمور الدينية والصوفية، ومنه التمارين الروحية والاتجاهات الروحية.
3. والروحي أيضاً ما يقابل الزمني. وهو أعلى من النفسي والمادي عند الغنوصيين.
ثالثاً- الروحانية Spiritualism: أما الروحانية فهي مذهب فلسفي آخر في علم الوجود يعارض المادية، ويشير إلى أن الحقيقة الأخيرة (النهائية) في الكون هي الروح أو العقل، هذه الروح أو هذا العقل يماثل العقل الإنساني، ولكنه ينتشر في الكون كله، ويُفسر كل شيء عن طريق العلل الروحية لا العلل المادية. وبالتالي تصبح الروحانية مذهب من يعتبر أن النفس غير مادية، وان الروح جوهر الوجود، ومن صفاتها الذاتية الفكر والحرية. كما وتستخدم الروحانية للتعبير عن النظرية المثالية في الفلسفة، وفي الاصطلاح الديني تشير إلى أن الله روح، وان العبادة توافق بين الروح الإلهي وروح الإنسان. 
ومن جهة أخرى يحدد الاصطلاحيون معاني أخرى للروحانية ترتبط بجملة من العلوم الإنسانية، فهو في علم النفس يعني أن التصورات والظواهر العقلية والأفعال الإرادية لا تفسر بالظواهر العضوية. أما في علمي الأخلاق والاجتماع فالروحانية تعني عندهما أن الفرد والمجتمع يهدفان إلى غايتين، أحدهما متعلقة بالحياة الحيوانية أو المادية، والأخرى متعلقة بالحياة الروحية المحضة، وهاتان الغايتان متعارضتان، وأما في علم الوجود العام فتعني الروحانية أن في الوجود جوهرين متميزين، أحدهما روحي ومن صفاته الذاتية والحرية، والآخر مادي ومن صفاته الامتداد والحركة، ومن نتائج هذا المذهب القول ببقاء النفس بعد الموت، والقول بوجود الله، كما ويطلق المذهب الروحاني على القول أن الروح جوهر الوجود وأن حقيقة كل شيء ترجع إلى الروح السارية فيه.
ومن هذا نستنج جملة أحكام بصدد الروحانية، هي:
1. أن الروحانية تتميز على الجسمانية بقوتي العلم والعمل، فالروحانيون علومهم فطرية كلية فعلية، بينما الجسمانيون الماديون علومهم كسبية جزئية انفعالية، والعمل عند الروحانيين عبادة، وله بهجة، ويمنحهم لذّة،وعلى عكس ذلك الجسمانيون.
2. أن القول بالروحانية اعتقاد أن الروح خالدة، وان للكون روحاً أعظم هو علته الأولى،…، وان الموت ليس نهاية الوجود، وإنما فيه خلاص للروح من متعلقات البدن، وتصعد به الروح إلى بارئها حيث مقامها الحقيقي.
3. أن الروح هي الحاصل بأمر الله، وإن التزمت بمراداته كانت الروحانية فيها أكثر، إن أنكرت عليه وكذبت شرائعه كانت الشيطنة عليها غالبة . وخير من يمثل هذه الروحانية هم الأنبياء والرسل.
رابعاً- تاريخية الانهمام بالروحانية في الفكر البدائي والحضارات  الإنسانية
1- في الفكر البدائي: يرى بعض الدارسين ممن اهتموا بدراسة الروحانية وظهورها على مسرح الفكر الإنساني، أن الباعث الرئيسي لظهورها والإيمان بها ما يشاهده الإنسان في الأحياء من ضرورة توفر قوة أو جوهر أو حركة تضفي على الكائن الحياة كالماء أو التنفس مثلاً.
فمثلاً أن الإنسان البدائي يرى أن الفكرة التي يكونها عن الروح هي بمثابة حلاً للعديد من الظواهر الطبيعية التي يصعب إيجاد تفسير واقعي أو سبب لها، ذلك أن الروح ليست جزءاً من الإنسان كما يرى الإنسان البدائي، بل هي الإنسان بأكمله، وقد ارتبطت فكرة الروح عنده بما يشبه قوة دافعة يسميها المانا، ولا يعقلها على أنها جوهر قائم بذاته، كما ويتصور هذا الإنسان أن الكون ينتشر فيه أرواح مثل الجِنّ أو ما شابه ذلك، ولم تقض الأديان على هذه الفكرة، بل اعتقدت بوجود نوعين من الأرواح، خيرة وشريرة، وهذه الأرواح بمثابة جواهر قائمة بذاتها. وعلى العموم يعتقد الإنسان البدائي، أن الروح قد تكون خارج الجسد، كأن يكون طيراً ما أو نبتة ما، وبذلك يتحول هذا الطير أو النبتة إلى طوطم مما يوجب على معتنق هذا الرأي الاتصال بهذا الطوطم والاتحاد به .
وفي ضوء هذا التصور للروح عند الإنسان البدائي ، فسر المهتمون من العلماء المحدثين هذه التصورات، وبنوا عليها النظريات الآتية:
نظرية عبادة الأرواح: تذهب هذه النظرية من خلال مؤسسها العالم الانجليزي تايلور، إلى الاعتقاد لدى الإنسان البدائي في بقاء أرواح الموتى من القديسين أو من تميزوا بقوة خارقة للطبيعة أو في المجتمع،، والاعتقاد كذلك بوجود أرواح للأفلاك والعنصر أو استحياء الجماد…. ذلك أن عقلية البدائي فيها سذاجة الطفولة ما يقصر بها عن التميز بين الجماد والحيوان، ويجعلها تعامل كلاً منها معاملة الكائنات الحية، مثلما يداعب الطفل دميته ويناجيها كأن فيها روحاً . 
نظرية الطوطم: هذه النظرية كما يرى القائلون بها أنها انشعبت عن النظرية السابقة (عبادة الأرواح)،وأن هذا الانشعاب قد نشأ عن طريق عن طريق ما يعتقده كثير من الشعوب البدائية وغيرها من إمكان تناسخ الأرواح. وحصولها في غير أجسامها الأولى، فأرواح السلف كانت موضع تقديس الخلف وعبادتهم، وكانت في أمرها قائمة في ذاتها منفصلة عن الأجسام، ثم أخذ الاعتقاد بتناسخ الأرواح يتداخل شيئاً فشيئاً في هذا الموضوع حتى انتهى الأمر ببعض الشعوب البدائية إلى الظن أن هذه الأرواح قد حلت في أجسام بعض الحيوانات أو بعض النباتات . 
إن هذه التصورات والأفكار عن الروح وتقديسها عند البدائيين أمدتنا بألوان متعددة من الطقوس والممارسات الدينية،…، ومن جهة أخرى يرى البدائي أن جميع ما يصيب الإنسان من نجاح أو توفيق أو من ألم ومصائب إنما مرجعه إلى تلك الأرواح أو إلى العالم الروحي….، ولهذا تقرب البدائي إلى هذه الأرواح بالضحايا والقرابين. 
2- في الحضارة العراقية القديمة: تصوراتها عن الروح تقوم على كون الإنسان مركب من عنصرين أحدهما الجسم المادي والثاني غير مرئي هو الروح، كما واعتقد هؤلاء العراقيون أن الروح مستقلة عن الجسد، وتنفصل عنه بعد الموت، ولا يؤثر ما فعله فيها بعد الموت، لاعتقادهم أن الموت حتمي، بانقطاع التنفس وتوقف الحركة في الصدر، وأما البعث والقيامة فلم يكن لهم تصور واضح عنهما .
3- في الحضارة المصرية: يعتقد المصريون القدامى أن للإنسان روحاً وأنها لا تموت بموت الجسد، ويرتبون على ذلك أن الإنسان يحيى بعد موته حياة أخرى يحاسب فيها على أعماله في الحياة الدنيا،…، وأن الروح باعتقادهم منبثقة من الله جل وعلا، وجزء من جوهره، ويمكن ملاحظة ذلك في نصوصهم القديمة، فالروح بزعمهم لا تموت لأنها سرمدية من جوهر الإله. وهي لم تخلق للجسد الذي حلت فيه فحسب فإنها قد حلت في أجساد قبله وستحل في أجساد بعده. وهذا هو التناسخ بعينه . 
4- الحضارات الهندية والفارسية:  من المعروف عن الهنود على اختلاف معتقداتهم ونحلهم ومذاهبهم اعتقادهم بكثرة الآلهة، فأصبح لكل شيء روح، ولكل روح قدسية معينة، وكان لكل آلهة وظيفتها الخاصة، تختلف باختلاف شخصياتها إلا أن الآلهة العليا أخذت لنفسها ثلاثة أقانيم فدعي الأول براهما ووظيفته الخلق والإيجاد ودعي الثاني فشنو حيث يتولى المحافظة على الخلق والوجود وسيف المخرب الجبار. ومعظم الآلهة الهندية تستمد وجودها وحياتها من روح واحدة هي روح براهما، أو الإله الأعظم، ولهذا قالوا أن روح الإنسان هي نفس روح براهما، والنفس عندهم لا تفنى ولا تموت، وإنما الجسد هو الذي يموت، أما النفس فإنها خالدة وتحتفل بوجودها بعد الموت حيث تنتقل الى جسم ثان. وهذا هو التناسخ بعينه، إذ أن الهنود يؤمنون بالتناسخ ووحدة الوجود والخلود. كما ويعتقد الهنود بأبدية النفس وزوال الجسد وفنائه. كما ويؤمن الهنود أن الروح الإنسانية نفحة إلهية، وان الإنسان متى مات تكتسي الروح بجسد نوراني شفاف لا تدركه أبصار الأحياء، وتنتقل الى الملأ الأعلى.  أما في الفارسية نجد أن قدماء الفرس قدسوا قوى الطبيعة المؤثرة في الكون، وكان أبرزها الإله الشمس الذي يساعد على إنضاج محاصيلهم وسموه مثرا، وآلهة الخصب والأرض وسموها أنينا وآلهة المطر والريح وغير ذلك من الآلهة، وسموا هؤلاء الآلهة دايفا أي الأرواح الخيرة. وبمرور الزمن تعقدت هذه الديانة، وآمنوا كذلك بأنواع مختلفة من الأرواح، وبعد أن آل الأمر الى زرادشت في بلاد فارس نادى بأصول جديدة وعقائد مختلفة عما كان سائداً عندهم، إذ قال أن دون الروح الأزلية الله وحين متضادتين، احدهما يدعى اهورا مزدا وهو المكلف بالخلق والإيجاد، والثاني اهرمن وهو مسوق للإفناء والملاشاة، وهما في تنازع مستمر، فالأرض في نظر زرادشت ميدان كفاح بين الأرواح الشريرة والأرواح الخيرة. أما مصير الروح في هذه الحضارة فتكون على النحو الآتي: عندما يموت الميت تظل روحه ثلاثة أيام بلياليها معلقة الى جانب الجسم، منعمة بنعيمه أو معذبة بعذابه، وفي فجر اليوم الرابع تهب عليها ريح إما معطرة إذا كان الميت خيراً، وأما نتنة ذا كان الميت شريراً، كما أن هذه الديانة في الحضارة الفارسية تؤمن بالحساب بعد الموت، إذا آمن الفرس بالعالم الآخر، كما امن المصريون، وقالوا بقيامة الموتى ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب، وبذلك جمعوا بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة المصريين في محاسبة الروح ووزن الأعمال في موقف الجزاء.
5- العرب قبل الإسلام: الروح في تصورات هؤلاء عبارة عن دم يجري في شريان الإنسان، فإذا اهريق هذا الدم عن جسده فهو ميت، كما قالوا مات حتف انفه، لذا فالروح عندهم عبارة عن دم الحياة، يقول المسعودي: يتنازع الناس في كيفية الروح فمنهم من زعم أن النفس هي الدم وان الروح الهواء الذي كان في باطن الجسم الإنساني الذي منه نفسه، وطائفة منهم تزعم أن الروح طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفاً به متصوراً له في صورة الطائر يصدح على قبره.
من هنا يتضح أن العرب قبل الإسلام يعتقدون في الروح معتقداً هو أن الدم هو الحياة، ثم لاحظوا أن النفس جزء مهم في الحياة، فقالوا أن الحياة عبارة عن الهواء في باطن جسم المرء، وظلت هذه الفكرة مدة من الزمان، فأتى جيل بالغوا في تصور النفس الذي يتكون من الدم والهواء، حتى اعتقدوه طيراً من الطيور لها علاقة بالتشاؤم، وهذا الطير هو البومة التي تمثل الخراب والفساد والموت عند الأمم، وعليه فان العربي قبل الإسلام لم يتصور حقيقة الروح خارجاً عن المادة. ولهذا كان يعتقد هذا العربي أن الأشجار أرواحاً ولهذا عبدوها، كما واعتقد هؤلاء إن الإنسان يمكن أن يمسخ حجراً أو شجراً أو حيواناً، فقيل مثلاً إن الصفا والمروة كانتا رجلاً وامرأة ثم مسخا حجرين .
رابعاً- الروح في القرآن الكريم
في القرآن الكريم وردت لفظة الروح على معاني عدة ، وتم  تفسير هذه اللفظة على وجوه، هي:
1. الرحمة، بقوله تعالى في سورة المجادلة، آية 22: وأمدَّهم بروحٍ منه. أي رحمة منه. 
2. مَلَك من الملائكة، بقوله تعالى في سورة عم، آية 38: يوم يقوم الروح والملائكة صفا، فالروح ذلك الملك، وقوله في سورة الإسراء، آية 85: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي. وهذه الآية الأخيرة سيختلف حولها المفسرون إلى يومنا هذا لأنها مناط البحث اللاهوتي والفلسفي الذي شغل بال الإنسان كثيراً ولم يجد له إجابة شافية موفية.
3. جبرائيل عليه السلام، بقوله تعالى في سورة النحل، آية 102: نزله روح القدس، ونظيرها في سورة الشعراء، آية 193: نزل به الروح الأمين، وقوله لعيسى عليه السلام، في سورة البقرة، آية 87، وآية 253: وأيدناه بروح القدس، يعني قويناه بجبرائيل. وقوله في سورة مريم، آية 17: فأرسلنا إليها روحنا، يعني جبريل.
4. الوحي، بقوله تعالى في سورة النحل، آية 2: : ينزل الملائكةَ بالروح من أمره على من يشاء من عباده،  يعني الوحي على الأنبياء،. وفي سورة المؤمن، يلقي الروح من أمره على من يشاء. يعني الأنبياء.
5. عيسى عليه السلام، بقوله تعالى في سورة النساء، آية 171: وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه، حين قال لعيسى كن فكان، وروح منه يعني بالروح أنه كان من غير بشر، وقال لآدم عليه السلام، في سورة السجدة، آية 9: ثم سواه من روحه.
6. القرآن، بقوله تعالى، في سورة حم عسق، آية 52: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا.
7. الراحة والرحمة، ففي الرحمة قوله ليوسف عليه السلام، في سورة يوسف: ولا تيأسوا من روح الله. يعني رحمة الله.
خامساً – معنى لفظ الروح في سورة الإسراء: وهنا لابد أن نقف وقفة متأنية ونجلب بعض آراء المفسرين للآية القرآنية في سورة الإسراء، بقوله تعالى: (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)). لما لها من علاقة وطيدة مع ما نريده بحثه هنا عن الروح والروحانية، ذلك أن هذه الآية قد وضعت معياراً بصيغة تساؤل كبير يبحث فيه الإنسان عن إجابة جامعة مانعة كما يقول الحكماء، يريد من خلاله الإنسان أن يطمئن إلى معرفة كنه وماهية وجوهر لفظة الروح التي وردت في سياق الآية الكريمة،  فمهما أتى به المفسرون من تفسير لهذه الآية يبقى مرتبطاً بهدف إنساني نبيل وكبير، على الرغم من أن الإجابة الإلهية جاءت لتقطع البحث العقلي والمعرفي عن الإنسان في هذا الجانب، وتترك مسألة ماهية الروح والبحث عنها واقعة في علم الله وحده.
ومع ذلك لم يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام فهم هذا النص الإلهي وفتح مغاليقه من أجل البحث عن معنى يخلد إليه في فهم دلالة الروح وماهيتها. وهنا يخبرنا الشوكاني أن أقوال المختلفين فيها بلغت نحو 1800 قول . وهذا أمر فيه تعسف واضح من جهة، ومن أخرى أن بحث الإنسان عن المعنى الماهوي والجوهري للروح لا يكل ولا يفتر.  ومع ذلك  سنورد هنا بعض آراء المفسرين حول معنى الروح في هذه الآية.
فهناك من يقول  أن معنى الروح في هذه الآية تعني مَلَك من الملائكة وهو رأي ابن عباس وعلي بن أبي طالب وهارون بن موسى صاحب كتاب الوجوه والنظائر وجملة أخرى من المفسرين.
 ومنهم من يرى أن معناه  الذات أو النفس التي خلقها الله في الانسان ويعيش بها، لم يطلع على حقيقتها أحداً، وقد استأثر بعلمها الله وحده، ولم يطلع عليها حتى أنبياءه. وإن كانت تعني عندهم في هذا الموضع النفس أو غيرها، وهي ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر وهذا هو رأي السهيلي عن بعض المفسرين.
ومنهم من يرى أن معنى الروح هنا هو: الروح أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها من اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه لا من كل وجه، وهذا هو رأي ابن كثير واعتبره قولاً حسناً. وأحالنا بدوره الى كتاب اعتبره ذات نفع حول الروح ألفه ابن منده بهذا الاسم.
ومنهم من يرى أن المراد بلفظ الروح هنا هي الروح التي يعيش بها الإنسان. خلقها الله ولم يطلع على حقيقتها أحد، وهذا هو رأي محمد بن سلمان الأشقر.
ومنهم من يعطي بعداً كلاميا لاهوتياً في تفسيره لهذا الآية، وعلى رأس هؤلاء الفخر الرازي في كتابه التفسير الكبير ومثله الزمخشري في الكشاف عن حقائق التنزيل، والطبرسي في مجمع البيان في تفسير القرآن وابن القيم في كتاب الروح، وهنا نجلب رأي الرازي لأهميته، بقوله: أن المراد بالروح هنا هو السؤال عن ماهيتها أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز، ولا حال في التحيز؟؟. ؟ أو يقال عن الروح قديم أم حادث؟، أو يقال هل يبقى الروح بعد موت الأجسام  أو يفنى؟، أو أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها؟.
وفي ضوء التصور اللاهوتي العقيدي للروح جاءت عدة تأويلات عقلية لمعناها وحَدِها،  فعند جماعة منهم يكون الروح جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين، في حين ذهب جماعة من المعتزلة ومثلهم الشيخ المفيد الى أن الروح هو عرض وليس بجوهر، أما النظام وابن الإخشيد فيرون أن الروح هو الإنسان.
أما البعد الدلالي ذي الطابع الفلسفي الحكمي كما قدمه بعض المفسرين المعاصرين لهذه الآية معنى الروح فيها، فيتجلى ذلك بوضوح في كتاب الميزان في تفسير القرآن للعلامة محمد حسين الطباطبائي (ت1986م). إذ يقول: الروح على ما يعرف باللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس والحركة الإرادية،..، وربما يجوز فيطلق على الأمور التي بها يظهر آثار حسنة مطلوبة. (ص191)، وأن المراد من لفظ الروح في هذه الآية هو السؤال عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه وتعالى، وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من نظير الأمر بالمعنى الذي تقدم. وأما قوله تعالى ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير، فإن له موقعاً من الوجود وخواص وآثاراً في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب. (ص195).
ولهذا قال بعضهم أن المراد به الروح الإنساني،…، ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حَالُ فيه، وخروجه موته. وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب، وقائل بأنه عرض في البدن، وقائل بأنه نفس البدن، إلى غير ذلك. وقال بعضهم: أن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه قديماً و محدثاً، فأجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى، وفعله محدث لا قديم. (ص196).
الخلاصة:
1. تبين من خلال البحث كيف تداخلت المفاهيم والدلالات اللغوية والاصطلاحية بصدد الروح والنفس والحياة. وأن البعد الاصطلاحي للروح إنما قام على التحديد الدلالي للروح عند اللغويين.
2. إن التحديد الاصطلاحي للروح ارتبط دوماً عند أصحابه بالحياة والنفس والتفكير، وان الروح هو مبدأ الحياة للبدن، وهي الجوهر العاقل المدرك لذاته من حيث مبدأ التصورات، وهو القوة المفكرة المستقلة عن كل هوىً. أي أن الروح هي مجموع محتويات الذات الإنسانية من العقل بملكاته وأفكاره الى النفس بعواطفها، إذ ليس بذي روح إلا وله عقل ونفس.
3. اشتق من البحث في الروح علم يسمى بعلم الروح وهو مذهب فكري يرى أن الروح يبقى بعد الموت على صورة جسم بخاري لطيف لا يرى.
4. أما الروحانية فهي مذهب فلسفي ارتبطت مباحثه بالروح، وهو مذهب يعارض التصورات المادية، ويشير إلى أن الحقيقة الأخيرة النهائية في الكون هو الروح أو العقل، وأن الروح خالد وهو الحاصل بأمر الله.
5. إن تصورات الفكر البدائي للروح ارتبط ببعدٍ حسي ظاهر وتصور هذا الإنسان أن الموجودات في العالم مليئة بالأرواح وهي التي تحركها.
6. في حين نجد أن الحضارات الإنسانية اختلف تصورها عن الروح، فالعراقيون القدامى يرون أن الروح مستقلة عن الجسد، وتنفصل عنه بعد الموت، ولا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهذا خلاف ما يعتقده المصريون القدامى الذين يرون أن للإنسان روحاً وأنها لا تموت بموت الجسد، وأنه يحيا بعد موته حياة أخرى، كما ويؤمنون بالتناسخ، ومثلهم الحضارة الهندية، فضلاً عن إيمان الهنود بوحدة الوجود، وأن الروح عندهم لا تفنى ولا تموت، وأن الجسد هو الذي يموت، وأن النفس خالدة، وتحتفل بوجودها بعد الموت بانتقالها إلى جسم ثان، في حين يرى العرب قبل الإسلام أن الروح عبارة عن دم يجري في شريان الإنسان، فإذا قتل الإنسان فهو ميت، فالروح عندهم عبارة عن دم الحياة، ولهذا يرى هؤلاء أن الروح لا يمكن تصورها خارج المادة.
7. إن مجمل هذه التصورات اللغوية والفكرية والتي تبلورت من خلال الحضارات الإنسانية قبل مجيء الإسلام ديناً وعقيدة، كان لها حضورها عند من قام بتفسير الآيات القرآنية الخاصة بالروح من التي ذكرها الكتاب الكريم، وقد أوردنا معظم هذه الآراء حول الروح ودلالاتها المختلفة التي وردت في هذه الآيات الكريمات، ووقفنا طويلاً أمام تفسير الآية الكريمة (ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي)، وكان لهذا الوقوف أمامها بهذه الصورة له أسبابه المتعددة، والتي تداخل فيها البعد العقيدي مع اللغوي مع الفقهي مع الفلسفي الكلامي، لينتج لنا تصوراً عقيدياً دينياً لدى الإنسان المسلم حول الروح وهي التي تشكل دعامة وأساس  مواقفه الأخلاقية والقيمية والدينية الأخروية والدنيوية. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات