23 ديسمبر، 2024 1:25 م

الروتين يقتل الابداع والابتكار في الجامعات العراقية

الروتين يقتل الابداع والابتكار في الجامعات العراقية

المشكلة في الجامعات العراقية هي انها توقفت عن انتاج عقول فائقة القدرة.اين هو اليوم علي الوردي وفخري البزاز وبهنام ابو الصوف وعبد الجبار عبد الله وعبد الكريم الخضيري ومحمد مكية وأمثالهم من العلماء العراقيين الذين تخرجوا من جامعات العراق وعملوا فيها؟ ولازال عدد آخر من العلماء العاملين في الجامعات الغربية ومنهم كاتب هذه الدعوة، يتمنون ان يصبحوا جزءا من النظام العلمي العراقي من دون الحاجة الى توسل او طلب شخصي أو وساطة، بل الى قانون نافذ يجعلهم ثروة وفخر للعراق. اين هي تلك الشخصيات العلمية ذات العقول الفائقة القدرة؟ يبدو انها مفقودة او مهاجرة وكثير منها اصابتها الشيخوخة فترهلت اوصالها وهرمت عقولها وبدأت تختفي بسرعة. في كل زياراتي للجامعات العراقية لا التقي الا نادرا من هذه العقول، وما ارى الا كثرة من تدريسين مجاهدين يحتاجون الى تدريب وتحفيز على متابعة التطورات العلمية، والى تعميق معارفهم، وعلى ترجمة الافكار العلمية الى ممارسات عملية، والى اشعال روح الاهتمام والتتبع والحماس للبحث العلمي العميق، وعليهم ينطبق قول حافظ ابراهيم:

البـحر في احشائـه الـدر كامـن….. فهل سألوا الغواص عن صدفاته.

لقد اصبحت العلوم الانسانية صحراء قاحلة، والعلوم الطبيعية الصرفة عملية استنساخ كبيرة، واقتباس يقتل الابتكار. وما عليك الا حضور مؤتمر علمي من المؤتمرات الكثيرة التي تقيمها الجامعات العراقية حتى تلمس حجم الفجوة الهائل بينها وبين العلم العالمي. ولم تجد احدى الجامعات العراقية الا قلة من العلماء لتفتخر بهم، فاستبدلت ذلك باسماء ما اسمتهم بمشاهير الجامعة، قليل منهم يستحق ذكراسمهم الا ان معظمهم وزراء فاشلين وسياسيين من الدرجة الثانية. واصبح مناقشة رسالة طالب ماجستير خبرا يستحق ان يوضع على الصفحة الالكترونية للكلية والجامعة والوزارة، وان يفتخر الاستاذ بانه اصبح محررا او مقيما لمجلة “زائفة”.

بدأنا ندخل في سبات عميق نلتهم فتات المعرفة العالمية، وننتج لاشئ منها، فهل من منادي لعملية اصلاح شاملة لكي ندحر النظام البيروقراطي الروتيني الذي يقتل القابليات، ويقتلع الكفاءات، ويخلصنا من ثقافة الجمود السائدة، والقناعات الجاهزة التي تقدس الروتين القاتل، والتواقيع الجاهزة، والكتب الادارية والتسلسل الوظيفي الهرمي الذي يعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة؟؟ فبدون اصلاح هذا النظام الاداري الجامد القاتل لن تتمكن الجامعات من التقدم والرقي الى مستويات الجامعات الغربية، وبدون نشر ثقافة اكاديمية داخلية تعتمد بالاساس على اشاعة الحريات الاكاديمية والثقة بالنفس واحترام الرأي الآخر والاخلاص في العمل والذود عن مصالح الجامعة لن تتمكن الجامعات من انتاج عقول متميزة بالإبداع. بهذا القول وبكل تأكيد اكرر ما قلته مرات ومرات بأننا نحتاج الى اصلاح جامعي يهدم النظام الاداري الحالي للجامعات، ويبني مكانه نظام جديد يتبنى قيم اكاديمية عالمية جديدة، منها الحرية الاكاديمية والاستقلالية وارتباط بسوق العمل وبحاجة المجتمع لتصبح الجامعات مراكز لانتاج المعرفة وليس لنشرها فقط، ومراكز تعاون ومحبة لاحراز التفوق والرقي، وبذلك نتخلص من عقلية الانجازات السطحية، والادعاءات الفارغة بالتفوق.

الجامعات العراقية غير قادرة على القيام بنفسها ولوحدها بهذه المهمة الصعبة لعدم وجود الخبرة الضرورية الكافية لاداريها واساتذتها، وهذا يتطلب الاستعانة بالخبرة الاجنبية خلال فترة التأهيل والبناء من جديد. لقد قامت دول عديدة في الماضي بالاستعانة بالخبرة الاجنبية للوصول الى مصاف الدول الصناعية المتطورة ونجحت في ذلك، فلماذا لا ينهج العراق نفس الأسلوب في الاستفادة حتى من خبرات ابنائه الموجودين في الخارج؟ اصدرت وزارة التعليم العالي مؤخرا تعليمات بمنح الاستاذ الزائر مكافأة تقدر بمائة دولار يوميا ويخفض المبلغ تدريجيا كلما ازداد عدد ايام الزيارة بحيث لا يتعدى الالف دولار في الشهر. الفكرة جيدة وهي مشابهة لما هو معتاد عليه في العالم الا ان شحة المبلغ يمثل اهانة للعالم الزائر مقارنة بمكافأت جامعات الخليج على سبيل المثال. لن يزور عالم اجنبي العراق طمعا بهذا المبلغ، اما العالم العراقي في الخارج فهو لا يبحث عن منفعة مادية من زيارته لوطنه ومشاركته في مشاريع تطوير الجامعات لذا فهو لا يستحق مثل هذه الاهانة.

كيف يتم صناعة العلماء؟

دعني اقدم اقتراحا بسيطا لوزارة التعليم العالي لكي يكون لنا علماء يتبوأون مراكز عالمية عليا وكذلك مجاميع بحثية متميزة عالميا، وعهدي انه لو اتبعت الوزارة هذه الطريقة الفريدة (لربما الغريبة نوعا ما) فسيكون لنا في غصون بضعة سنوات علماء نفتخر بهم عالميا. يتم اولا بمساعدة علماء عراقيين من شبكة العلماء العراقيين في الخارج www.nisairaq.com اختيار عشرة أو اكثر (على حسب توفر الاموال اللازمة للمشروع) من الذين اكملوا دراستهم حديثا في الجامعات الغربية. يمنح كل منهم مختبرا مزودا بافضل المعدات ويترك لكل منهم اختيار خمسة طلبة او مساعدي باحثين بالاضافة الى تمويل يتعدى 50 الف دولار سنويا للمواد المختبرية، ويترك لهم المجال لكي يبقوا في مختبراتهم ومكان عملهم حتى الساعة السادسة مساء من كل يوم او لأي وقت يرتأوه مناسبا، وتسهل لهم عملية سريعة لاستيراد مواد الاستهلاك المختبري، وان يعفوا من التدريس لاكثر من 4 ساعات في الاسبوع. يطلب منهم التركيز في بحوثهم على موضوع بحث الدكتوراه بحيث يتناسب مع التطور العالمي وبشرط ان لا يحيدوا عن الموضوع ابدا لكي يتبحروا به ويتفوقوا فيه عالميا، وان يستمروا في التعاون العلمي مع اساتذتهم الذين اشرفوا على اطاريح الدكتوراه ومع من هو افضل العلماء في الاختصاص، وان يكون لكل منهم ناصح (Mentor) من العلماء العراقيين في الجامعات الغربية، كما عليهم ان لا ينشروا الا في المجلات العالمية الرصينة، وان يحضروا على الاقل مؤتمرين عالميين كل عام.

من المسؤول عن ندرة العلماء؟

انا لا الوم أحداً، وانما اوجه اصابع الاتهام الى النظام الاداري العراقي بما فيه من بيروقراطية مترهلة وبغيضة تمنع المبادرات الفردية والجماعية وتعيق الابتكار. والنظام الاداري العراقي ليس فريدا في اعتماد الهيكلية البيروقراطية للسيطرة على عمل موظفي الدولة واخضاعهم لاداء روتين اداري معروفة نتائجه مسبقا، الا ان ما يميزه هو على ما يبدو انعدام الرغبة الحقيقية من قبل الدولة لتخفيف اعبائه على المواطنين، وسيطرة مفاصله على الجامعات كونها مصانع للابتكار من المفروض ان تكون بعيدة كل البعد عن الادارة البيروقراطية. مصانع الابتكار وانتاج المعرفة هذه لن تكون الا مصانع عتيقة تنتج بضاعة غير مرغوب بها اذا ما خنقتها اجراءات الروتين، وهي الاجراءات التي اعتادت عليها الجامعات العراقية فكل ما يسير فيها يخضع الى التعليمات الوزارية والموافقات الاصولية.

عندما تتسائل عن اسباب قلة او ندرة المبادرات، ومشاريع تطوير طرق التعليم والتعلم ودراسات تحسين الجودة، تجد الجواب في الاسلوب الاداري المعرقل والذي يتطلب موافقات عديدة لسلسلة من المراجع العليا قد تصل الى ضرورة الحصول على موافقة الوزير. وكذلك الى انعدام المرونة

في الصرف والتخصيصات المالية، بالاضافة الى توقعات التدريسيين بالحصول على مكافأت مالية لكل عمل مضاف الى نصابهم الاصولي، وهي حالة شاذة وغريبة عن الجامعات الاوربية والامريكية حيث لا يستلم التدريسي فلسا واحدا مضافا لراتبه مقابل عمله الذي تفرضه ضروريات التدريس والبحث والاشراف والادارة مجتمعة.

اصبح التغيير حتميا وضروريا لا من اجل التغير، ولكنه لبقاء الجامعات وتطويرها لتصبح مراكز للابداع والابتكار (Creativity and Innovation)، وايقاظ “روح التعاون”، والعمل ضمن فريق (Team work)، وتفعيل “عبقرية الفرد والجماعة”، وكسر الحواجز التي تحول دون الابداع والابتكار، والتي هي برأي ما يلي:

1- الخوف وانعدام الحريات الاكاديمية.

2- ضعف القيادة الاكاديمية وعدم فهم أهمية الابتكار في الحياة الجامعية.

3- السياسات البيروقراطية والروتين القاتل.

4- المكافأت المالية داخل نطاق التدريس والبحث والادارة والجوائز التقديرية للانتاج العلمي عديم الاهمية والملفق احيانا.

5- انعدام العمل الجماعي وضعف القيم الاكاديمية.

الخوف هو الحاجز رقم واحد للابداع والابتكار. الخوف من العقوبة، والخوف من القيادة العليا، والخوف من الفشل، والخوف من السخرية، والخوف من اتخاذ القرار، والخوف من الوقوع في الخطأ، والخوف من المخاطرة، والخوف من عدم الترقية، والخوف من التغيير، والخوف من المجهول. الخوف يشل الطاقات العقلية والإبداعية، ويمنع التدريسي من اكتشاف طرق جديدة، فهو يعرف ان افضل طريقة للحفاظ على مركزه هو اتباع الممارسات التقليدية الجاهزة.

أوكد انه من دون تشجيع التدريسي على استخدام الطرق الخلاقة والمبتكرة في التدريس لن توجد مبادرات ومشاريع وآليات جديدة، و سوف لن يحدث أي شيء جديد في الجامعات. الكثير يعتمد على كيفية تشجيع القيادات للمبادرات والتي بدونها تتوقف عملية التطوير وتنتشر الانتقادات ويتسمم الجو بروح الفشل واللا أبالية والتذمر والاعتقاد بان الطريق مسدود ، بالاضافة الى وضع اللوم بكامله على القيادات الجامعية والوزارية.

وللخروج من هذا المأزق والحلقة المفرغة، أرى أن على القيادات الاكاديمية ان تسمح بمشاريع وتجارب اكاديمية جديدة كمثل التعلم عن طريق حل المشكلة او التعلم الجماعي، او باستخدام منهج التعلم (وليس التعليم) او تدريس المهارات والقدرات الرئيسية، او استخدام مخرجات التعلم لاجل تحويل العملية التعليمية من شأن خاص الى ملكية اجتماعية، و بتشجيع الطلبة على تحمل مسؤولية تعلمهم، و اعتماد معايير راقية للتعليم والتعلم، او حتى تبني مشاريع خارج نطاق العمل الاكاديمي كالحفاظ على بيئة الجامعة كالنظافة والتشجير. كما يجب على القيادات الجامعية توفير اجابات واضحة وغير ملتبسة لما هي رؤية الجامعة والاهداف التي تسعى لتحقيقها، وكيف يمكن قياس نجاح الجامعة؟ وماذا تحاول أن تفعل الجامعة؟ ولماذا تحاول أن تفعل ذلك؟ وما هي الطريقة التي تتبعها؟ ولماذا تفعل ذلك وبهذه الطريقة؟ ولماذا تعتقد ان هذه هي الطريقة المثلى للقيام بذلك؟ وكيف يتم التحسين؟

البيروقراطية والروتين والسياسات البائدة لا يمكن لها ان تخلق فكر جديد ونهج جديد لانها تعزز الوضع الراهن باعتباره الاسلوب الاسلم للادارة وبالتالي تؤثر على القدرة على الاستجابة للتغيرات الجديدة في العالم. انها ثقافة خنق الافكار الخلاقة والابتكار، وقتل المبدعين، ومنع التعاون والتجريب. ورغم وجود تفهم من قبل قيادات الوزارة والجامعات لأهمية اللامركزية

والاستقلالية والحريات الاكاديمية الا ان سياسات موضوعية لتمكين التدريسين من ان يصبحوا منتجين للمعرفة، ومبدعين ومفكرين على مستوى عالٍ، “ويخططون من خارج منطقة الجزاء لاحراز الهدف” كما يشير اليه المثل الانكليزي، لابد لها ان تحل محل نظام مكافئة القيادات الادارية التي تعزز نظام الادارة الحالي في خنق الابداع والمبادرات الفردية.

الاساتذة سيكونون اكثر ابداعا عندما يشعرون بالفائدة والرضا والتمتع بالعمل وبالتحدي الذي تفرضه عليهم طبيعة المنافسة لبلوغ الرقي، وسيكون ذلك مصدر الهام لهم بالرغم من انه سيستغرق وقت طويل. لم اشعر مرة واحدة بوجود تدريسيين يرون في انفسهم يوما ما في قمة العلم، علماء يقرأ لهم طلبة العالم ويشير لهم الباحثون في العالم مثلما نجد انفسنا، ونحن في الجامعات الغربية، ولربما هنا اجد من الضروري ولكي يتعرف الباحث والاكاديمي العراقي عن اهميته عليه ان يبحث عن اسمه وعدد الضربات في غوغل، ولربما يتوغل اكثر ليتعرف على عامل أج (h-index) الذي يقيس انتاجية وتأثيرالاعمال المنشورة من قبل العالم او الباحث.

وباختصار، هناك حاجة الى مناخ مناسب للابداع والابتكار ليزدهر ضمن ثقافة جامعية تتبنى الحريات الاكاديمية. كيف يمكن للجامعة ان تكون خلاقة؟ المفتاح يكمن في رعاية العقل النقدي والبحثي، وفي الغاء الحواجز التي تقف امام الابداع والابتكار، وفي قدرة الجامعة في الاستفادة بشكل كامل من الامكانيات الهائلة للشباب الاكاديمي في الجامعات العراقية وذلك من خلال تبني المبادئ التالية:

1- وضع مفهوم عملي للابداع والابتكار.

2- تعزيز جو حماسي داخل الجامعة لتقييم الافكار الرائدة وتنفيذها.

3- وضع مقاييس مبتكرة لقياس القدرات الابداعية والابتكارية للجامعة.

4- تغيير الموقف السلبي التقليدي نحو الابداع والابتكار.

5- جعل الابداع والابتكار جزء لايتجزأ من الاستراتيجيات والسياسات التربوية.

6- تدريب التدريسين تدريبا مناسبا لاطلاق وتحرير القوى الابداعية والابتكارية عندهم.

7- انشاء آلية لتدفق الافكار الابداعية صعودا وهبوطا في الهرم القيادي الجامعي والوزاري.

8- تعزيز اجواء التعاون والتنسيق بين التدريسين من مختلف الاختصاصات.

9- عدم اعتبار براءة الاختراع نافذة الا بعد تسجيل الاختراع خارج العراق.