18 ديسمبر، 2024 10:13 م

الروائي صلاح صلاح .. بين فجائعية الواقع ومشكلة المنطلقات

الروائي صلاح صلاح .. بين فجائعية الواقع ومشكلة المنطلقات

سبق لي ان قرأت دفعة واحدة جميع روايات الأديب العراقي صلاح صلاح ، أنا ضد مايسمى النقد الأدبي ، وأعتبر النقد وظيفة طفيلية ليس لها مبرر فهي تتعارض مع حرية الإبداع الذي من طبيعته التمرد على التأطير ، بينما الناقد يقوم بدور الشرطي القامع للحرية بتنظيراته ومعاييره ، وأكتب هنا ردة فعلي كقاريء ، ليس من صنف المتفرجين والباحثين عن الإثارة في كتب السير الذاتية والإعترافات ، بل المتفاعلين الذين سرعان ماتصيبهم عدوى الألم وأوجاع عوالم المتقدم الى منصة البوح والإعتراف ، وتقديم لوائح ما جرى من وقائع .

نجح الأديب صلاح .. في العرض والتعبير عن عالم فجائعي مثير للإشمئزاز .. عالمنا العراقي ، المتكرر في كل مكان على الأرض بمستويات وأشكال مختلفة .. عالم تغيب عنه المعايير المنطقية والأخلاقية ، وبطشت به الخرافة والدين والعواطف الهوجاء العدوانية … لا أعرف لماذا علماء الأنثرولوجيا يذهبون الى قارة أفريقيا لدراسة المجتمعات البدائية ويتجاهلون العراق .. نحن كذلك مجتمع بدائي في كل شيء .. طريقة التفكير والمشاعر والسلوك التي يتصف بها أفراد المجتمع من ضمنهم – مايسمى النخب المثقفة – بمختلف إختصاصهم وتنوعاتهم .. على الصعيد السياسي الذي هو رأس الجحيم .. ما هو الشيء السليم والنافع الذي فعله العراقيون لأنفسهم على الأقل طوال عمر تأسيس الدولة الحديثة منذ 100 ؟ .. شعب موزع مابين لا أبالي وكسول ولايدافع عن حقوقه ، ومابين يمارس عملية التدمير الذاتي ويركض بعمى أيديولوجي سواء بحسن نية أو سوئها يضفي القداسة على خياناته ويعتبر عمالة الشيوعيين للإتحاد السوفيتي ، وعمالة التيار القومي لسوريا ومصر ، وعمالة الإسلاميين لإيران .. ( نضالا / وجهادا ) وقدم حياته من أجل خيانته وهو مؤمن بسلامة قناعاته التخريبية بأنها الخيار الأصوب .. ماذا يعني هذا ؟ .. يعني الإضطراب النفسي – العقلي وغياب المعايير الوطنية السليمة الضابطة لخيارات الذات !

في أدب السيرة الذاتية يواجه الأديب الواقع والبشر وجها لوجه .. يحاروهم ، ويصفي حساباته معهم ، يفرح ، وينحب باكيا وهو يستعرض جروحه وأوجاعه ، صلاح كان يتكلم عن فجيعته يوم ولد وعاش في مجتمع بدائي أفراده يدافعون عن تخلفهم ويبررون همجيتهم ( ببسالة ) الأغبياء والأشرار، والسياسة هنا هي السكين التي شاركت بذبحه وإعدام أمه .. عاش في مجتمع يُعتبر مصنعا للتخلف والسلوك العدواني .

من يعش وسط الجحيم لايشعر بكامل بشاعته كما يجب .. ونحن في العراق كنا لا نرى الصورة كاملة ، وكانت احتجاجاتنا تنحصر في نقد النظم السياسية .. ماذا عن المؤسسة الدينية وعبوديتها للبشر ، ماذا عن العشيرة ونظام القطيع الذي يحكمها ، ماذا عن العادات والتقاليد المضادة للعقل والقيم الأخلاقية مصالح الإنسان ، ماذا عن المثقفين ونرجستهم وثررتهم العدوانية وإهتمامهم بكأس الخمر والحصول على المعجبات أكثر من الإهتمام بأي قضية إنسانية أو وطنية ، لاتحدثني عن المثقف الحزبي الذي دخل السجون وأعدام ، فهذا مجرد بيدق مغسول الدماغ ( ناضل ) وسجُن وعُذب وأُ عدم في سبيل حزبه الذي قام بنشاطات تخريبية ضد كيان الدولة سواء كان شيوعياً أم قوميا أم إسلاميا.

السيد صلاح وقع في مشكلة المنطلقات ، وحمل المجتمع والنظم السياسية مسؤولية الخراب والمآسي إنطلاقا من الإفتراض بما يجب ان يكون عليه السلوك البشري الفردي والجماعي من إيجابية ، وهذا المنطلق ليس واقعيا ، فالإنسان إبتداءا هو كائن ( أناني شرير ) في كافة العصور والحضارات ، معنى هذا ان السلوك المتوحش للبشر ليس شذوذا عن القاعدة كي نلومه ونحتج عليه ، بل هو القانون الطبيعي لفجيعة الوجود وعشوائيته نتيجة غياب القوى العليا العاقلة التي تقف خلف وجودنا البشري .. نحن نرزح في عالم من الفوضى وإنعدام الرعاية المنشودة من الأب الرمزي : الإله المفترض الذي خلقته مخاوفنا وأوهامنا .. ورطة الحياة يرافقها إخفاق العقل البشري والقيم الإنسانية في تطبيق العدالة وتهذيب وحشية البشر التي تتخذ أعلى درجات الشعارات العقلانية في الدفاع عن النفس والوطن والمصالح وتسوغ لنفسها إنتاج أبشع الأسلحة فتكاً للحياة ، وإذا كانت ثمة شكوى وسخط يفترض توجيهه الى الصدفة الإعتباطية التي أوجدت البشر على هذه الشاكلة : مابين ظالم ومظلوم ، وأناني سعيد ، وبجواره محروم جائع على صعيد الأفراد والجماعات والدول!

مؤسف بعد فشل العقل .. والقيم الأخلاقية ، وإختفاء الرب المزعوم .. ليس ثمة أمل في حياة يسودها العدل والخير .. ماعدا حلم بعيد في ان يتمكن العلم من تعديل خلايا الدماغ وتهذيبه من الأنانية والشر وجعل الإنسان خيرا بالمطلق يزرع الحياة المحبة والسلام ، لكن ماذا عن الموت الذي يتربص بنا .. هل سينجح العلم بوقفه وجعل حياة البشر أبدية ؟