22 ديسمبر، 2024 8:33 م

الروائية جنى فواز الحسن في أنا هي والآخريات

الروائية جنى فواز الحسن في أنا هي والآخريات

قراءتي تتوقف عند آليات السرد الروائي،فقد ألتقطت هذه القراءة أو ربما هكذا توهمت ان ثمة تطابق بين ثريا النص و النص الروائي .فالأنا المثبّتة على غلاف الرواية هي أنا بصيغة مفردة وأخرى (هي) وثمة تطابق بينهما أي بين الأنا وال( هي) وهناك تطابق ثان بين الأنا و الآخريات ..وهذا الأمر سنتحسسه سرديا فالسارد العليم المتكلم بضمير الفاعل هو الذي يمتلك ريمونت كنترول النص الروائي وهذه السارد مشارك بصناعة الحدث ..(سحر) تحدثنا عن نفسها وتنوب عن الآخريات / الآخرين وتحدثنا عنهم وهكذا تكون بمثابة فلتر فالشخوص كلهم نحصل عليهم مبأرين / مبأرات، ويكون للتبئير فاعلية رئيسة في الرواية . و(ثريّا النص) هنا (المهيمنة ..الأكثر سطوعا والأقوى استجابة للعنونة/49) وحسب استاذنا فقيد الأدب العراقي محمود عبد الوهاب ان عنوان الرواية من العنوانات الاشتقاقية ويمكن تصنيفه ايضا من العنوانات الصادمة إذ كيف اكون انا وسواي والجميع..هذه الصدمة تحفز فعل القراءة… والفضاء النصي مثنوي التركيب هناك المرئي / المكبوت.. القمع / الانفلات الهذيانات / الصرامة العائلية…الألحاد / الدين كوسيلة اجتماعية وهناك الدين كتشدد اصولي

(*)

حتى الأنا ليست واحدة بل هي عدة أنوات متضافرة في ضفيرة واحدة – اذا جازت الاستعارة – وهذه المعلومة تسلّمها لنا الساردة مع دخولنا الرواية…(هذه الأنا التي تعيش فعلا ، تقابلها (أنا) أخرى تراقب الأحداث وتسجلّها .كنت دائما في حالة انتظار دائمة لذاتي التي تهرب مني الى البعيد ثم تعود وتبدأ بسرد أحداث خيالية وقصص أروع من التي تخبرها الجدات لأحفادهن …) الأنا هنا مشطورة الى شطرين : ثابت / متحرك…يتوجه المتحرك الى الاقاصي ليقتنص الحكايا ،ثم يسردها على الشطر الثابت وبالطريقة هذه يتحرك الثابت (حركة اعتماد وليست حركة نقلة) وفق منطق معتزلة البصرة ..ويتزامن هذا السرد الشفاهي / الحكي كلغة مع أول كبت بشكل اللاوعي..لكن قبل هذا السرد الذي طوقناه بقوسين وضمن مشغلي في القراءة المنتجة : ثمة وحدة سردية صغرى لها وظيفة الخلية الموقوتة في الفضاء الروائي كله..(لطالما وقفت على مسافة من حياتي وتركتها تحدث ،لعبت دور المتفرج فيها .انفصلت بشكل أو آخر عن الواقع كأنه لايعنيني…/7)..هذا الانفصال / لايخلو من انفصام وكلاهما نتيجة لسبب ٍ يستحق البحث عن جذوره… وخطوة اخرى ستخطوها للخلف قراءتي، سأثبّت المقتبس / المقترض من نيلسون مانديلا..(إني أتجوّل بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجز ان يولد .وليس هناك مكان حتى الآن أريح عليه رأسي .)..هذا المقتبس له وظيفة القناع ،فتثبيت اسم مانديلا سيوهم فعل القراءة اننا امام رواية سياسية، وحين أرفع اسم الثائر منديلا فأن هذا الهدب من أهداب النص ،يومىء الى مهيمنة الرواية ، حيث الشخصية الرئيسة..تعيش (منزلة بين منزلتين) فهي لاتنسب الى الاحياء ولا الى الموتى ..

(*)

تحاول الطفلة ان تشكل نصا سرديا من مخيالها العفوي، لكن الذوق الارستقراطي لأمها يسارع الى إخصاء مخيلة ابنتها ..(أخفت أمي عني جميع آنية المنزل وقطع الكرستال المنحوت منها أشكال صغيرة لأنّها على يقين بأني على غفلة منها سأفرش القماش على أرضية غرفتي وأصنع قصراً أو قلعة وأرتّب الأشياء ثم أبعثرها مرات عدة ، حتى أصنع ذاك العالم الخيالي الذي أمضيت ُ ساعات طويلة مع أصدقاء وهميين يتحدثون ويتهامسون ويتشاجرون…/ 7) أن آنية المنزل وقطع الكرستال هي الحروف الابجدية الاستعارية للطفلة ويمكن اعتبار ماتصنعه الطفلة بمثابة (ميلاد اللغة في استقلاليتها عن الواقع ) حسب دي فالنس.. وحين يطوّقها هذا الفراغ العاجي كستائر المنزل، ستبحث الطفلة عن منابع سردية أخرى ..(وعندما كنت أجدني وحيدة ، من دون جميع تلك الأشياء ، لم أكن أحزن . كنت أطل من شباك غرفتي ،المحمي بشبكة حديدية ، وأتأمل الطرقات والمارة وأبدأ بنسج حكاياهم…) ان عينيّ الطفلة لاتشبهان عين الكاميرا، فالثانية تلتقط المرئي وتكتفي.. لكن في عينيّ الطفلة يتزامن الخيال مع الرؤية ، هل اقول يتماهيان ؟ ان فاعلية الخيال لدى الطفلة هي محاولة ملء عفوي للفراغ العاجي كستائر المنزل ..وهنا تتساءل قراءتي : هل الخيال محاولة الطفلة للتملص من والد شديد الحماية لعزل ابنته عن العالم الخارجي وأم متقعوقعة على نفسها ؟ وكلاهما يحذفانها الى هامش مسيّر وبالطريقة هذه ..(كان الآخر دوما لغزا محيراً بالنسبة لي، عالماً يجب أختراقه ومعرفة مايدور فيه../7) مابين القوسين ، أقرأه تراسلاً مرآويا بين الأنا/ الآخر..،،إن رغبة الإنسان هي رغبة الآخر ،، حسب جاك لاكان . وبالنسبة للساردة بخصوص اختراق الآخر ..(كانت رغبة أحسبها أبصرت النور قبلي وتلقتني عندما لفظت ُ أول أنفاسي لتسكنها، وعاشت الأنا التي تخبرني الحكايا مع ذاك الآخر وبقيت الأنا الأخرى حبيسة قفص تتفرج من خلف قضبانه ../8)..الشخصية الساردة والتي اسمها (سحر) تسكن ذاتا متشظية الى أنوات عدة..فرغبتها ولدت قبلها والانا لديها عاشت مع الآخر البعيد (ذاك الآخر) والأنا مقموعة / حبيسة…ان البارانويا هي الشحنة الكاملة لما تلفظت به سحر وكلامها كلام نخبة ينضوي ضمن التحليلنفسي والمفتاح الذي حصلنا عليه هو (مفتاح اللاوعي هو كونه يحدث تأثيرا كلاميا، أي كونه بنية لغوية. لذا ينبغي لنا أن نستكشف اللاوعي من خلال عالم اللغة…/64- حسب جان ميشال بالمبي)..وهذه الحالة المرضية تعيها سحر جيدا..(كأن هذه (الأنا) التي من المفترض ان أكونها (أنا) مسبقة ولدت قبل أن أكون كائنا حياً .كأنها داهمتني وأنا في بداية العقد الثالث من عمري لتقول لي آن لك أن تكونيني .أنت لست أنت .أنت (أنا) وكناسكة نذرها الله لتكون له،كنت أصبح ملكاً لقوة لاأرادية لاأستطيع أن ألمحها ولاأراها، لكننيّ كنت أشعربها في كل التفاصيل../67)

(*)

لاتتوقف (سحر) عن التخييل المسرود بفرشاة لامرئية، فهي عندما تتأمل الخرائب من شرفة البيت تكون الرؤيا كالتالي..(تراءى لي مراراً شبح رجل يخرج من بين الأسمنت المفتّت أرضاً .رجل أشيب يشبه والدي كثيراً، أستحضرت أهل الحي في ذهني ورسمت إمرأة لذاك العجوز ورسمتهما في تقارب وتوّحد عاطفي وحنون ،زيّنت مخيلتي تلك الجدران الخاوية بلوحات عدة وصور لأطفال يلهون بحرية في الردهة ،بينما تفوح رائحة الطعام الشهي من المطبخ، ملأت المكان بالزوار وهديا العيد والموسيقى وكل ما افتقدته في ذاك الوجود اليابس ،الصلب والمزّيف وفي كل مرة كان صوت أمي ينتشلني من أحلام اليقظة…/ 24) بخيالها المتيقظ أثلت بيتا لعائلتها ، انتزعت الأب من جهامة الاسمنت ، وبالتقارب والتوحد العاطفي ملأت الهوة بين والديها..وبالتصاوير خلّصت الجدار من عريه، ومنحت

الاطفال حرية عائليا والمطبخ…تضوعت بروائح شهية والمكان جعلت مضاءً بالموسيقى والهدايا والصخب اللذيذ ،

(*)

تتزامن اتصالية الواحد / الكثرة ، بغياب الأب في سفرة عمل الى الكويت، فتتحرر(سحر) من الواحد / مطلق العائلة ،وتكون الكثرة ، بمنزلة المعادل الموضوعي .. (كان هناك رجال عدة ملأوا الحجرة والبهو الذي امتدت أمامه حديقة فسيحة وتوافق الأمر الى حدة التوهج والإثارة التي كنت بحاجة اليهما…/ 28)..ومن بينهم ستمّيز (سحر ) مفتاح أحلامها..(كان ينظر إليّ بين الجموع .يدنو ثم يبتعد وما إن أنظر الى الوراء حتى يكاد يختفي..)..ان هذا الحلم الآيروسي ، لايخلو من جمالية الهشاشة المصنّعة كالخزف ..(جميع ما أحاط بنا كان مكسواً بالخزف ) وستخبرنا سحر نفسها عن خزفية اللحظة..وهي تتحسس تضاريس جسده ولكن حين تحاول الإمساك به تستدرك ..(أنه ليس موجودا) وستخبرنا (سحر) عن قسوة غياب الأب (وأدركت كم كنت أشتاق الى والدي ) وسينوب الآخر المجبلول من ماء أحلام اليقظة، عن ذلك الشطر المتحرك عن ذاتها، وسيمنحها هذا الآخر/ الذكري وهم حرية الأجنحة..(تركته يصحبني كل مرة الى مكان مختلف حسب مشيئته..)

(*)

(سحر ) فتاة في سن المراهقة وبغياب الأب المرّبي وبحضور الأم المتقوقعة ، وحسب اعتراف سحر..(كبرت الهوة بيني وبين الحياة واذا نفسي تتوه مني وتختفي عن ناظري لتنحني الى الأمام في مكان مختلف تهمس لها فيه أصوات محمومة بأن تقترب …/29) وسحر هنا بين الطفولة والانوثة تشعر ان ذاتها ..(تدخل سراديب وممرات أشبه بنفق تسكنه العتمة فأفقدها ويتملكني شعور باليأس ) وحاجتها الى الآخر كمنقذ من الوحدة ،أنتقلت سحر من سلطة الأب التي تمقتها الى سلطة الآخر برضها (كنت أنتظر ذاك الآخر ليملي علي ما أفعل ، فأكون دوماً تحت أمرة سلطة عليا ترشدني وتشعرني بقوتها وشراستها …/30)..هكذا كانت البدايات فقط ، ثم جرى تجاوزها…

(*)

أختيار (سحر) لدراسة الهندسية الداخلية هي الخطوة الانقلابية الاولى نحو شعرية المكان / الأنا وليس فقط رد فعل نفسي (اشمئزازي من منزلنا الفارغ الأثاث …/31) وبالطريقة هذه ستنتقل سحر من سيولة المخيال الى شعرية الهندسة فالمدفأة تريدها مركز تجمع العائلة لكن كل ذلك لم يخفف من نسبة الجهامة العائلية..

(*)

من خلال سحر سنكتشف سامي الامل ثم الزوج ثم سامي اللعنة ،ومن سحر سنحصل على سرد سيرة سامي الوجيزة ، وماحصلنا عليه سيكون السرد الثاني، أما الاول فهو ماسرده سامي شخصيا عن حياته الى سحر بغيابنا كقراء للنص المسرود..ثم ينتهي سامي المنقذ لها من رتابة عائلتها الى سامي الكثرة النهمة فقط (كنت ألمح في وجهه رجالا تتدلى شهوتهم من أعناقهم .يسيل لعابهم في انتظار أرملة للتوقف عن الرقص ، لكي ينقضوا عليها…/59)..وبسب سوء العلاقة بينهما وبين سامي تشظت انا نحو الاسفل (كل الأشياء تحولت الى (أنا) (رولو) المحارم الورقية، سلة الغسيل التي تربض في

قعرها قطعتان من ملابسه الداخلية، وحتى المرحاض جميعا (أنا)..) ولم يقف الأمر عند الذات ،بل حتى الاشياء تسفلت (تبعني المكان بتعابير من أسى، كانت الاشياء تشبهني، ليس لأني تحولت الى علبة بلاستيكية أو جداراً من ،،البورسلان ،، فحسب بل لأنها مقبوض على نبضها وعاجزة عن الفرار…/ 60)

(*)

ثمة تصنيف حقيقي متدوال للمرأة ،ترى سحر نفسها فيه ، فهي امرأة معنفّة عائليا وهي ايضا امرأة متحررة اقتصاديا..(صرت إمرأتين واحدة يضربها زوجها وأخرى تعمل وتنتج…/91)

وسحر من خلال علاقتها مع عشيقها ربيع تستعيد مفقوداتها..(أشعر بروحي الفارّة تعود إليّ../81)

وحين تنتظر الى عيني ربيع تعترف..(أخرجت نظرات ربيع إليّ امرأة وديعة ومجنونة ، امرأة غاضبة وهادئة..) وعلى مستوى هلوساتها تعترف..(في مخيلتي، رأيت امرأة ممددة على بعد واسع في أفق غامض ، يكاد يكون في اتساع البحر، رأسها بين ذراعيها ينظر الى الجسد وكان الموج عاليا الى حد يجعلها تصرخ وتعانق الملح والماء ،لتستحم من كل ماليس هي، وتبلغ العميق الغامض الحقيقي…/82)

أليس هذه المرأة هي السحر تريد ان تغمر جسدها بماء احلام يقظتها ،حتى لاتطفو بل تصل الى ذلك الغموض العميق ..وهاهي سحر تعلن ..(وأدركت أني على خصام مع المرأة التي تظهر في أوهامي وتسبب لي الألم لأنها تفيض رغبة وتنازعني على ذاتي حتى تسلبني اياها .ولكنها كانت أجمل مني بكثير .دافئة وعذبة ، وكنت أراها تتقدم نحو ببط ء، وتفتح ذراعيها لتدعوني الى حضنها البعيد والناعم وكان بها ضوء يجعل دموعها تملأ عينيها وبدل ان يتوحد بها، كان جسدي المهجور والغيور، يدفعها عنه ويبعدها ، فتصرخ لكي تعود اليه ثانية ، تصرخ متوسلة فأبدأ في دفنها لأحوّلها الى امرأة تحت أرضية،كي لاتقوم بأية حركة جديدة ، وتغلق عينيها وتبقى هناك وحيدة، دون حراك…/85)..سحر هنا قررت وأد الأنا التي تحاول مصادرة ذاتها والقرار نتاج وعي امرأة متحررة اقتصاديا واخذت تتعرف الى جوهر العميق الغامض الجميل…

(*)

وكما اكتشفنا سامي من خلال سحر، سنكتشف ربيع عشيق سحر وبالطريقة السردية ذاتها، اعني سيكون نصيب القارىء السرد الثاني ، اما الاول فهو من نصيب سحر فقط وبالطريقة نفسها سنحصل

على وجيز سيرة صديقتها هالة…إذاً (الأنا) هي الصوت الاوحد في الرواية تحدثنا نفسها وضمن المنولوغ نفسه تحدثنا عن سواها: عائلتها، زوجها سامي، عشيقها ربيع، صديقتها هالة، شقيق هالة الاصولي المتشدد وبالطريقة هذه فعّل النص الروائي ثريا النص

*المقالة منشورة في جريدة الزمان / 21/ حزيران /2015

*جنى فواز الحسن / أنا هي والآخريات / الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت/ ط1/ 2012

*محمود عبد الوهاب / ثريّا النص – مدخل لدراسة العنوان القصصي / الموسوعة الصغيرة/ ع396/ دار الشؤون الثقافية / بغداد/ 1995