24 ديسمبر، 2024 5:04 م

الرهان على اللغة السردية الشعبية  البسيطة

الرهان على اللغة السردية الشعبية  البسيطة

في العادة كثيرا ما يقال ان الاديب المغترب يصبح على الاغلب منسياً ،أو على الاقل،  لا يجد بعد موته ورحيله عن الساحة الادبية من يمنح وقتا لدراسة آثار عطائه في اثناء حياته، سواء كان قد عاش حياة الرفاهية او المعاناة او الكوارث المالية او فظاعة العيش اليومي ، خاصة اذا كان مضطراً الى مغادرة بلده والعيش في غربة صعبة . في هذه الحالات يعاني الاديب أعراض اضطراب في صحته او في ابداعه او في كليهما . يشير تاريخ الأدب في كل مكان الى وجود هذا النمط من الأدباء .

دائما نجد (القلق) يحيط بالأدباء سواء من الذين يغتربون عن بلدهم أو الذين يعيشون بين احضان طبيعته رغم القهر والصعوبة. أكثر أسباب نشوء القلق حساسية هو (الموقف) خاصة (الموقف السياسي).  احيانا يفلت (الموقف) من يد الأديب – بدراية او من دون دراية –  واحيانا اخرى لا يفلت.  في الحالين تحدث اضطرابات خطيرة في حياة الأديب وفي ابداعه ، لكن الشيء الوحيد الذي يظل الأديب جاهلاً له هو المستقبل وموقف الراي العام. هل يكون المستقبل غريباً أم يكون الرأي العام غريباً..؟  هل يختمان على الأديب موقفاً خطيراً كل الخطورة سواء في حياته او بعد موته..؟.

ثمة جمع واسع من الامثلة،  العربية والعالمية، يمكن أن تتماوج في عيون الباحثين والنقاد والمطلعين،  لكن إدارة المفتاح في هذه المقالة لفتح باب الحديث عن نموذج مسيطر في الوقت الحاضر داخل ميادين الأدب الروسي أقدمه متمثلا في سيرجي دوفلاتوف ، الذي كاد الزمان ان يفتك به بوضعه في لائحة النسيان لولا لغته السردية، الشعبية، البسيطة. .

 

وفاة الكاتب الروسي سيرغي دوفلانوف عام 1990  كانت  مبكرة نسبيا  فقد ولد دوفلاتوف  ونشأ في مدينة لينينغراد. هذه المدينة معروفة بتاريخِ  نضاليٍ  متفاعلٍ،  قاده الحزب الشيوعي الروسي  قبل ثورة اكتوبر عام 1917 بما  حمله ذلك التاريخ  من ردود فعل القمع القيصري وفورات الغضب الجماهيرية مما أوجد تأثيراً عاطفياً واجتماعياً على رؤاه الروائية .

غير ان اسمه وتاريخه وكتاباته ظلت محل الجدل في روسيا  منذ ربع قرن من الزمان حتى اليوم، حيث اختلط الموقف من الأدب وعلاقته بـ(السلطة) والأديب وعلاقته بـ(السياسة) وبالجوانب العملية مع النزعات الايديولوجية الشيوعية. كما امتد الجدل أيضا الى المفاهيم والمواقف التي تواجه الاديب ،سواء كان في بلده الأم أو مغترباً في بلدانٍ أخرى، حيث يجد نفسه امام ثقافة مختلفة .

 

لم يعد موضوع (الأديب المهاجر) عن وطنه مسألة أحادية الجانب، بل صارت قضية ثقافية عامة تحتاج الى جدلٍ لفهم علاقتها بالأسس الأيديولوجية وبالمواقف السلطوية المؤثرة فيه. هذا الموضوع صار يقوم على افتراضاتٍ عديدةٍ في روسيا المعاصرة. هذه الافتراضات قد تكشف الكثير من الأمور المخفية حتى الآن، ليس فقط في ما يتعلق بهذا الكاتب، بل يتضمن ضرورة فهم التطورات المعاصرة في علاقة الادباء الروس بالسلطة السوفيتية السابقة (السلطة الشيوعية) وفي علاقتهم بالسلطة الروسية الحالية ( السلطة الرأسمالية) وموقفها في توليد الثقة بالنفس الأدبية وبتعزيز الثقة الاجتماعية بعددٍ كبيرٍ من المبدعين، الذين تفاعلوا مع النظام السوفييتي ، ومع الاحساس بالذات الشيوعية في تلك الحقبة .

 

لم يكن سيرغي دوفلانوف أسماً عادياً مرّ بالمجتمع السوفيتي السابق أو بالمجتمع الروسي المعاصر، بل هو من ضمن مجموعة الكتاب، الذين نالوا شعبية واسعة، نالوا إعجاباً وتمحيصاً ودراسة في اللغويات الادبية الروسية. لقد ساعدني الحظ في الحصول على نسخة من روايته ( الكتاب الخفي) التي كان قد كتبها في أثناء وجوده في الفترة السوفييتية حين اجتاز عتبة الثلاثين من عمره  بعد أن نشر بصعوبة أثنين من قصصه القصيرة  في إحدى الدوريات السوفيتية في بداية سبعينات القرن العشرين . انجز بعدها رواية ظلّ يحلم بنشرها ، لكن هذا الحلم ظلّ بعيداً عن التحقيق داخل الاتحاد السوفييتي، لما تحمله الرواية من افكار سردية تتضمن نقداً كامناً داخل أحداثها وحوارها يمكن اعتباره تحفيزاً لوعي جديد مضادٍ لنمط الحياة السوفييتية . وجد نفسه مضطراً إلى إرسال (الكتاب الخفي)  إلى دار نشر روسية في الولايات المتحدة عام 1977 رغم أنه كان يظن أن عملية النشر في الخارج قد تجلب له بعض المتاعب في الداخل .  

كان تفكيره الرئيسي متركزاً على قرارٍ اتخذه  بمغادرة الاتحاد السوفييتي والانتقال الى العيش غريباً في مدينة الرأسمالية الامريكية (نيويورك) حيث احتضنته بعض الصحف الكبرى لنشر مقالاته وابداعاته الادبية وسرعان ما حقق نجاحاً كبيراً  ومذهلاً.  في البداية، أطلق صحيفة أسبوعية تحمل اسم (الأميركي الجديد) رغم أنها لم تدم طويلاً إلا أنها حققت شعبية واسعة وتأثيراً مهماً بين المهاجرين السوفييت الذين تدفقوا بالآلاف إلى الولايات المتحدة في أواخر السبعينات المنصرمة، حسب أخبار روجتها بعض الصحف في ذلك الوقت. اعتاد دوفلاتوف أن يصدر كتاباً واحداً كل عام من أعوام إقامته في الولايات المتحدة الامريكية وقد تولت دار (مطابع المهاجرين) الروسية مهمة النشر. تميزت أعماله التي بلغت 12 كتاباً في غضون 12 عاماً، بأنها كانت تنشر على نطاق واسع في دوريات أميركية مرموقة مثل مجلة ا(النيويوركر) . كما كانت تترجم إلى لغات عدة.

رغم ما أصابه من نجاح وشهرة في أوائل وجوده في نيويورك ، لكن لم تظهر رواياته في الاتحاد السوفييتي إلا في أواخر الثمانينات، حين شرّعــت (البـــيــريســترويكا ) و(الغلاسنوست)  الأبواب أمام إعادة طباعة ونشر أعمال الكتاب الروس، المهاجرين والمعارضين. وما أن بدأت أعماله تصل إلى الجماهير الروسية، حتى توفي جراء أزمة قلبية في نيويورك في آب (أغسطس) 1990، قبل عشرة أيام من بلوغه التاسعة والأربعين وقبل عام واحد من وصول النظام السوفييتي إلى نهايته. كان يدعو الى اقامة مجتمع جديد يحترم الحرية الفردية على اساس عقد اجتماعي ذي نزعة انسانية رغم انه لم يدعو الى تطبيق النظام الرأسمالي .

في العقد التالي، اتسعت دائرة شهرته الأدبية في روسيا تدريجياً، لم يعد مجرد كاتب معروف على نطاق ضيق، بل أصبح اسماً مألوفاً ومن أهم أدباء الحداثة الروس في مقالاته وسردياته، النظرية والرمزية ، مناقضا المواقف الايديولوجية الشمولية وهكذا اصبح من كتاب رواية الحداثة الروسية.

 تـُرجمت كل أعماله  إلى الإنكليزية باستثناء كتاب واحد فقط (تلال بوشكين) اعتبره بعض النقاد  أنه (غير قابل للترجمة) لما يحتويه من مصطلحات وأمثال شعبية روسية  ذات نبرة خاصة تتميز بالتوتر وبنوع من ثقل الصراع الثقافي ، لكنّ ابنته كاثرين المطلعة جيدا على افكار والدها وعلى طبيعة استخدامه لتلك الامثال فأنها  تولت المهمة قررت ترجمته بنفسها بعد أن رفضت دور نشر عدة ترجمات سابقة. وأعيد إصداره أخيراً عن دار (كاونتر بوينت) في الذكرى الثلاثين لإصداره الأول.

تخليدا لذكرى ميلاده السنوية نشرت في روسيا روايته الاخيرة تحت عنوان (خطاب بلا ذريعة)  او (أعمدة المحرر) في طبعتها الأولى، كانت الرواية  قد احيطت ، في موسكو،  بعددٍ من احتفالات التكريم  لهذا الكاتب الروسي ، الذي حاول في كتاباته مزج  مشاعر متوافقة بين (الوطنية) و(الغربة) . كان صدور الكتاب أول اختبار لمدى شعبيته الحاضرة في المجتمع الروسي وقد بني الاختبار على مدى بيع ورواج كتابه ،الذي طبع منه في طبعته الأولى 27000 نسخة عام 2006 وجدت طريقها للبيع المباشر بأكثر من 20 ألف نسخة في فترة وجيزة تناقلته أيدي النقاد خصوصا والمثقفين الروس بصورة عامة، لكن اعيد طبع هذا الكتاب في العام الماضي. تشير بعض الاحصاءات المكتبية والإشارات الصحفية الى ان الكتاب يتصدر مبيعات مكتبات موسكو.

 

قد يندرج الكتاب، الصادر بالروسية، كما اشار بعض قرائه تحت نوع أدبي- ابداعي له علاقة بتاريخ الافكار و بتاريخ التطور المعرفي الذي واجهه دوفلاتوف في منفاه بالولايات المتحدة الأميركية، لكنه كما يقول بعض كتاب الصحافة الروسية ان الكتاب الاخير، مثل كتبه السابقة، يحمل اجزاء من سيرته الذاتية كان قد كتبها في اعمدة متتالية لصحيفة اميركية تنشر باللغة الروسية اسمها (نوفيل اميركانتس)  وهي الاعمدة التي حررها في نيويورك خلال الفترة 1980-1982 .

 

ليست ارقام مبيعات الكتاب مؤشراً وحيداً على وجود شعبيته في روسيا، بل اشارت الصحف الى ان العديد من الممثلين المسرحيين الموسكوفيين كرّموا كاتبهم سيرغي دوفلاتوف بطريقتهم الخاصة حيث كرسوا له عرضا خاصا مساء الثالث من سبتمبر 2006 وهم يرددون على شبابيك المسرح مقتطفات من رواياته، معظمها عبارة عما يفضله (المسرح الوثائقي) الرائج في روسيا في الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد حضرت زوجة  الكاتب وأبنته، إلينا وكاتيا دوفلاتوف، المقيمتان في الولايات المتحدة، الى موسكو لكي تعرضا روايته الاخيرة.

 

حين هاجر دوفلاتوف الى الولايات المتحدة عام 1978،  لم تكن  مؤلفاته قد وجدت طريقاً إلى النشر  في الاتحاد السوفيتي مطلقاً، لكن بعد نشرها في امريكا وجدت رواياته طريقها السريع الى ترجمتها لعديد من اللغات الأوروبية والى اليابانية، وهي تروي من خلال تجاربه كحارس في احد السجون، وكدليل وثاقي، وكصحافي نشيط ، صعوبات الحياة السوفيتية.

 

من بين ما كتب دوفلاتوف كان نقده لردود الفعل السوفيتية عند المهاجرين الى الولايات المتحدة، وعن نقص التسامح الملقن لهم في الاتحاد السوفيتي، كان يناشدهم أن ينتقدوا أنفسهم أولاً بدلاً من الاكتفاء بنقد النظام الشمولي، إذ يقول:  (( الزعماء السوفييت ليسوا كائنات قادمة من العالم الخارجي، بل أن جميع أعضاء السلطة السوفيتية هم من الناس الذين انبثقوا من نفس مجتمعنا  ، )).

 

في اعمدته ظهرت، للمرة الأولى، نماذج شخصياته الروائية، منها على سبيل المثال رواية (المنطقة) التي لم يكتشفها القارئ الروسي، ولم يكتشفوا وقعها المؤثر على الجغرافيا السياسية السوفييتية الا في التسعينات أي بعد وفاة دوفلاتوف.

 

اثبتت الاحتفالات الخاصة لتكريمه ان سيرغي دوفلاتوف ما زال واحداً من المؤلفين الاكثر حداثة وشعبية في روسيا الذين لم يتخط الزمن كتاباتهم. إذ  أأعرب اركادي فيتروك مدير دار ماشاون للنشر عن سروره لصدور هذا الكتاب الذي يضم المقالات التي كتبها دوفلاتوف في مجلة امريكانيتس (الأميركي الجديد) الصادرة باللغة الروسية ، التي تولى ادارتها في نيويورك من 1980 الى 1982،  كما قال بيوتر فايل الناقد الأدبي الذي عمل مع دوفلاتوف في مجلة الاميركي الجديد ان (العديد من الكبار تلاشوا في السنوات الأخيرة، الا ان شهرة دوفلاتوف مازالت راسخة). ثم اضاف (لم يستخدم أبداً اساليب عنيفة، فمؤلفاته تخلو من الاثارة، لكنه راهن على اللغة البسيطة والواضحة، هذا ما ادى الى استمرار تأثيره). لم تحمل سردياته اية حماسة ضد وطنه ولا اية حماسة في التنطير الفكري البورجوازي.  المعروف عنه أنه يكتب بأسلوب خاص متميز وغير معقد . جمله مقتضبة تتميز بالبساطة القصوى، تشبه الأقوال المأثورة وهي تخفي عملاً دقيقاً في أسلوبٍٍ قائمٍ على (الانتباه) و(التعقيب) و(الجدل) . يبتعد عن العبارات المشحونة بالانفعال ، مقتربا دائما من قيم الخير والعدالة الاجتماعية والمساواة .

 

ذكر بيوتر فايل بأن الشاعر يوسف برودسكي، الحائز جائزة نوبل للآداب في 1987، كان يحب دوفلاتوف كثيرا، ويقول عنه (انه كان الكاتب الروسي الوحيد الذي تقرأ نصوصه حتى نهايتها..). في نصوصه يجد القراء  أسلوباً ثورياً في الكتابة، ولغة خفيفة الظل، وأفكاراً تتسم بالبساطة والإيجاز، مما جعل  الجمهور الروسي  يعشق كتاباته، رغم  أن بعض النقاد يأخذون عليه ابتذال لغة بعض شخصياته القريبة جداً من الواقع. لكن قدر دوفلاتوف أن يولد ويعيش في الاتحاد السوفياتي، حيث لم يكن بإمكانه نشر رواياته المتحررة، وحين حُرم من شعبية يستحقها، اندفع بقوة إلى المنفى.

 

 

سيرغي دوفلاتوف نموذج فريد لمواطنٍ بذل مجهوداً خاصاً متعدداً ليكتب له الخلود في مجتمع ولد فيه ونما بين مواطنيه ومعاناتهم  وتحمل فيه كثيرا من الضغوط، ثم انتقل الى المنفى ليضطلع بدورٍ حرٍ (كي يورث جينات كتاباته الحرة الى اجيال مقبلة من ابناء روسيا وأدباءه)..

 

كم يا ترى من الأدباء المنفيين العراقيين، بإمكانهم تحريك منجزاتهم الابداعية ليصبحوا قادرين لزمن طويل على البقاء  بعيداً عن وطنٍ يشهد بقايا الدكتاتورية السابقة ، ويواجه أشكالاً متعددة من   النفاق السياسي ، ومن الطائفية السياسية،  ومن احتكار السلطة ، ومن غياب الغطاء المؤسساتي في بناء الدولة العراقية الجديدة المفترض أن تكون متميزة بالقدرة على  خلق ونشر مبادئ الديمقراطية وعلى ثقافة الحرية ، لتمكين الأدباء العراقيين، سواء في داخل الوطن او خارجه ، توريث خصائصهم الابداعية لأجيال لاحقة كما فعل سيرغي دوفلاتوف؟