لعل من أبجديات الواقعية السياسية وأولويات الممارسة الديمقراطية ؛ وقوع الاختلاف في المرجعيات الإيديولوجية ، وحصول الخلاف في المصالح الاقتصادية ، وبروز التناقض في المطالب الاجتماعية ، وانبثاق التعارض في التطلعات المستقبلية . فان حصل الإجماع على الأولى ، والتوافق على الثانية ، والتراضي على الثالثة ، والاقتناع على الرابعة ، تكون احتمالات سلاسة التعامل بين الأطراف المتنابذة ممكنة ، وشفافية التواصل بين القوى المتنافرة مرجحة ، إن لم تكن مؤكدة . والا فان التقاطع في الارادات ، والاضطراب في الذهنيات ، والاحتراب في العلاقات ، سيكون واقعا”لا مفر من مواجهته . وكما في كل مجالات الفعل الإنساني القصدي ، حيث تتطلب النضوج في الوعي وتستلزم المرونة في التعامل ، فان الانكفاء في التفكير الواقعي والنكوص في التدبير العملي ، قمين بقطع مسالك الحوار البيني وإغلاق قنوات التفاهم المشترك ، بحيث يطلق العنان لانفلات النوازع البدائية ، ويشرع المجال لهياج النزاعات العصبوية . وإذا كان ضيق الأفق وبلاهة التصور وسرعة الانفعال وديمومة الانغلاق ، هي من سمات التكتل المذهبي وقد استحال إلى تحزب طائفي ، فان تعصب الآراء وتطرف المواقف وعدوانية السلوك ، هي ما يميز الطائفية السياسية بعد أن حازت على السلطة واستولت على النظام – بقطع النظر عن الكيفية التي حققت بها تلك الحيازة وذلك الاستيلاء – بمعنى إن كل تكوين عصبوي مسوق ، بدافع الحفاظ على نقاءه السلالي / الشوفيني أو تميّزه الديني / التكفيري ، إلى إظهار علائم العزلة الاجتماعية على صعيد التواصل مع الآخر، والمماهاة السيكولوجية على مستوى التفاعل مع الذات ، طالما انه لا ينشد التعاطي السياسي المباشر لضمان حقوقه ، ولا يؤثر الحراك الحزبي الآني لصيانة مصالحه . ولكن حالما تغويه السلطة وتغريه المكاسب وتستهويه الامتيازات وتستدرجه التطلعات ، حتى تتحول وداعته الظاهرية إلى عدوانية شرسة لا تستكين ، وتنقلب مسالمته الشكلية إلى عنف أعمى لا يرحم . بحيث تتغير علاقات التحاور والتآصر إلى منطلقات للتشاجر والتناحر ، وتتبدل خطابات التصافي والتراحم إلى مثابات للتجافي والتخاصم ، للحد الذي يستحيل معه شريك الأمس إلى مشرك اليوم ينبغي استئصاله والتخلص منه . ولأن رهان الطائفية السياسية قائم على الاستئثار بغنيمة الدولة ، لا بصيغتها المؤسسية القائمة على حق الغير / الآخر في اعتلاء عرشها وامتلاك سلطتها ، على وفق مبدأ التداول السلمي والانتقال الحضاري ، وإنما بصيغتها الاستحواذية الممهورة بنزعة التسلط العصبوي والطغيان الفئوي . مما يعني إن أي تطلع مغاير يروم المشاركة في إدارة شؤون المجتمع ، أو أي نزوع مختلف يتوخى التقاسم في قيادة دفة الحكومة ، لا يلبث أن يواجه بوحشية وقساوة غالبا”ما تفضي إلى إراقة الدماء ، حتى وان كانت المطالب التي ينشدها معقولة والغايات التي يتوخاها مشروعة والأهداف التي يؤثرها مناسبة . والانكى من ذلك كله ، أنه كلما استذوقت الجماعات الطائفية طعم السلطة ، واستعذبت الإمساك بمقاليدها ، واستمرأت حمل صولجانها ، كلما استأذبت في الدفاع عن عرينها ، وكلما استوحشت في الردّ على كل من تعتقد بأنه ينافسها كعكتها ويشاركها غنيمتها . وهكذا فبعد أن أدركت رموز طائفيتنا السياسية ؛ إن الأمور بدأت تخرج عن نطاق سيطرتها التي كانت تظن أنها أبدية ، وان المؤشرات باتت تنذر بخطر عزلتها في محيطها الذي زعمت أنها تمتلك زمام توجيهه ، وأن المعطيات أضحت تؤكد هزال قبضتها على خيوط اللعبة التي توقعت أنها نسجتها بإحكام ، وان الناس الذين راهنت على سذاجتهم واستغلت عواطفهم وتلاعبت بعقولهم ضاقوا بها ذرعا”، على خلفية وئد آمالهم وانتهاك حقوقهم واستباحة حياتهم استفحال أزماتهم وتفاقم تناحراتهم وتزايد احتقاناتهم وتراكم همومهم . نقول إزاء كل هذه الانهيارات والتداعيات ، لم تجد تلك القوى المتخلفة أمامها من سبيل ، سوى العزف مجددا”على أوتار نغمتها الطائفية المقيتة ، والرهان مرة أخرى على بقايا تعاويذها الخرافية السمجة ، علّها تجد فيها ما ينقذها من رزايا هذه الورطة ويعيد لها اعتبارها الكاريزمي المتآكل . ولهذا نجد أنها تخلت عن كياستها المصطنعة وخلعت رداء تحفظها الفضفاض ، حيال زعمها الرامي إلى كونها جزء أساسي وليس الوحيد ضمن سبيكة الوحدة الوطنية ، وهي مكوّن حيوي وليس الأهم في إطار وحدة المجتمع العراقي ، وهي لون زاه وليس الطيف الأوحد ضمن موشور الشخصية العراقية . ولأنها لا تفقه مرمى السياسية ولا تفهم كنه السلطة ، فان النزعة الطائفية لا تنظر لفكرة الديمقراطية بعين الرضا ولا تقيم لها وزنا”، إلاّ وفقا”(لمبدأ الأكثرية) العددية الذي يعدّ صيغة من صيغ تجلياتها المتعددة ، فقط إذا كان يناسبها كوسيلة لامتطاء صهوة الدولة واعتلاء سدة السلطة ، والا فلتذهب الديمقراطية وما تشتمل عليه من قيم ومبادئ إلى الجحيم ، بالرغم من أن المتخصصين في حقول علم السياسة والمتفقهين في مجالات القانون الدستوري لم يألوا جهدا”– بضوء معطيات التجربة وتداعيات الممارسة – لإعادة النظر قي وجاهته النظرية ورجاحته العملية . بعد أن ثبت بالوقائع المرّة والفضائع الدامية ؛ إن الأغلبية المجردة من الوعي بالآخر كشريك والمنزوعة الإحساس بالغير كمواطن ، لا يمكن إلاّ أن تتصرف بوحي من غطرسة التفوق الكمي ونشوة الاقتدار بالحشد ، باعتبار إن (( نفسية الجماهير – كما جادل غوستاف لوبون – تبين لنا إلى أي مدى يكون تأثير القوانين والمؤسسات ضعيفا”على طبيعتها الغرائزية العنيفة . كما وتبين لنا إلى أي مدى تبدو عاجزة عن تشكيل أي رأي شخصي ما عدا الآراء التي لقّنت لها أو أوحيت إليها من قبل الآخرين . ولا يمكن للقواعد المشتقة من العدالة النظرية الصرفة أن تقودها . وحدها الانطباعات التي يمكن توليدها في روحها يمكن أن تجذبها )) . ولعل هناك من يعترض علينا بالقول – وهو بذلك محق بلا أدنى ريب – انه إذا كان الحال هكذا مع تمظهرات سيكولوجيا الجمهور المستقطب عنصريا”والحشود المجيشة مذهبيا”، فكيف ، يا ترى ، تسنى لها تحصيل الوعي بأسباب الحيف الواقع على كاهلها ، واستشفاف بواعث المعاناة التي تتجرع مرارتها ، بحيث شرعت – بعد أن نفظت أيديها من أمكانية الإصلاح والتغيير – بسحب البساط من تحت أقدام الكيانات الطائفية ، التي كانت تمحظها الولاء المطلق وتضفي عليها طابع القداسة ، والتعاطي معها باعتبارها رمزا”من رموز التخلف وعنوانا”من عناوين الانحطاط ، متوخية بذلك إجبارها على تبديل سياساتها المتطرفة وتحويل مواقفها المتعصبة ، وإلزامها ، من ثم ، على الإقلاع عن نهجها الاستئثاري والتخلي عن خياراتها الاقصائية ، كما ألمحنا سابقا”؟! . الواقع إن الذي حمل تلك القوى الطوائفية لاستنهاض حميتها واستنفار طاقاتها ، لم يكن بأي حال من الأحوال مبعثه تطور فاهمة الجمهور بمصادر مشاكله واستيعائه لجذور أزماته ، بحيث تطلب إعادته إلى حضيرة الإذعان للطقوس المفبركة والخنوع للمقدسات المزعومة ، بقدر ما كان تعبيرا”عن إدراك تلك القوى / الكيانات لواقعة ؛ إن سبل التهدئة التي فرضت عليها وأساليب الترقب التي سيقت إليها ، لم تعد تتماشى ونزوعها الرامي إلى إحكام قبضتها في الهيمنة السياسية ، وتوسيع مدى قدرتها في الاحتواء الاجتماعي ، وتشديد صرامة إجراءاتها في التنميط الفكري ، بعد أن برزت إلى الساحة العراقية دعاوى – ولن نقول قوى أو تيارات – تنازعها بالأقوال لا بالأفعال وتتشاطر معها بالادعاء لا بالمصداقية ، للمطالبة بتصحيح مسار العملية برمتها ، وفقا”لاستحقاقات (مبدأ التوافق) الذي لا ينم بحد ذاته عن جوهر الفكر الديمقراطية ، بقدر ما يشي عن تبعات نظام المحاصصة سيء الصيت . وهو ما يرجح احتمالات بقاء الأوضاع المضطربة قائمة واستمرار الظروف المأزومة سائدة ، إن لم تزداد تفاقما”واستفحالا”من وجهة نظر المستقبل . وهنا تظهر ، للمرة الثانية ، تلك القوى مقدار الجهل الذي تتمتع به حيال قوانين الصراع وسذاجة التصور الذي تحمله إزاء أواليات التفاعل ، التي لا مناص من أن تتمخض عن تصادم الارادات وتضارب الغايات وتعارض الخيارات وتناقض الرهانات ، بحيث أنها لم تعد تستشعر مخاطر تمسكها برهان (الطائفة الكبرى) ، وإصرارها على التخندق خلف دهاليز الذهنية التعصبية . مشيحة بوجهها عن متطلبات واقع وخصوصيات مجتمع ، أثبت التاريخ وبرهنت الجغرافيا وأكدت الثقافة ، إن العراق لا يمكن أن يحكم باسم ؛ دين / طائفة ، أو عنصر / قومية ، أو قبيلة / عشيرة ، أو منطقة / جهة ، كائنا”ما تكون أهمية المزدوج الأول ، وحجم المزدوج الثاني ، وأسبقية المزدوج الثالث ، واعتبار المزدوج الرابع . ذلك لأنه وطن الجميع بلا مرجعيات طائفية ، وتاريخ الجميع بلا اثنيات عنصريات ، وهوية الجميع بلا ولاءات فرعية ، وخيمة الجميع بلا انتماءات هامشية . لذلك كم يغدو سؤال ؛ إلى متى وعلى ماذا تراهن الجماعات الطائفية ، نافلا”ولا محل له من الإعراب ، في ضوء تزاحم المعطيات وتراكم الشواهد التي تثبت أن تلك الجماعات ، وان هي شرعت بالاستحالة من طور الاستكانة إلى طور الاستبانة ، معلنة ركوبها موجة السّعار الطائفي مجددا”، على وفق أساليب التهييج النفسي والتحشيد الرمزي ، التي تتقن فنونها وتبرع في ممارستها . إلاّ أنها لا تعي إن كيدها سيرتد إلى نحرها إن عاجلا”أم آجلا”، لا بمنطق الوعي الاجتماعي والتنوير الفكري – فتلك على أية حال مسألة يطول انتظارها – وإنما بضرورات السياسة ومقتضيات الاجتماع .
[email protected]