4 فبراير، 2025 7:44 م

الرمزية والتأمل في ديوان عدّاء حول كفِّ أبي

الرمزية والتأمل في ديوان عدّاء حول كفِّ أبي

” للشاعر جعفر حجاوي
يمثل الديوان الفائز بجائزة البابطين عام 2024 والصادر عام 2022 عن منشورات تكوين للشاعر جعفر حجاوي، تجربة شعرية غنية تعتمد على لغة مكثفة وصور رمزية تعبر عن موضوعات وجودية وعاطفية متعددة. يتميز هذا العمل بتوظيف إمكانيات اللغة لخلق معانٍ غير تقليدية، حيث يجمع الشاعر بين الوضوح والرمزية في تقديم تجربته الإنسانية. يعتمد الأسلوب في هذا الديوان على مزج بسيط بين اللغة المجردة والرمزية المركبة، مما يفتح المجال لتفسيرات متعددة ويعزز من عمق التجربة الشعرية.
تتسم اللغة بالتنوع بين المباشرة والتجريد، مما يمنح النصوص طابعًا مرنًا ومتعدد الأبعاد. على سبيل المثال، في قصيدة “فاتحة”، يعتمد الشاعر على لغة مباشرة للتعبير عن مشاعر متناقضة من الحب: “أكتبُ الآن كي لا أحبَّكِ أكثرَ، أو كي أحبّكِ أكثرَ”. تعكس هذه الجملة التناقض العاطفي وتبرز الأسلوب الذي يعتمده الشاعر في تبسيط اللغة مع الاحتفاظ بعمق المعنى. أما في قصائد أخرى مثل “ظلّ ناقص… روحٌ زائدة”، نرى تطورًا في استخدام الرموز والتعابير المجازية التي تفتح أفقًا للتأمل الوجودي.
يشكل موضوع الفقد محورًا أساسيًا في الديوان، حيث لا يقتصر على الفقد الجسدي بل يتعداه ليشمل الفقد العاطفي والوجودي. في قصيدة “إلى أبيه في جنازته”، يعبر الشاعر عن مواجهة الموت من خلال استخدام الرمزية: “هذا هوَ ابنكَ، قيلَ: مبتسمٌ… للموتِ يمشي واثقًا لبقِا”. تربط هذه الصورة الفقد بالقوة الداخلية التي يكتسبها الفرد في مواجهة الموت، مما يعكس قدرة الشاعر على تجسيد المشاعر الإنسانية العميقة باستخدام الرموز.
يستخدم حجاوي التكرار والبناء المتوازي كوسيلة لتكثيف العاطفة في قصائده. في قصيدة “ظلّ ناقص… روحٌ زائدة”، نجد تكرارًا للعناصر المجازية التي تعزز من التوتر الداخلي: “أنا مشيئةُ هاجسي اللغويّ… أعبُر نحوَ قاتلتي مجازًا، ثمّ أقتلُها مباشرةً: أحبّكِ”. يعكس هذا التكرار حوارًا داخليًا بين الشاعر وذاته، مما يجعل النص ينبض بالحيوية الدرامية.
تتواجد التأملات الفلسفية بشكل واضح في هذا الديوان، حيث يطرح الشاعر أسئلة وجودية حول الهوية والذات. في قصيدة “من أنا؟ من أكونُ؟”، يستخدم الشاعر الأسلوب الفلسفي للتعبير عن قلقه الداخلي: “من أنا؟ من أكونُ؟ ضلالًا وتيهًا يسيرانِ بي، أم هدى؟”. تعكس هذه التساؤلات الأسلوب التأملي الذي يعتمده حجاوي، حيث يتحول النص إلى رحلة فلسفية عميقة تتناول طبيعة الوجود.
يعتمد الشاعر على الصور الحسية لربط العواطف بالعالم المادي. في قصيدة “عدّاءٌ حول كفِّ أبي”، يصور العلاقة بين الأب والابن من خلال صور حسية تجسد الجهد والعمل: “عن شقوقٍ على كفّيكَ ناشفةٍ، تروي لطفلِكَ معنىَ لقمةَ السَغبِ”. تعكس هذه الصور الأسلوب الواقعي في تجسيد العلاقات، مما يعزز من قوة النص في تقديم تجربة إنسانية صادقة.
تتجلى رمزية الحب بوضوح في قصائد الديوان، حيث يعبر الشاعر عن الحب كقوة تستهلك الذات وتعيد تشكيلها. في قصيدة “فقدتُ فمي في حديثٍ قصير مع الحبّ”، يستخدم الشاعر استعارة “فقد الفم” للتعبير عن فقدان السيطرة: “فقدتُ فمي في حديثٍ قصير مع الحبّ… دمي طازجًا -لم يزلْ-“. تعكس هذه الرمزية قوة الحب في إعادة تشكيل هوية الفرد وتحريره من القيود الذاتية.
تتميز القصائد بالتنقل بين المشاعر المختلفة باستخدام تقنيات متنوعة. ففي قصيدة “حزن قديم للعام الجديد”، يعبر الشاعر عن صراع داخلي بين الأمل والحزن من خلال استعارات حية مثل: “لا لغةٌ ستدهشُ وردةً لتعيدَ دورتَها وتنموَ من جديدٍ”. تخلق هذه الصورة توازنًا بين الطبيعة الحية المتجددة والحزن المستمر، وهو ما يعكس الأسلوب الفني الذي يستخدمه الشاعر لتوظيف الطبيعة كرمز للحالة النفسية.
تحمل القصائد طابعًا سرديًا أحيانًا، حيث يستخدم الشاعر أسلوب السرد الشعري لبناء مشاهد تحمل في طياتها دراما داخلية. على سبيل المثال، في قصيدة “رواية أخيرة عن الليل”، يسرد الشاعر أحداث الليل ويخلق حوارًا بين الذات والعالم المحيط بها، مستخدمًا أسلوبًا يمزج بين السرد والتأمل: “أدركتُ حينئذٍ ما اللهُ يهمسُ لي، على شفاهِكِ، وانحلَّ الذي انعقدا”. يتيح هذا الأسلوب للشاعر تقديم رؤيته الوجودية من خلال تجربة شخصية، مما يجعل النص أقرب إلى القارئ.
يمكن ملاحظة أن الشاعر يستخدم التكرار كأداة لتكثيف التأملات الوجودية، سواء في الحب أو الحياة أو الفقد. في قصيدة “ثلاث نبوءاتٍ لقلبٍ واحد”، يكرر الشاعر الفكرة الرئيسية عن استمرارية الحب رغم كل شيء: “في القلبِ مُتّسَعٌ لأيّ خطيئةٍ أُخرى، سوَى ألّا أحبَّكِ”. يخلق هذا التكرار إيقاعًا داخليًا يدعم المعنى ويعزز من التأثير العاطفي للنص.
يبرز في الديوان توظيف الشاعر لتقنية الاستعارات المبتكرة، خاصة في تصوير العلاقات العاطفية. في قصيدة “لو كان لي”، يستعمل استعارة القبلة كرمز للتواصل والاتصال العاطفي العميق بين الشاعر وحبيبته: “بالقبلةِ انتصر الحبيبُ على حبيبتهِ، بالقبلةِ انتصرا”. توضح هذه الاستعارة كيف يمكن لتفاصيل بسيطة في الحياة اليومية أن تصبح رمزًا مركزيًا في النص الشعري، مما يضيف بعدًا عميقًا للعلاقات الشخصية.
يتجسد أيضًا في هذا الديوان استخدام الشاعر لعنصر المفارقة والتناقض. يظهر هذا في القصائد التي تتناول موضوع الحب، حيث يتداخل التناقض بين الرغبة في الاقتراب والخوف من الفقد. في قصيدة “غريبان ومقعدٌ واحد”، يعبر الشاعر عن هذا التناقض بوضوح: “أحاولُ ألّا أكونَ غريبًا… وتقولُ: تعال لنشربَ غربتَنا من فمٍ واحدِ”. يتلاعب الشاعر بفكرة الغربة والانتماء بشكل رمزي، مما يعزز من الأبعاد النفسية للنص.

يقدم جعفر حجاوي تجربة شعرية عميقة، تتميز بالرمزية والتأمل في مشاعر الفقد، الحب، والهوية. يعتمد الشاعر على لغة مكثفة تجمع بين البساطة والتجريد، ويستخدم التكرار والاستعارات لخلق تأثيرات عاطفية وفكرية. تمزج القصائد بين الأسلوب السردي والتأمل الفلسفي، مما يفتح أفقًا لتأويلات متعددة ويعكس قلقًا وجوديًا حول معنى الحياة والعلاقات الإنسانية. تتداخل النصوص في هذا الديوان بشكل يخلق وحدة موضوعية وفنية، تعزز من تأثيره الشعري وجاذبيته الفكرية.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات