10 أبريل، 2024 1:26 ص
Search
Close this search box.

الرقيم الأرقم اعادة الاعتبار للديالكتيك الماركسي – قراءة في حوارات الدكتور عبد الحسين شعبان

Facebook
Twitter
LinkedIn

يعرّف اخوان الصفا في رسالتهم الاولى الفلسفة فيقولون :”الفلسفة أوّلها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم “. ومن المعروف أن الفلسفة تعتمد على المنطق وترتكز عليه وهو الذي وصفه أرسطو بأنه “إله العلم ” فالمنطق يقودنا إلى صواب التفكير ويساعدنا في كل الاحوال على تصحيح اخطائنا وفي فهم الظواهر التي تحيط بنا علمية  كانت أم  إجتماعية أم إقتصادية، وبذلك فإن علم المنطق وبطبعه يضيق بالحدود سواءً كانت الجهل أو الدين أو الآيديولجيا أو الموقف المعَّد مسبقاً، فإن أردت أن تصل إلى الحقيقة فيجب عليك أن تسير حسب قواعد المنطق، وعلى هذا فان المنطق يحتاج إلى الحرية وجوهر الحرية هي الشجاعة كما يقول بيركليس (باني أثينا الحقيقي ومرسخ الديمقراطية)!.
ولو أخضعنا كتابات الدكتور عبد الحسين شعبان إلى تلك المعايير لوجدناه فيها: شجاعاً، حرًّا، مستقلاً، محبّاً للعلوم والتنوّع، وذو معارف موسوعية، ويقول ويعمل بما يوافق العلم. وكثيرة هي مؤلفات شعبان التي تناولت، شتى مناحي الحياة من القانون إلى    المجتمع ومن الدين إلى الادب والشعر، ومن الاقتصاد والسياسة الى الثقافة والسيّر، ولعل حقوق الانسان، كانت الحبل المشترك والذي يربط تلك المساهمات، سواءً كانت كتاباً أومقالة أو دراسة أو ندوة أو حواراً أو محاضرة بما يقرب من خمسة عقود، فشعبان في وجه من الوجوه كتاب وقلم دون أن يخلو أو يعاف عذوبة الحياة، حتى غدوت أردّد مع نفسي ما أتذكره إقتباساً من “الراوي” في رائعة نيكوس كازانتزاكي “زوربا”: أن القمم الروحية التي نحتاج  إلى سنوات من النضال الشاق لتسلقها، فإن عبد الحسين يبلغها في قفزة واحدة وخير دليل على ذلك حواراته التي ضمها كتاب ” تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف”، فقد شكّل هذا السفر “الرقيم الأرقم” على حد تعبير صديقنا الراحل موسى أسد الكريم “أبو عمران” طيب الذّكر بالنسبة لي وحتى الان ، ومن بين كل ماكتبه شعبان.
ولا بدّ من الاعتراف بأنني أقبلت على تلك الحوارات بشوق ولكن بقلق أو توجّس في الوقت نفسه، فالعنوان يوحي بأن هناك معارك ستدور رحاها بين رأي أعرف جيّداً شجاعته وحريته، وبين أيقونات رُسمت أو قلْ نُحتت على تلك المرايا، وترقّبت انكشاف عورات وتمزّق شعارات وفضح مواقف وتحطّم أصنام يتعرى فيها، لكن ذلك لم يحصل، وهو ما رسّخ يقيني لنمط شخصية الكاتب، التي خبرتها، وعلى مدى صحبة امتدّت لأكثر من ثلاث عقود ونيّف من الزمان، عرفت فيها عبد الحسين، زاهداً، صوفياً، لا يسعى إلى خصومة ولا يوذي مشاعر حتى من تورّط في الاساءة إليه.
وما أن بدأت بالقراءة وقد أخذني أسلوب الدكتور خضر ميري في طرح موضوعات ذكية شغلت همّنا وتفكيرنا دوماً دون أن نجد لها جواباً كما هي مقولة أدونيس والتي أشار اليها د. شعبان “هذا زمن تتقدم فيه الاسئلة وينهزم الجواب”، أقول ما أن بدأت حتى وجدت أن عليّ لزاما أن أتوقف لأكون أكثر استعداداً لتلك الحوارات، والتي شعرت وعبر اسلوب الحوارات الشيقة، أنني مشارك فيها على نحو ما مستمعاً أو مستفسراً أو معقباً أو شاهداً، ولا بد من التأكيد هنا أن الحورات جاءت بمستوى ثقافي وفكري “بريختي” أن جاز التعبير، فمن المعروف أن بريخت، أبو المسرح الألماني وصاحب المدرسة المهمة في المسرح، وفي غالبية مسرحياته كان يفترض وجود حد معقول من الوعي المسرحي والثقافي لدى المشاهد، لأنه يدعو إلى التفكيرالذي يقود إلى التغيير، لا إلى التفاعل العاطفي الآني الذي غالباً ينتهي بمجرد خروجنا من المسرح.
لقد كان لزاماً عليّ أن أجمع حولي ما تيسّر لي من مكتبتي ومن الإنترنيت من مصادر ومعلومات ضرورية، خاصة وأن تركيزي على ماركس نفسه انصبّ في السابق على كتاب رأس المال بحكم دراستي وتخصصي، لذا كان من الواجب أن أعود إلى بعض الدراسات والمؤلفات الأخرى والتي كنت قد مررت على بعضها مروراً سريعاً أو قبل عقود من الزمن.
كما أن اجابات د/ شعبان ذكرتنى بالدكتور ابراهيم كبة والذي درّسني لعام كامل لمادتي تاريخ النظم الاقتصادية ومادة تاريخ الفكر الاقتصادي، ذلك المثقف الموسوعي الماركسي، حيث أعادتني تلك الحوارات إلى عصر العمالقة، على حد تعبير سيروس سالزبيرجر في كتابه المشهور “آخر العمالقة”، بعد أن ساد عصر الأقزام في الثقافة والسياسة، والتي يقول عنها سالزبيرجر نفسه “أن صغار الرجال لايستطيعون معالجة عظائم الاحداث “.
وجدت أن الحوارات لا تريد منك تأييداً أو معارضة، بقدر ما تحفّزك على المساهمة فيها فهو القائل ” أنا موجود بوجود الآخر(أنا وأنت) والإنسان أشبه بالكائن الملتبس، لأنه في حالة حوار يومي، بل “لحظي” مع نفسه وهو حوار ذاتي بينه وبين هواجسه، وبينه وبين الآخر، المختلف، المتعارض، المتباين”. انه يلخّص تجربة تاريخية طويلة ومعقدة وكمّاً هائلاً من الآراء والمواقف والأفكار لكبار الفلاسفة وعلماء الاجتماع مفكرين متعددي المدارس والمذاهب أثرت كتاباتهم ولا تزال في كثير من نواحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل إنهم صاغوا أفكارنا وحضارتنا على المستوى الفردي والجماعي ، كل ذلك من أجل أن نستطيع رؤية الراهن والمستقبلي.
ولست هنا بصدد عرض  تسلسلي لموضوعات الحوارات وهي كثيرة سواءً في مجال البحث الفكري النظري أو النقدي، أو فيما أفرز واقع التطبيق من تشويهات وأحياناً ابتذال للفكر الماركسي، ولكون العرض لايمكن له أن يفي موضوعات الحوار كلّها حقها، فسأكتفي في التعقيب على بعض المحاور في الحوارات وحتى أحياناً دون التدرّج الذي درجت عليه في الكتاب وفي كل الأحوال، فأن ما سأتطرق إليه لا يغني أبداً عن العودة  إلى تلك الحوارات نفسها، بل إنه في الواقع دعوة للعودة إليها.
الصنمية، واحتكار الحقيقة، والماركسية الرسمية، والأمية الفكرية، والسكونية، والثقافة الواحدية، وغيرها الكثير مما يشخّصه شعبان عن صواب، جعلت الماركسية واحدة من أكثر النظريات “الحديثة” عرضةً للتشويه من قبل “أصدقائها ومتبنّيها” قبل أعدائها  في حين أن ماركس نفسه أراد لأفكاره أن تكون معيناً لا قالباً، وفكراً لا صورة، فهو القائل وفي مقدّمة أهم مؤلفاته “رأس المال”: وأنا أتوجه طبعاً إلى قرّاء يريدون أن يتعلموا شيئاً جديداً ، ويريدون بالتالي أن يفكروا بأنفسهم لقد أراد ماركس أن يعطينا حروفاً نشكّل بها ما نشاء من كلمات تصلح لواقعنا وعاداتنا وتقاليدنا ودرجة تطورنا، وهم أرادوها كلمات جامدة، صوراً تصلح لكل مكان وزمان.
لقد بقوا واقفين عند شعارات “البيان الشيوعي” رغم مرور أكثر من قرن ونصف من الزمان تغيّر فيها كل شئ حتى الانسان “بشكل ما” تغيّرت معارف البشرية ووسائل الاتصال، بل وحتى علاقات الانتاج، ولا نريد هنا أن نتوسّع في الموضوع، ولكن يكفي أن نشير على سبيل المثال إلى فكرة واحدة، وحسب ذكرها ألفن هانس قبل ما يقارب القرن ” ليس العامل هو الذي يستخدم أدوات العمل، بل أن أدوات العمل هي التي تستخدم العامل”.
 لقد ظلّوا مسمرين ومشدودين إلى الماضي ناسين أو أغلب الظن غير عارفين أن ماركس وفي معرض نقده” في الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت” وعندما أراد أن يبرهن أن إضافته “الشهيرة ” إلى عبارة هيغل حول تكرار التاريخ صحيحة تماماً، يؤكد”أن ثورة القرن التاسع عشر الاجتماعية لا يسعها أن تستمد أشعارها من الماضي، بل من المستقبل فحسب” ذلك ما أراده ماركس، ولكنهم أرادوه صورة وشعاراً وأيقونة لا يجوز خدشها .ومن هنا أيضا تأتي أهمية النظرة الموضوعية التي دأب شعبان اتّباعها في كتاباته وحواراته السابقة منها أو التي بين أيدينا، الان!!
لقد كان من المفترض وعلى الأقل بعد أحداث المجر عام 1956 أو افلات تيتو من المعسكر السوفياتي أو حتى بعد ربيع براغ عام 1968، أن يقوم اليسار أو الأحزاب الشيوعية بمراجعة نقدية حقيقية، وباستثناءات أوروبية محدودة، فإنها لم تجريها حتى بعد انهيار “المنظومة”الاشتراكية في نهاية الثمانينيات، وقد كنّا ننتظر أن يقوم القادة أو المسؤولون (في الحزب الشيوعي العراقي على سبيل المثال) في مذكراتهم والتي أصدروها في الثمانينيات والتسعينيات أن يقوموا بفتح باب النقاش في مثل هذه الأمور، ولكن خيبة أملنا كانت كبيرة، فقد تضمّنت المذكرات نمطاً من “أحاديث جدتي”، عكست مستوى تلك الشخصيات، فخلقت لدرجة الاكتظاظ صراعات شخصية ودسائس ومؤامرات وحلقيات وإمتيازات وحروب اشتعلت ولم تنتهي، وكل منهم يسعى إلى النفاذ بجلده من قبضة التاريخ فتراه متهِماً وشاتماً الآخر، وخذ مثلا على ذلك كتاب شوكت خزندار “سفر ومحطات- الحزب الشيوعي – العراقي: رؤية من الداخل” وهو كتاب استفزازي وفيه إساءة قبل أن يكون إفادة وكان د. شعبان وفي معرض نقاشه له في مقالة سابقة نشرها في “مجلة المستقبل العربي” في بيروت يتساءل ” ماذا ستفيد تلك الأسماء والحكايات التي تعتّقت واستنفذت أغراضها وأزمانها”؟ وقال أيضاً” وبماذا ستنفع الناس مثل تلك الصور المشوشة، الملتبسة، المثيرة للشكوك، والتي كما يعرضها تشكّل المشهد الداخلي للحزب وبخاصة قيادته”؟.
 لم نطلّع من خلال تلك المذكرات على معالجات فكرية جادة أو مناقشة رصينة أو استعراض موضوعي للتاريخ ونقد صادق، إلاّ عرضياً أو هامشياً، وربما يكون طلبنا هذا مغرقاً بالطوباوية، فكيف يستطيع ، من كان بمثل تلك المواصفات المتدنية والقريب من الأمية الفكرية، في كثير من الأحيان، أن يعالج مثل تلك القضايا .
ومن هنا تأتي حوارات شعبان لتقوم بما عجزت عنه قيادات حزبية مجتمعة أم فرادى، كانت في قمة المسئولية لنصف قرن أو أكثر من الزمان، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن الحوارات فتحت باباً نأمل أن لا يبقى الوحيد من أجل إعادة تشكيل رؤية جديدة تمتع بنفس المستوى من الثقافة والموضوعية.
ونحن هنا طبعاً لا نبأس حق عدد، يقل أو يكثر في هذه المرحلة أو تلك، من المفكرين الذين ساهموا بدراسات وبحوث قيمة سواءً في مجال الماركسية أو غيرها من النظريات والافكار ذات التاثير الانساني الشامل، عراقياً أو عربياً.
وتلك الموضوعة تجرّنا  إلى تساؤل آخر تحدّث عنه شعبان في أكثر من موقع تمثّل في إعادة قراءة الماركسية أو قراءتها باعتبارها فكر قابل للزيادة والنقصان، وبودي أن أقول هنا ” وإن بحدّة لا أرغبها”: هل قُرئت الماركسية حقا في منطقتنا، من قبل حركات اليسار والأحزاب الشيوعية خاصة أم أنها إطّلعت عليها على عجل وهو ما أوحت به الطليعة؟ حيث تم التركيز على بعض الشعارات وكأنها أناشيد مدرسية ( البروليتاريا، فائض القيمة، المسالة القومية….الخ).
وقبل قراءة ماركس هل ثمت قراءة لتراثنا نفسه بما يتناسب وقيمته التاريخية والمعرفية؟ وهنا نكتفي بايراد مثل واحد، أورده الباحث محمود أمين العالم في مؤلفه “مواقف نقدية من التراث” يشير  إلى مفارقة تاريخية بالغة الدلالة مأخوذة عن دراسة للدكتور مراد وهبة ومفادها انه في الوقت الذي كان فيه ابن رشد ممّهداً للتنوير في أوربا كان موضع اضطهاد في أمته. ( وهو يقصد هنا عجز الواقع العربي طوال هذه القرون عن أن يستفيد من ابن رشد وان يستلهمه في تحقيق تنوير عقلاني للواقع…)، بل وأكثر من ذلك فعلى الصعيد الشخصي فقد أحرقت كتبه، ونفي بعد أن سوّدت صورته بين العوام لأنه كشف عوراتهم وخاصة في مؤلفه “تهافت التهافت “، والذي جاء ردّا على كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة”  فقد ناقش آراء الغزالي في هجومه على الفارابي وابن سينا، وقال أن الغزالي لم يفهم مقولاتهم الفلسفية على الصورة الصحيحة، وقد كان غرضه التشويش وذلك ماجلب له (لابن رشد) نقمة رجال الدين المعاصرين له (اضافة إلى موقف الخليفة أبو يوسف، المعادي للفلاسفة)، ولعل هذا مثل واحد من مشاهد واقعنا المرير!!
موضوعة مهمة تلك التي أثارها سؤال الناقد د. ميري “ألم تكن ماركسية ماركس نظرية ثورية بالدرجة الاولى؟ وهل كان ماركس مجرد مفكر تصادف أن أصبح ثورياً؟ وتأتي أهميتها في كون هذا السؤال كان مطروحا باستمرار، على أن الاجابات لم تكن دائماً واضحة فضلاًَ عن أنها ليست موحدة. وقد وجدت أن من المناسب وفي ظل هذا الحوار أن أعقب إضافة  إلى ما ذكره المفكر شعبان “قبل كل شيء كان ماركس قارئاً كبيراً ، فلا يمكن للمرء أن يستيقظ من النوم فيجد نفسه قد أصبح ماركسياً…” أن أضيف: أن ماركس وكما يصفه هادي العلوي في مداراته الصوفية: ” فيلسوف وعالم اقتصاد وسياسي ومناضل اجتماعي ومالم يقله مؤرخوه وأتباعه عنه أنه فيلسوف حكيم، والفلسفة والحكمة لا تترادفان ولكن قد تجتمعان في واحد وتفترقان في آخر”.
إن هناك أيضاً تعميماً خاطئ أرى وجوب الإشارة إليه وهو الذي يعتبر كل من انتمى أو أصبح عضواً في الحزب الشيوعي قد أصبح ماركسياً وكأنها وراثة بالدم حين يصبح ابن المسلم مسلماً وابن المسيحي مسيحياً، وعودة  إلى ذلك التساؤل، يقول أوليفر كوكس في كتابه القيم “الرأسمالية نظاماً”: “أن تفكير ماركس كان أداة لسيرته في الحياة .  فقد ولد وتربّى في فترة حبلى بالخميرة الثورية، بل وبدأ حياته كثورى ألماني سعى  إلى اكتشاف القوى المحركة للتاريخ فأكتشفها وكرّس بقية حياته لأجلها.
وتطوف بنا حوارات شعبان في ماهية الماركسية ومصادرها ومكانة وحيوية الفكر الماركسي، فيشير إلى اقتباس طريف ومأساوي في نفس الوقت عن القيادي المخضرم  في الحزب الشيوعي العراقي الراحل عامر عبد الله: “كنا نسعى لتكييف وتطويع الواقع أحيانا لنصوص النظرية التي قال عنها لنين إنها “كلية الجبروت”، ونقول إضافة ونفس الامر ينسب على السياسة والقرار فكان يطوّع من أجل أن يرضي الطليعة وسياستها حتى وانْ كانت بالضد من المصالح القومية والوطنية، وفي المثل الذي ساقه شعبان حول قرار تقسيم فلسطين العام 1947 خير مثال على ذلك.
تلك الحوارات وما اتّسمت به الأنظمة الشمولية، ذكرتني بكتاب جورج أورويل ذلك اليساري البريطاني والذي كتب حوالي عام 1948 كتاباً أسماه 1984 يتحدث الكتاب عن نظام شمولي عام 1984، ونشر هذا الكتاب بعد وفاته عام 1950، حيث يتخيّل وجود وزارة الصدق وهي التي تُعنى بالأنباء والإحتفالات، وهناك وزارة السلم، المختصة بالحرب، ووزارة الحب التي تراقب عملية تطبيق القانون، ووزارة الخير الوفير المسؤولة عن الشؤون الاقتصادية، وحيث ثبتت شاشات ألكترونية في كل مكان بما فيها في كل بيت مهمتها مراقبة تحركات، بل وأحاديث كل فرد، وهي في نفس الوقت تقوم ببث التعليمات والبيانات والأخبار وصورة الأخ الأكبر. إنه كتاب مشوّق يكمن سرّه في أنه كُتب في نهاية الاربعينيات، ولكنه يتحدث عمّا عشنا جوهره في أعوام السبعينيات والثمانينيات .
من هو ماركس الذي يريده شعبان وماهي الماركسية التي يريدها ؟
في بداية كتابه القيم تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي والذي قامت مؤسسة العويس الثقافية بطباعة جديده له، ضمن سلسلة خاصة تكريماً للفائزين بجائزة العويس ، يؤكد الدكتور محمد جابر الانصاري ” أن الفكر العربي والاسلامي الحديث أخضع ومعه الكثير من ظواهر الحياة العربية المعاصرة لمعايير ومقاييس خارجية ليبرالية أو ماركسية، الأمر الذي أدّى إلى فهم تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية والحكم عليها من منظور له انحيازات آيديولوجية وقيمية معينه مستمده من مركزية حضارية أخرى هي مركزبة الحضارة الاوربية الغربية بشقيها الليبرالي والماركسي”.
إن هذا التأكيد على العموم صحيح في الغالب، خاصة بالنسبة للبحوث والدراسات المؤدلجة، على أنّه وبعد تأكيده ذلك واصراره على ضرورة أن يكون المنهج نابعاً من التاريخ والتراث العربي دون أن ينكر الاستفادة من المناهج العلمية الحديثة بشقيها أو مدارسها، على شرط أن يكون ذلك بنظرة نقدية ودون اكراه أو تبعية، خاصة في ظل غياب منهج علمي عربي .
إن ما يسعى اليه الدكتور الأنصاري (من فكر مستقل نابع من تراث وتاريخ المنطقة غير ناكر أو متجاهل النظريات الاخرى ذات الطابع الانساني) هو بالضبط مايؤكده شعبان في حواراته “بما أنني أنظر للماركسية كمنهج للتحليل النقدي(السيسيو –ثقافي) فأني أخالفها في أن تكون آيديولوجية : وفي موقع آخر يقول : أجد نفسي قريباً جداً من الماركسية النقدية أو الوضعية النقدية للماركسية، وهكذا أستخدم وأوظف المنهج ضمن اجتهاداتي وضمن دراستي للظروف والأوضاع الاجتماعية– الاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي، بالاشتباك مع العلاقات الدولية ” هذا ويؤكد هذه الحقيقية في مواضع أخرى . فهو في الواقع ينبذ أي إقحام لأي فكر مهما كان بما فيها الماركسية في صياغة أي أجوبة لأي من مشاكل حياتنا في المنطقة.
وشغلت مسألة الدين حيّزاً مهما في حوارات شعبان وعلى الرغم من حساسية هذه الموضوعات والتي تعدُّ بالنسبة للغالبية العظمى بما فيهم عدد كبير من ” المثقفين”، تابوات محرّمة، يكون الحوار فيها على هذه الصورة “من قال في الدين برأيه ، فهو مخطئ وإنْ أصاب”. وفي تقديري أن مسالة موقف الماركسية من الدين قد ضُخّمت أكثر من حجمها الحقيقي، بل تطرح وكأنّ ماركس تحدث عن الدين الاسلامي بالذات، وفي اعتقادي أن الغرب كان له مصلحة في تأليب الناس باستخدام الدين كسلاح في صراعها مع الماركسية والتي يقول كوكس”أن صورة شيطانية ترتسم بصورة عفوية في أذهانهم ( يقصد القيادة الرأسمالية وعلمائها الموالين) كلما اقتحم أحد المفاهيم الماركسية مجالهم الخاص”.
وقد اتّفق ذلك الميل مع سعي رجال الدين إبقاء السيطرة على الطبقات الفقيرة في أيدهم بعد أن شعروا بالخطر من الافكار “الماركسية والشيوعية على مواقعهم الاجتماعية”، ولعل رائعة الصديق العزيز شمران الياسري “أبو كاطع” حول ذلك الصراع في حكايته “حيّة شيخ دبس “حيث كان شيخ دبس الذي جمع كل السلطات الدينية والدنيوية بيده من الاستيلاء على الحصة الأكبر من المحصول إلى بيع أذرع في الجنة لبعض العجائز والمسنين، وشيخ دبس هذا أمي كما هم أبناء القرية جميعاً، ويوما ما دخل القرية “شيخ علي” وهو متعلم ويقرأ ويكتب ويعرف الكثير من أمور الدنيا وبدأ يستقطب الفلاحين وعندما شعر الشيخ دبس بالخطر نصب فخاً لاصطياد خصمه، وعندما اكتمل العقد في الديوان سأل الشيخ دبس الشيخ علي: مولانه تكدر  (هل تستطيع أن تكتب حية؟ فتناول الشيخ علي الورقة وكتب “حيّة”، بعدها تناول الشيخ دبس الورقة، ورسم حية بلسانها وذيلها، وقدّم الورقة للفلاحين في الديوان مع تساؤل –”سامع الصوت عليكم: بحظكم وبختكم ياهيّ الحية الصدّك اللّي سواها المومن يو اللي آني كتبتها”؟ (أي ما هي الحيّة الصحيحة؟ هل هي التي كتبها الشيخ (المومن) أو أنا التي رسمتها؟)
وطبعا فإن الفلاحين أجابوا ” لحﭼاية للبخت الحيّة الصدك اللي كتبها الشيخ دبس ” (أي أن الحيّة الصحيحة التي رسمها الشيخ دبس وليس خصمه التي كتبها حروفاً) أن تلك الحكاية الذكية تعبّر عن ذلك الصراع الذي نراه محتدما وعلى أشده حتى يومنا هذا .
لا يمكن لأحد (وكما يؤكد شعبان ايضاً) أن يتجاهل دور الدين في البناء الاجتماعي للفرد وبناء منظومة تفكيره منذ أن وجد الانسان وفي صراعه مع الطبيعة ولغز الموت وجد الدين حيث القوة العليا التي يتوجه إليها بهدف نيل رضاها ودفع الأذى والبلوى وقد تطوّرت الطوطمية بانقسام المجتمع إلى قبائل وتجمعات، فكل منها اتّخذ طوطماً ( حيواناً أو نباتاً أو قوى طبيعية) كل حسب بيئته وطريقة عيشه. وصحيح أن الاديان هي أكبر منظومة شهدتها وتشهدها البشرية، ولكن هذه الاديان لاتمثل منظومة فكرية واحدة ولا تتشارك سواءً في رموزها أو أساليب العلاقة فيما بينها، وإنْ تكن لها بعض السمات العامة المشتركة، لذا ففي الواقع لايمكن لمنظومة فكرية أن تلغي الاخرى، سواءً بين الأديان نفسها أو بين الاديان والمنظومات الفكرية الاخرى .
أما الصراع الذي دار بين الأنظمة الشيوعية والدين فهو في جوهره وفي شكل ما كان الآخر: صراعاً سياسياً من أجل الاستحواذ على “الجماهير”، لقد وصل الأمر في بعض الحالات إلى مستوى تافه، كأن يطرد العضو الحزبي فيما لو تزوّج في الكنيسة أو عدم إعتراف الدولة بوثيقة زواج الكنيسة للاغراض الرسمية ومنها الميراث.
 ينطلق شعبان من موقفه المعروف في قضية حقوق الانسان والتي تعدّ حرية العقيدة مقدسة ولايجوز المساس بها، ومتمسكاً من المثقف الذي في داخله يستلهم من التراث والتاريخ، ما يمكن أن يعطي للمستقبل وهناك الكثير من الموضوعات الاخرى التي تطرق لها الحوار مثل موضوعة المثقف ودوره وعلاقته بالسياسي ودورة الاجتماعي، وكذلك المرأة والحب والجنس وثم توقف مطوّلاً عند القضية الفلسطينية ” الحاضر الأكبر” في مجمل حياة ونقاشات شعبان، والقضية الكردية الشاغل المستمر لاهتمامات شعبان، كل ذلك بحاجة  إلى  المشاركة وادلاء الآراء بشانها، انسجاماً وانطلاقاً من مبدأ ظل مؤمناً به هو مبدأ حق تقرير المصير، وحاول أن ينظّر له ويجد تكييفاً له في ضوء الواقع، من خلال صياغات وأطروحات على مدى سنوات .
ولكن ومع ذلك يبقى هناك الكثير من الأسئلة دون جواب، بل وإنّ هناك أجوبة بحاجة إلى توضيح أكثر وحوارات أوسع، لا بدّ أن تتوجه الحوارات إلى تخصصات أضيق، حتى لا نضيع في الاقتضاب والعموم، كأن تشمل بعض الحورات التاريخ الحقيقي للمنطقة وتاريخ بعيد عن الآيديولوجية والشعارات والأمزجة، بحيث يتم التخلّص من “الأمية الفكرية المهيمنة”. فهل وجه السومريون اختراع الكتابة والعجلة والأرقام ومشاريع الري والمدارس؟ أم أن وجههم الآخر هو الغزوات والصراعات المستمرة التي خاضوها لإخضاع الآخرين؟ هل النظرة الواحدة التي ترضي غرورنا مفيدة للتقدم أم النظرة الموضوعية لكل ذلك التاريخ والفكر؟ فبدءًا من السومرين ومروراً بحمورابي والساسانيين والمناذرة وصولاً الى حكم الراشدين والتوسّع الاسلامي نحو العراق والأموين والعباسيين والدولة العثمانية، وفي كل ذلك فسيفساء العراق: هل ساهم في وحدة العراق أم أنه أصل حروبه التي بدأت ولم تنتهي كل ذلك بحاجة إلى أسئلة فكرية وثقافية كثيرة وكبيرة، ويجب علينا مواجهتها!!
إن حوارات المفكر شعبان فتحت الأبواب أمام حوارات جديدة وكثيرة، فهل سيبنى على هذه المحاولة من أجل تأسيس فكر علمي موضوعي  نقدي يساعدنا على إيجاد الأجوبة المهزومة؟ وهنا ليس أجل من أنهي هذه القراءة بما أنهى ماركس كتابه “الثامن عشر من برومير …” (مستعيراً الشعرمن الكوميديا الالهية لدانتي): “والحال عند باب العلم، كما عند باب جهنم، يجب أن يوضع المطلب التالي:
“هنا يجب أن تكون الروح قوية
هنا يجب الاّ يكون الخوف هو الناصح”
براغ
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب