18 ديسمبر، 2024 9:58 م

الرصيد المتبقي للأجيال القادمة

الرصيد المتبقي للأجيال القادمة

ترتبط فكرة الأجيال القادمة في بلداننا العربية بإيرادات النفط بصورة أساسية , وترتبط أيضا بحدود ضيقة في الإرث الثقافي والعلمي الذي سوف يبقى للأجيال في قابل السنين ,بالإضافة إلى انها ترتبط بالمصادر الطبيعية كالماء والبيئة . كلها عناصر مهمة تجعل الدول تفكر وتخطط كثيرا لموازنة حصص اليوم وغد وبعد الغد .
للأسف الشديد كان نصيب ألأجيال في أواخر النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد وعشرون نصيباً بائساً , لقد ورثوا الحروب والدمار والضياع والمستقبل المجهول, لا يمكن أن نقول أن الحكومات المتعاقبة أهملت الأجيال القادمة من حساباتها وموازناتها , لكن سوء تطبيق الخطط الإستراتجية والطمع والجشع والحروب والحصار أجهض المشاريع والبرامج التي أعدوها للأجيال القادمة .
هناك أمثلة عديدة في المنطقة سوف نتطرق لها, أهمها مثال بائس لا يبشر بمستقبل للأجيال القادمة وهو يشمل تجربة دول عربية مثل العراق وسوريا ومصر ولبنان والسودان واليمن وليبيا والمثال الأخر الذي يعتبر مثالاً مطمأناً نوعاً ما وهو تجربة دول الخليج مثل السعودية والإمارات وقطر والبحرين والكويت وسلطنة عمان . ولا بأس في الإشارة إلى مجموعة دول شمال إفريقيا العربية التي حققت نمو اقتصادي واجتماعي شبه مستقر على مدى الخمسين عاما المنصرمة .
عندما نتحدث عن مثال المجموعة الأولى والتي جاءت معظم حكوماتها من خلال انقلابات عسكرية دموية سميت ثورات حينها, بدأتها مصر في بداية الخمسينات ثم العراق في نهاية الخمسينات ومن ثم ليبيا واليمن والسودان وسوريا , نجد أن ظروف هذه الدول متشابهة من حيث كيفية تكوين الدولة والسلطات والمؤسسات في الجمهوريات الجديدة , لكنها تختلف من حيث توزيع المصادر الطبيعية والثروات النفطية . انقسمت هذه المجموعة بين دول غنية ثرواتها ناتجة عن تصدير كميات هائلة من النفط(ليبيا والعراق ) ودول معتدلة الدخل تكاد تكتفي ذاتيا بالاعتماد على خبراتها وثرواتها الزراعية والصناعية والسياحية مثل مصر وسوريا ولبنان بالإضافة إلى دول فقيرة مثل السودان واليمن تسير في ركب دول المجموعة الأخرى مضطرة غير مخيرة. للأسف الشديد لم تستطع أي من هذه الدول رسم مستقبل واضح للأجيال القادمة
1
بل أنها لم تكن في كثير من الأحيان قادرة على تمشية أمورها , كانت هذه الدول مندفعة اندفاعاً عاطفيا نحو التنمية الشاملة والمستقبل ووضعت لبناتها الأولى أو حاولت تكملة ما ورثته من الحكم الملكي السابق لكنها تعثرت وتركز تفكيرها وتخطيطها في سد رمق رعيتها . الأسباب كثيرة أولها إن هذه الدول(العراق ,مصر, سوريا) عانت من الحروب والحصار والأزمات . يضاف إلى ذلك انه رغم توفر القدرات البشرية والمادية اكتشفت بعد فوات الأوان إنها غير قادرة على مواصلة مشاريعها وبرامجها التنموية لأنها فكرت بعقلية عاطفية انفعالية وكانت بعيدة جداً عن التطبيق الصحيح للخطط والبرامج المعدة مسبقاً .أوصلتها هذه العقلية إلى طرق مسدودة وقضت على معظم خططها وبرامجها التنموية وجعلتها تفكر وتترحم على الماضي الذي ورثته ممن أخذت الحكم منهم بالقوة .فكانت الأجيال الحالية والأجيال القادمة هي الضحية , برأي إن اكبر النكسات التي مرت على الأمة هي فشل الحكومات العربية المتتالية في بناء تنمية اقتصادية ومجتمعية لمجتمعاتها التي تضخمت وتكاثرت إمراضها الاجتماعية والاقتصادية . دول أخرى في نفس المجموعة كان فشلها اكبر لأنها دائماً ما كانت معتمدة على نجاح هذه الدول الثلاث وتنتظر منها المساعدات والإعانات فكان فشلها اكبر أو موازي لفشل الدول الكبرى في الوطن العربي وينطبق هذا على كثير من الدول العربية مثل (السودان,اليمن,موريتانيا).
المجموعة الثانية التي هي أكثر حضاً من المجموعة الأولى لأنها حافظت على ارثها القديم الذي ورثته من الدول الاستعمارية أي أنها حافظت طوال الخمسين عام المنصرمة على أنظمتها السياسية المتمثلة بالممالك والإمارات والمشايخ وبرامجها الاقتصادية التي اكتسبت خبرتها من مجموع الشركات الكبرى التي كانت تعمل في الخليج .هذه الدول استطاعت أن تستثمر كثيراً بأموال النفط , تمتلك استثمارات كبيرة جداً في كل من أوربا وأمريكا ورصيدها من العملة 2
الصعبة والذهب كبير جداً يكاد يجعلها في مقدمة دول العالم من ناحية مستوى دخل الفرد والتنمية المستقبلية . أسباب هذا الازدهار والنمو تمسك حكومات هذه الدول بتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع مستوى دخل الفرد والابتعاد عن الحروب والأزمات من خلال عقد الاتفاقات الأمنية والاقتصادية مع الدول العظمى .ويمكن اعتبار التجربة الإماراتية والسعودية من انجح التجارب في المنطقة .
أخيرا هناك مجموعة دول شمال إفريقيا (ليبيا والجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا) إذا ما استثنينا ليبيا موريتانيا وأضفنا الأردن إلى هذه المجموعة فأننا يمكن أن نضع هذه الدول في مرتبة مختلفة جدا عن بقية دول الوطن العربي الأخرى , المرتبة التي احتلوها تميزهم كثيرا وتجعلهم في مصاف الدول النامية , استطاعت هذه الدول ان تؤمن تنمية مستقبلية جيدة , لديها صناعة وزراعة وسياحة وثروات طبيعية جيدة , لديها أنظمة حكم مستقرة نوعاً ما , اقتصاد مستقر استثمارات كبيرة في السياحة والزراعة والصناعة , مرت بأزمات كبيرة كادت تعصف بها لكنها استطاعت تجاوزها وتكمل مسيرتها التنموية , تحاكي هذه الدول التجارب الأوربية التي كانت مستعمرة من قبلها في الماضي .في المحصلة إن الأجيال القادمة لهذه الدول ضمنت رصيداً كافيا من الممكن ان يجعلها قادرة على مواصلة مشاريع التنمية الاقتصادية والسياسية والمجتمعية على الرغم من قلة مواردها الطبيعية بالمقارنة مع بقية دول الخليج والعراق .