ثمة خطر مخيف تقترفه وسائل الإعلام العربية في الترويج للخطاب الديني بوصفه حلا للمشاكل السياسية، وتقديم رجال الدين وكأنهم أصحاب حلول
تحولت رسالة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بمناسبة عيد الفصح إلى موضع تهكم وانتقاد إعلامي، لمجرد أنها تلبّست بطريقة ما، دور رجل الدين وجمعت بين الغيبي الديني والسياسي البراغماتي! عندما افترضت أن القيم المسيحية يجب أن تجمع البريطانيين معا على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
من حق ماي بوصفها ابنة قس في الكنيسة أن تُعبّر عن إيمانها الشخصي، لكن تغليف القرار السياسي بمسحة قداسة دينية أمر يسقطها في فخ تاريخي تم تحييده منذ قرون في أوروبا بعد أن سال من أجله دم عبثي باسم الرب.
هذا العبث نفسه يمارسه سياسيون ورجال دين في العالم العربي والإسلامي اليوم وتهدر الكرامات وتستباح المدن، والجناة المتقاتلون يرفعون نفس الراية الدينية بألوان سوداء أو خضراء.
إذا كانت وسائل الإعلام في العالم العربي جزءا من ذلك العبث الديني وهي تمارس خطاب التخلف الطائفي، فإن موعظة رئيسة الوزراء البريطانية كانت موضع نقد إعلامي وصفها بالتلميح الخاطئ، فالدين ليس حلا لمشاكل العالم السياسية مهما كان صالحا للمّ شمل البريطانيين وفق القيم الإنسانية، بعد أن شقهم الاستفتاء على خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي.
اليستر كامبل المستشار الصحافي السابق في حكومة توني بلير، كان من بين المتصدين لموعظة ماي السياسية بغلاف ديني، بوصفه المدافع عن حساسية الخطاب الإعلامي، مقترحا عليها أن تدرس بعناية فكرة الربط بين إيمانها والتحديات السياسية التي تواجه البلاد. وتكون حذرة من احتواء سياستها على عقيدتها الشخصية.
كامبل الذي يرأس تحرير صحيفة “نيو أوروبيان” الأسبوعية الموالية للاتحاد الأوروبي، لم ير أن رئيسة الحكومة البريطانية أشركت الله في التصويت على بريكست، لكنها اقتربت من ذلك أكثر مما ينبغي، طالبا منها الكثير من الجهد من أجل أن تقود بريطانيا إلى طريق التوحيد والأمل وليس الاعتماد على العقيدة الدينية.
وعزا نيك سبنسر، مؤلف كتاب “الأقوياء” و”السياسيون والله”، رسالة ماي إلى خوفها من الانقسام السياسي والشعبي في البلاد. بينما وصفت ليندا وودهيد، أستاذة علم الاجتماع في جامعة لانكستر، رسالة رئيسة الوزراء البريطانية بأنها استعانت بالدين المدني وليس الدين الأرثوذكسي المسيحي.
رسالة من ثلاث دقائق لرئيسة الوزراء البريطانية في مناسبة دينية أثارت عصفا إعلاميا وسياسيا في معقل الديمقراطية الأول في العالم، لكن من البساطة بمكان، أن نجد معادلا سياسيا وإعلاميا نقيضا في الخطاب العربي السائد، فكل التحركات السياسية والحروب تغلّف بمسحة دينية وتاريخية وكأن الله من اتخذها!
يبدو الخلاف ليس سياسيا أكثر مما هو في منهج صناعة الخطاب، فتيريزا ماي بثت خطابها المصور على وسائل الإعلام ولم يستمر أكثر من ثلاث دقائق، لكن تداعياته بدت أكبر بكثير، فالجمهور -حسب كامبل- صار يعرف أكثر الطريقة التي تعمل بها الصحافة اليوم، مما أضعف قوة أباطرة الإعلام ومنح السياسيين فرصة لأن تكون وسائل الإعلام تمثل المصلحة العامة ولا مصالحهم الضيقة والخاصة.
مثل هذا الأمر سبق وأن تناوله صحافي وكاتب مثل سيمون جنكينز، واصفا انغماس وسائل الإعلام في احتفال رفع اثنين من الباباوات إلى مرتبة القديسين بأنه هراء من القرون الوسطى لا أكثر.
وشكك جنكينز الحاصل على وسام تقدير في مجال الصحافة ويكتب مقالين أسبوعيا في صحيفتي “الغارديان” و”ايفينيغ ستاندر”، من دون أن يمسه الخوف أو الاعتقاد بأن الرقيب يقف على رأسه، بأصحاب المعجزات، لأن ثمة حاجة لمن يقوم بالتحقيق في أمرهم والبحث عن “فضائلهم الخارقة” لإثبات قيامهم بمعجزة.
وطالب بأن يؤدي هذا التطويب ويليه التقديس، إذا “ثبت علميا”، إلى معجزة تتحقق في غضون خمس سنوات من وفاة المطوب! وأن ينظر للأمر مجرد إجراء يعني الفاتيكان، كي لا يحجم العقل وتعود الحضارة إلى الوراء لأن فرض الغيبيات في وسائل الإعلام وكأنها حقائق يمثل مصدر خطر على الملايين.
يمكن الاستعانة بأفكار جنكينز وعكسها على وسائل إعلام عربية وكيف تخصص مساحات كبيرة للخرافة الدينية، ويمكن إطلاق حشد من الأسئلة أمام حكومات عربية وهي تتنازل عن دورها السياسي لحساب المناسبة الدينية.
ثمة خطر مخيف تقترفه وسائل الإعلام العربية في الترويج للخطاب الديني بوصفه حلا للمشاكل السياسية، وتقديم رجال الدين وكأنهم أصحاب حلول اقتصادية وسياسية للمشاكل التي تعصف بالبلدان، مع أنهم لا يقدمون أكثر من ضريبة كلام مبني على قصص تاريخية ملتبسة.
لا يكمن الخطر في استعادة التاريخ الديني والتحدث بصوت الله من قبل السياسيين وحدهم، بل في تحوّل وسائل الإعلام إلى أداة مروّجة لمثل هذا الخطاب والتراجع عن دورها في مراقبة أداء السياسيين لمنع الفساد، إلى مصدر للمواعظ الدينية!
نقلا عن العرب