الردع الوقائي وتكتيكات الدولة العميقة:
قراءة استراتيجية في حرب الظل بين (إسرائيل) والولايات المتحدة الامريكية وإيران
في 13 مايو من العام 2025، بدا الشرق الأوسط كما لو أنه على شفا حرب إقليمية كبرى، إلا أن ما جرى لم يكن حربًا تقليدية. لم تُعلن الحرب على لسان زعيم، ولم تُرَ أرتال المدرعات أو تُسمع صرخات الجنود. ما حدث كان أعمق من ذلك: حربٌ بلا إعلان، جرت خلف الستار، وتحركت بوسائل غير تقليدية، في تكرار متقن لما بات يُعرف اليوم باسم “حروب الظل”.
فجر يوم 13 مايو نُفذت عملية معقّدة داخل العمق الإيراني، وُصفت بأنها الأخطر منذ اغتيال قاسم سليماني في 2020. الضربة لم تكن عشوائية، بل جاءت بدقة جراحية، استهدفت مقرّات استراتيجية ومراكز بحث نووي، وأوقعت عددًا من القتلى في صفوف القيادات العليا في الحرس الثوري والجيش الإيراني، بالإضافة إلى علماء بارزين في المجال النووي.
اللافت في العملية أنها لم تُنفّذ بغارات جوية واضحة، بل – وفق تقارير استخبارية غربية وتسريبات من صحف عبرية وفرنسية – تم تنفيذها باستخدام وكلاء محليين داخل إيران، جندهم “الموساد”، ونُفذت عبر أدوات تقنية متقدمة، مزجت بين الذكاء الاصطناعي والتوجيه الميداني الإلكتروني. أعلنت إسرائيل رسميًا مسؤوليتها عن الهجوم، ووصفت العملية بأنها “ضربة وقائية دقيقة” ضد بنى تحتية عسكرية ونووية تهدد أمنها.
وقد جاءت العملية ضمن استراتيجية علنية للردع المسبق، عبّر عنها مسؤولون في الحكومة والجيش الإسرائيلي بشكل مباشر، ما يؤشر إلى تحوّل نوعي في طبيعة “حروب الظل” نحو نمط أكثر جرأة وعلنية في بعض مراحلها.
غير أن المتأمل في تفاصيل الضربة الإسرائيلية يلحظ أن إدارة هذه الحرب لم تكن محصورة ضمن إطار القرار السياسي العلني. فقد ظهرت بصمات أجهزة استخباراتية، ووحدات سيبرانية، ودوائر أمنية مغلقة تتحرك بمنأى عن الهياكل التقليدية للدولة. هذا التفاعل بين ما هو ظاهر وما يُدار في الظل يعكس بشكل واضح دور “الدولة العميقة”، حيث تُحاك الخطط وتُدار الأزمات بعيدًا عن البرلمان ووسائل الإعلام، وتُستخدم أدوات غير تقليدية لتوجيه بوصلة الصراع. يبدو أن ما جرى في مايو 2025 لم يكن فقط صراعًا بين دول، بل أيضًا اختبارًا حقيقيًا لنفوذ تلك المنظومات الخفية التي تقود السياسات الأمنية من وراء الستار.
بعد الضربة، دخلت إيران في حالة رد فعل عسكرية مخططة بدقة. على عكس التقديرات الأولية التي توقعت ردودًا محدودة أو سيبرانية فقط، قامت إيران بإطلاق موجات متتالية من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة باتجاه أهداف داخل الأراضي الإسرائيلية. تركزت الضربات على مواقع عسكرية ومنشآت استراتيجية، فيما تم اعتراض جزء كبير منها بواسطة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، مثل “القبة الحديدية” و”حيتس”.
إلى جانب الهجمات الصاروخية، شنت طهران هجمات إلكترونية منسقة استهدفت بنى تحتية حيوية كشبكات المياه والكهرباء وبعض المؤسسات المالية، في محاولة للضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية. كما رافقت هذه العمليات حملة إعلامية ونفسية موجهة، هدفت إلى تعزيز الروح المعنوية داخليًا وتوجيه رسالة واضحة لإسرائيل.
استمر التوتر والاشتباكات بين الطرفين 12 يومًا. ورغم الحدة الظاهرة، إلا أن التصعيد كان محسوبًا بعناية. تدخلت الولايات المتحدة بدور محوري للحد من الانفجار الشامل، عبر ضغوط دبلوماسية واتصالات مباشرة مع الجانبين، بهدف إبقاء النزاع ضمن حدود قابلة للسيطرة.
في خطوة نادرة تعكس عمق الحسابات الاستراتيجية، أبلغت إيران الولايات المتحدة مسبقًا بموعد قصف قاعدة “العديد” في قطر، ما سمح بإخلائها وتفادي الخسائر. كانت الضربة أقرب إلى رسالة محسوبة منها إلى تصعيد فعلي، وهو ما كشف عن نمط جديد من الردع: عنيف في الشكل، لكن مضبوط في الجوهر.
هذه الحرب القصيرة أعادت صياغة مفاهيم الحروب في المنطقة. فقد مورست فيها “حروب الظل” بأدق تفاصيلها: من التجسس الإلكتروني، والاغتيالات الخفية، واستخدام الوكلاء المحليين، وصولًا إلى اختراق الأنظمة والشبكات. حرب بلا جبهة ولا علم، لكن نتائجها كانت عميقة.
العملية الإسرائيلية، وردّ إيران المحدود، كشفت عن ثلاث ملامح أساسية:
صعود الحرب الاستخباراتية كبديل عن الاشتباك المباشر. استخدام الموساد للوكلاء المحليين واختراقه العمق الإيراني مؤشر على تحوّل الصراع إلى الداخل الاجتماعي والأمني للدول.
الردع المتبادل غير المعلن. فإيران تجنبت ضرب قواعد أمريكية مباشرة، بينما إسرائيل تجنبت حربًا شاملة رغم نجاحها في تنفيذ اختراق مؤلم داخل طهران.
تآكل الخطوط الحمراء القديمة. حيث لم تعد قوانين الحرب أو أعراف الاشتباك تنطبق على هذه المواجهات التي تُخاض بالأدوات الناعمة والقرارات السرية.
ما جرى في مايو 2025 لم يكن مجرد مواجهة عسكرية محدودة، بل كان اختبارًا استراتيجيًا بالغ الدقة لكل من إسرائيل وإيران، وربما الولايات المتحدة أيضًا. اختبار لطبيعة التسامح مع “الضربة الأولى”، ولقدرة كل طرف على تحقيق أهدافه دون إعلان حرب، ولمهارة إدارة النزاع عبر أدوات غير تقليدية، من المسيّرات إلى المخترقين الإلكترونيين.
الدرس الأهم من هذه “الحرب في الظل” هو أن الصراعات الحديثة لا تحتاج إلى مدافع لتبدأ، بل إلى كيبورد، شبكة عملاء، وقرار لا يُقال على الملأ.
ما بين الصمت الإعلامي، وإنكار المسؤوليات، واتخاذ قرارات حاسمة دون إعلان رسمي، يتضح أن معارك اليوم تُصاغ في غرف مغلقة، وتُنَفذ على أيدي مؤسسات تابعة لما يُعرف بـ”الدولة العميقة”. فالحرب لم تعد فقط قرارًا تتخذه الحكومات، بل أصبحت مسرحًا تديره كيانات خفية ذات أدوات دقيقة، توازن بين التصعيد والإنكار، وبين الفعل والظل.
في هذا المشهد، لا يعود السؤال فقط عن “من ضرب أولاً؟”، بل عن: “من الذي قرر أن تُخاض هذه الحرب دون أن تُعلن؟”
ما رائيك هكذا اصبح المقال بشكله النهائي هل تحب التعديل علية او ضافة معينه
“الردع الوقائي” وتكتيكات الدولة العميقة: قراءة استراتيجية في حرب الـ (12) يوم
في 13 مايس من العام 2025، بدا الشرق الأوسط كما لو أنه على شفا حرب إقليمية كبرى، إلا أن ما جرى لم يكن حربًا تقليدية. لم تُعلن الحرب على لسان زعيم، ولم تُرَ أرتال المدرعات أو تُسمع صرخات الجنود. ما حدث كان أعمق من ذلك: حربٌ بلا إعلان، جرت خلف الستار، وتحركت بوسائل غير تقليدية، في تكرار متقن لما بات يُعرف اليوم باسم “حروب الظل”.
فجر يوم 13 مايس نُفذت عملية معقّدة داخل العمق الإيراني، وُصفت بأنها الأخطر منذ اغتيال قاسم سليماني في 2020. الضربة لم تكن عشوائية، بل جاءت بدقة جراحية، استهدفت مقرّات استراتيجية ومراكز بحث نووي، وأوقعت عددًا من القتلى في صفوف القيادات العليا في الحرس الثوري والجيش الإيراني، بالإضافة إلى علماء بارزين في المجال النووي.
اللافت في العملية أنها لم تُنفّذ بغارات جوية واضحة، بل – وفق تقارير استخبارية غربية وتسريبات من صحف عبرية وفرنسية – تم تنفيذها باستخدام وكلاء محليين داخل إيران، جندهم “الموساد”، ونُفذت عبر أدوات تقنية متقدمة، مزجت بين الذكاء الاصطناعي والتوجيه الميداني الإلكتروني. و أعلنت إسرائيل رسميًا مسؤوليتها عن الهجوم، ووصفت العملية بأنها “ضربة وقائية دقيقة” ضد بنى تحتية عسكرية ونووية تهدد أمنها.
وقد جاءت العملية ضمن استراتيجية علنية للردع المسبق، عبّر عنها مسؤولون في الحكومة والجيش الإسرائيلي بشكل مباشر، ما يؤشر إلى تحوّل نوعي في طبيعة “حروب الظل” نحو نمط أكثر جرأة وعلنية في بعض مراحلها.
بعد الصدمة التي تلقتها طهران في فجر 13 مايو 2025 جراء الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قادة الصف الأول في الحرس الثوري والعلماء النوويين، دخلت إيران مرحلة رد فعل عسكرية مكثفة ومخططة بدقة.
على عكس التقديرات الأولية التي توقعت ردودًا محدودة أو سيبرانية فقط، قامت إيران بإطلاق موجات متتالية من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة (المسيرات) باتجاه أهداف داخل الأراضي الإسرائيلية. تركزت الضربات على مواقع عسكرية ومنشآت استراتيجية عدة، فيما تم اعتراض جزء كبير من هذه الهجمات بواسطة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، خاصة “القبة الحديدية” و”حيتس” (السهام).
إلى جانب الهجمات الصاروخية، شنت طهران أيضًا هجمات إلكترونية منسقة استهدفت بنى تحتية حيوية مثل شبكات المياه والكهرباء، وبعض المؤسسات المالية، محاولة بذلك الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وزعزعة استقرارها الأمني.
كما رافق هذه العمليات حملة إعلامية ونفسية منظمة، ركزت على بث رسائل تهديد، ونشر تسجيلات مصورة تظهر “جاهزية محور المقاومة”، في محاولة لتعزيز الروح المعنوية لقواعدها الداخلية، وتوجيه رسالة للعدو مفادها أن إيران لن تظل مكتوفة الأيدي.
استمرت حالة التوتر والاشتباكات المتبادلة بين إسرائيل وإيران لمدة 12 يومًا، حيث اتسمت هذه الجولة بتصعيد متقن ومحسوب، منع انفلات الأمور إلى حرب شاملة تقليدية. لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا حاسمًا في ضبط إيقاع المواجهة، من خلال مراقبة حثيثة وتحركات دبلوماسية مكثفة، لضمان بقاء الصراع ضمن حدود قابلة للسيطرة.
اتسمت هذه الحرب القصيرة بممارسة دقيقة لما يُعرف بـ”حروب الظل”، حيث استخدمت الأطراف تقنيات متطورة من التجسس الإلكتروني، والعمليات الخاصة، والضربات الدقيقة عبر وكلاء محليين وأدوات تكنولوجية، بعيدًا عن التصعيد العسكري المباشر الواسع. هذا الأسلوب أعاد تشكيل قواعد الاشتباك في المنطقة، مؤكداً أن الصراعات الحديثة لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية المفتوحة، بل على الحروب السيبرانية والاستخباراتية التي تدار خلف الكواليس.
رغم غياب الإعلان الرسمي أو الاتفاقيات، تركت هذه الجولة أثرًا عميقًا في موازين القوى الإقليمية، حيث برهنت أن “حروب الظل” لم تعد ظاهرة هامشية أو تكتيكية، بل أصبحت أداة استراتيجية مركزية لإدارة النزاعات المعقدة التي تتشابك فيها الحسابات النووية، والسياسية، والردعية.
استمرت حالة التوتر والاشتباكات المتبادلة بين إسرائيل وإيران لمدة 12 يومًا، حيث اتسمت هذه الجولة بتصعيد متقن ومحسوب، منع انفلات الأمور إلى حرب شاملة تقليدية. لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا حاسمًا في ضبط إيقاع المواجهة، من خلال مراقبة حثيثة وتحركات دبلوماسية مكثفة، لضمان بقاء الصراع ضمن حدود قابلة للسيطرة.
على عكس ما يُتوقع، كان رد إيران على قصف المنشآت النووية الأمريكية في قاعدة العديد بقطر ردًا محسوبًا ومسيطرًا عليه بالكامل. فقد أبلغت إيران الولايات المتحدة رسميًا بموعد الضربة العسكرية المرتقبة على القاعدة الأمريكية، مما سمح للأمريكيين بإخلاء القاعدة وتجنيب الأرواح والمعدات الهامة. جاء هذا الرد كخطوة استراتيجية لإظهار القوة والتحكم في الموقف، وكانت الضربة العسكرية في الحقيقة مسرحية عسكرية مدروسة تهدف إلى إرسال رسالة تحذيرية دون تصعيد حقيقي. انتهت هذه المواجهة بعد 12 يومًا من التوتر والصراع، حروب بلا جبهات… لكنها حاسمة.
اتسمت هذه الحرب القصيرة بممارسة دقيقة لما يُعرف بـ”حروب الظل”، حيث استخدمت الأطراف تقنيات متطورة من التجسس الإلكتروني، والعمليات الخاصة، والضربات الدقيقة عبر وكلاء محليين وأدوات تكنولوجية، بعيدًا عن التصعيد العسكري المباشر الواسع. هذا الأسلوب أعاد تشكيل قواعد الاشتباك في المنطقة، مؤكداً أن الصراعات الحديثة لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية المفتوحة، بل على الحروب السيبرانية والاستخباراتية التي تدار خلف الكواليس.
العملية الإسرائيلية، بردّها الإيراني المحدود، كشفت عدة ملامح عميقة في شكل الحروب الحديثة:
أولًا: الحرب الاستخباراتية أصبحت بديلاً فعالًا عن العمل العسكري المباشر. استخدام الموساد للوكلاء المحليين، ونجاحه في اختراق بنى أمنية داخلية شديدة التحصين، مؤشر على انتقال الحرب من الميدان إلى المجتمع، ومن الجغرافيا إلى الشبكة.
ثانيًا: الردع المتبادل أصبح غير معلن، لكنه قائم. إيران لم تضرب القواعد الأمريكية، لكنها ضربت السيادة السيبرانية الإسرائيلية. إسرائيل نفّذت العملية داخل طهران، لكنها تجنّبت التصعيد الإقليمي الشامل.
ثالثًا: الخطوط الحمراء تغيرت. فالقانون الدولي، وأعراف الحرب، وحتى قواعد الاشتباك القديمة، لم تعد تنطبق على هذه النوعية من المواجهات، حيث لا جبهة، ولا علم، ولا هدنة، مما وضع نهاية مؤقتة لهذه الحرب وجعلها درسًا لكل الأطراف حول خطورة التصعيد العسكري في المنطقة.
رغم غياب الإعلان الرسمي أو الاتفاقيات، تركت هذه الجولة أثرًا عميقًا في موازين القوى الإقليمية، حيث برهنت أن “حروب الظل” لم تعد ظاهرة هامشية أو تكتيكية، بل أصبحت أداة استراتيجية مركزية لإدارة النزاعات المعقدة التي تتشابك فيها الحسابات النووية، والسياسية، والردعية.
ما شهدته مايو 2025 كان بمثابة اختبار استراتيجي دقيق وحاسم لكل من إسرائيل وإيران، وربما الولايات المتحدة أيضًا. اختبار لطبيعة التسامح مع “الضربة الأولى”، ولقدرة كل طرف على تحقيق أهدافه دون اللجوء إلى إعلان الحرب الرسمية، ولمهارة إدارة النزاع عبر أدوات جديدة وغير تقليدية، من الطائرات المسيّرة إلى الهجمات السيبرانية.
الدرس الأبرز من هذه “الحرب في الظل” هو أن الحروب الحديثة لم تعد تحتاج إلى المدافع والجنود فقط، بل أصبحت تُدار عبر الكيبوردات، وشبكات العملاء الخفية، وقرارات تُتخذ بعيدًا عن الأضواء والعلن.
وفي ظل هذا المشهد المتغير، وتحول المنطقة إلى مسرح معارك خفية، يظل السؤال قائماً وملتهباً: هل ستكون الحرب القادمة معلنة، أم أننا سنكتفي بالاستيقاظ على تداعياتها التي لا تُرى إلا بأثرها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
في الحرب الاخيرة بين امريكا والكيان الصهيوني وايران هل شهدت ( حرب ظل ) وهل طبقت فيها مستلزمات ( حروب الظل ) ومن مارسها وماهي نتائجها في حالة تطبيقها
حروب الظل… الوجه المظلم للصراعات الحديثة
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه موازين القوى بشكل مستمر، تظهر صراعات جديدة لا تشبه ما عرفناه من حروب تقليدية. هي حروب تُخاض بلا إعلان رسمي، بدون جيوش ظاهرة أو أعلام ترفرف، لكن تأثيرها أشد وأخطر، لأنها تحدث في الظل، بعيدًا عن أعين الرصد الإعلامي والجماهيري. هذه هي حروب الظل… الوجه المظلم للصراعات الحديثة، حيث تتحول الاتصالات إلى أسلحة، وتُدار المعارك عبر شاشات الكومبيوتر، وتُكتب نتائجها على حسابات سرية وعقود من الصمت. في هذا المقال، نسلط الضوء على هذه الحروب الخفية، ونكشف أبعادها، وآثارها، ودورها الحاسم في تشكيل واقعنا المعاصر.
لم تعد الحرب كما عرفناها. لم نعد نراها تُعلن على لسان رئيس دولة، أو تُفتتح ببيان رسمي يصاحبه قصف شامل. لقد ولّى زمن الجيوش الزاحفة تحت الأعلام، ليُستبدل بزمنٍ جديد: زمن “حروب الظل”، حيث تُخاض المعارك بلا صوت، ويُقتل الخصم دون طلقة، ويُعاد تشكيل الجغرافيا السياسية للعالم من خلف شاشات الحواسيب، أو عبر إشارة تفجير تُرسل إلى هاتفٍ ذكيٍّ في جيب مقاتل.
تبدو العبارة درامية، لكن الواقع أكثر قسوة من اللغة. فما يجري حولنا اليوم ليس سوى تجليات مكثفة لهذا النمط الجديد من الحروب، حيث الصمت لا يعني سلامًا، والهدوء لا يعني غياب المعركة.
في العلوم السياسية والعسكرية، تُعرّف “حرب الظل” بأنها مجموعة من العمليات السرّية، غير المعلنة، التي تُنفّذها دولة أو جهة فاعلة ضد خصومها، دون اعتراف مباشر أو انخراط علني في النزاع. تشمل هذه العمليات، الاغتيالات الانتقائية، الهجمات الإلكترونية (السيبرانية)،التضليل الإعلامي،الحرب النفسية، تمويل وتسليح مجموعات بالوكالة، اختراق الأنظمة والاتصالات.
ويُنظر إلى هذه الحروب بوصفها أدوات جيوسياسية بديلة عن الحرب الشاملة، لكنها لا تقل خطورة عنها، بل تفوقها أحيانًا في الأثر النفسي والتكلفة البشرية بعيدة المدى.
لعل أوضح الأمثلة على هذه الحروب يمكن أن نراه في محاور ثلاث متصلة: الاول :الولايات المتحدة وإيران: عقود من الصراع السرّي بدأت حروب الظل بين الطرفين منذ لحظة سقوط الشاه عام 1979، لكنها اشتدت بعد البرنامج النووي الإيراني: في عام 2010: استخدام فيروس “ستوكسنت” لتعطيل أجهزة الطرد المركزي. واغتيال محسن فخري زاده، أهم العلماء النوويين الإيرانيين.مع استهداف منشآت عسكرية ونفطية دون تبنٍّ رسمي.
والثاني :روسيا والغرب: من الاغتيال بالسم إلى تفكيك الديمقراطيات
التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية (2016).و محاولات اغتيال منشقين مثل سكريبال وليتفينينكو باستخدام مواد سامة. وكذلك استخدام مرتزقة كـ”فاغنر” في إفريقيا وأوكرانيا دون مسؤولية قانونية واضحة.
والثالث إسرائيل وحزب الله: “تفجير الصمت”
أحد أبرز فصول “حرب الظل” في الشرق الأوسط هو الصراع المستمر بين إسرائيل وحزب الله. ورغم غياب المواجهة العسكرية المباشرة منذ 2006، إلا أن العمليات السرية لا تهدأ:
– اغتيالات لعناصر ميدانية في سوريا ولبنان.
– استهداف شحنات أسلحة إيرانية.
– والأخطر: تفجير أجهزة اتصال وهواتف تعود لعناصر الحزب.
في حالات موثقة، وُجدت هواتف انفجرت لدى عناصر في مهام ميدانية بعد اختراقها أو زرع متفجرات دقيقة فيها، ويُعتقد أن إسرائيل تستخدم هذه الوسيلة كأداة اغتيال نظيفة، بلا بصمة.
لماذا تفضّل الدول هذه الحروب؟
من وجهة نظر علمية تحليلية، تبرز عدة دوافع استراتيجية:
1. تجنّب كلفة الحرب التقليدية: سياسيًا، اقتصاديًا، وإنسانيًا.
2. مرونة عالية في الإنكار: يسمح للدول بالتملص من المسؤولية.
3. تحقيق أهداف دقيقة بأقل قدر من التصعيد.
4. التحكم في “بيئة الخصم” عبر الاختراق الناعم بدل المواجهة الصلبة.
من يدفع الثمن؟
المدنيون، والضعفاء، والمجتمعات الهشة هم ضحايا هذه الحروب أولًا وأخيرًا.
في العالم العربي، تحولت دول بأكملها إلى مسارح مفتوحة لحروب الظل:
– سوريا: ساحة تصفية حسابات.
– اليمن: حرب وكالة بامتياز.
– لبنان: بلد يتآكل ببطء تحت عبء الصراع الاستخباراتي والإعلامي والاقتصادي.
كلمة أخيرة: حين يصبح الوعي مقاومة
إذا كانت هذه الحروب لا تُخاض علنًا، فإن سلاحنا الوحيد هو الوعي.
الوعي بأن ما يحدث خلف الستار أخطر بكثير مما يُقال على المنصات.
الوعي بأن الصمت ليس حيادًا، بل تواطؤ أحيانًا.
وأن المطالبة بالشفافية، والمحاسبة، وحق المعرفة، هي بداية الطريق لمجتمعات لا تُقاد عبر الخوف أو الجهل أو الأكاذيب.
في زمن حروب الظل… الصوت هو فعل مقاومة.