23 ديسمبر، 2024 10:17 ص

إنَّه مِن مواليد 25/2/1974م ، في محافظة ( بابل ) العراقية ، لأبٍ كانَ يشتغل بالتعليم ، وأمٍ بغدادية لا تعرف القراءة والكتابة ، وهو أكبر أخوته الأربعة ، لكنَّه أقلُّهم في التحصيل المدرسي ، إذ لمْ يكمل دراسته الجامعية في أحدِ أقسام اللغة العربية في جامعة ما من جامعات بغداد ، بسبب قسوة ظروفه الاقتصادية في تسعينيات القرن الفائت والحصار الذي كانَ مفروضاً على بلده العراق نتيجة تصرُّفات حاكمه الهوجاء وأفعاله النكراء ؛ كان يشتغلُ وقتذاك عاملَ كهرباء ليساعد والده المُسنَّ على صعوبات الحياة ، وحتى يكملَ أخوته دراستهم في كليات الطب والهندسة والمدارس الثانوية ، وكانَ قد وصلَ إلى المرحلة الثالثة في قسم اللغة العربية ذاك ، وكان ترتيبه الأوَّل على طلابه ، وظلَّ يعيد ويؤجِّل السنة تلو الأخرى ، حتى فصلوه من الجامعة في العام الدراسي 1996 _ 1997م .
تحوَّلَ بعدها لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية ، فخدمَ خمسةً وخمسينَ يوماً ـ من أصل سبعينَ ـ في مركز تدريب بغداد الأساسي الثالث بمنطقة ( التاجي ) شمال بغداد ، ليتأجَّلَ بعدها لمدَّة خمسة أعوام لأسباب إنسانية ، وكان هذا التأجيل عن طريق الصدفة المحضة ، فقد دعسَتْ سيارة أحدَ الأطفال أمامه في مرآب الكاظمية ـ وهو عائدٌ إلى بيته من وحدته العسكرية مرتدياً لباسها ـ وما كان منه إلا أنْ حملَ الطفل بدون تردُّدٍ أو تفكير إلى مستشفى الكاظمية التعليمي ليسعفه بعد أنْ هربَ السائق الداعسُ إلى جهةٍ مجهولة ، وهنا تمَّ توقيفه من قبل رجال الشرطة المتواجدينَ في ذاك المستشفى ، واتصلوا بدورية الانضباط العسكري ليأتوا ويأخذوه إلى سجنهم المعروف بـ ( الحارثية ) في معسكر الرشيد ، لأنَّه عسكري ولا يحقُّ للشرطة المحليَّة توقيفه ، وعبثاً حاولَ إفهامهم أنَّه ليسَ مَن دَعس الصبيَّ بلْ مَن أنقذه وأسعفه ، لكنَّهم كانوا (( وكأنَّ على رؤوسهم الطير )) ! ، وكانَ كمَن يتحدَّث مع نفسه ، إلى أنْ أنصفه الربُّ في اللحظة الأخيرة بعدما وضع منتسبو دورية الانضباط العسكري الأغلال في يديه وهمُّوا باقتياده خارج مبنى المستشفى ، بأنْ صار قبالتهم وقبالته والد الصغير المدعوس بالسيارة ومعه شخصان من منطقة الكاظمية يعرفانه تصادَف وجودهما بمحلِّ الحادث ، وشهدا بما رأياه ، وأكَّدَتْ شهادتهما بدلته العسكرية التي كانتْ مضرَّجة بدم الصبي ، فَفُكَّتْ الأغلال من يده وشكره الجميع ، واعتذر منه كلٌّ من رجال الشرطة والانضباط العسكري على سوءِ معاملتهم له وكانوا خجلينَ أنفسهم ، ولكنَّ والد الطفل لم يسكت عنهم ، فأخذ له حقَّه منهم ، ووصلَ به الأمرُ إلى حدِّ شتمهم وتعنيفهم على فعلتهم النكراء معه ، فقد كانَ يشتغلُ سائقاً برتبة نائب ضابط عند أحد معاونِي رئيس أركان الجيش .
بالغَ الوالد في شكره للرجل ، وأصرَّ على أنْ يردَّ له المعروف والجميل ، بأنْ ينقله إلى مكان هادِئ يرتاح فيه أثناء تأديته خدمته العسكرية ، فقال له ممتناً : ( ممنون آني ما أريد منك شي ) ، لكنَّ الوالد الكريمَ أصرَّ وألحَّ وحلفَ بكلِّ مقدَّساته ومعتقداته ، فقال له ليعجِّزه العبارة التالية : ( تكدر عمِّي اطلِّعني من الجيش ، هوة الجيش ما بي راحة وين ما كان هوَّة جيش ، تكدر اطلعني حتى أشتغل وأساعد أهلي ) ، وما كانَ يريد من قولته هذه له إلا أنْ يتركه بحاله لظنِّه بأنَّه لا يقدر ، لكنَّه ضحكَ وقال : ( بسيطة بسيطة .. كلش سهلة ، هاي البسيطة .. وهاي أبسط منها ماكو ) ، فأخذ اسمه عنوانه العسكري ، وانصرفَ كلُّ منهما لحاله ؛ وجاءَه بعد أسبوع إلى وحدته العسكرية ومعه أمر من وزارة الدفاع / رئاسة أركان الجيش ، معنون إلى مديرية إدارة المراتب وعن طريقها إلى مركز التدريب الذي يداوم فيه ، بتأجيل خدمته العسكرية لمدَّة خمس سنوات لأسباب إنسانية ، فلم يصدِّق نفسه وما هو فيه ، وأيقنَ أنَّ الدنيا لا تزال بخير ! .
وقبلَ أنْ تنتهي السنينُ الخمسة كانَ أخوينِ له قد تخرَّجا من جامعتيهما ، فتحسَّنَتْ أحوال أسرته المعيشيَّة ، تقدَّمَ إلى الكلية العسكرية بطلب لينتسبَ إليها ويحصل على شهادتها ـ التي اسمها شهادة ! ـ ووظيفة يعيش منها بقيَّة عمره ، ولم تكنْ فكرة الانتساب إلى الكلية العسكرية فكرته ، بلْ كانتْ فكرة ذينكَ الأخوينِ اللذينِ درسَا في كلِّيتَينِ مدنيَّتينِ على نفقة وزارة الدفاع ، وتخرَّجا منها ليداوما في الكلية العسكرية الثانية ويصبحا ضابطينِ باختصاصيهما : الطب والهندسة ؛ فسمعَ كلامهما وقبل نصيحتيهما ، فتقدَّمَ وقُبِلَ ، ثمَّ تخرَّجَ ضابطاً برتبة ملازم في العام 2002م ؛ ويا ليته ما تخرَّجَ ، فقد تمَّ تنسيبه إلى مديرية الصنف الإداري وعينة الجيش كضابط إداري ، ونقله إلى إحدى وحدات المشاة ـ بعد إكماله دورة الصنف بمدرسة الشؤون الإدارية للضباط / معسكر الرشيد ـ في منطقة قضاء بيجي بمحافظة ( صلاح الدين ) ؛ وهنا كانتْ الطامة الكبرى والصدمَة الهائلة ، لأنَّه اكتشفَ الدولة العراقية على حقيقتها ، فوجدَ نفسه بين مجموعة من الفاسدينَ أو شلَّة من الحرامية وقساة القلوب ، فكانوا مثلاً يقسونَ على الجندي في التدريب لا ليعلموه بلْ ليبتزوه فيُجبَر على أنْ يدفع لهم ، عندها تحسَّرَ على نفسه وأسِفَ على حياته التي عاشها وأدركَ أنَّه لم يفهم منها شيئاً ! ، وقرَّرَ أنْ لا يكون مثلهم ، حتى لو كلَّفه ذلك نزع رتبته العسكرية من على كتفيه ، فكانَ يصادِق المراتب والجنود ويمزح معهم كثيراً ليخفِّف عنهم الظلم الذي يتعرَّضونَ له ، ويتربَّع ليأكلَ معهم في قصعتهم ، ولا يأكلُ في مطعم ( بهو ) الضباط ، ويجلسهم في غرفته ويسامرهم ، ولا يقبل منهم التحية العسكرية ، ويقول لهم : أدُّوها لآمر الوحدة أو الضابط الأقدم منِّي عندما أكون معه وهي ستصل إليَّ ، فكانوا لا يخافونَ منه بلْ يحبُّونه ويحترمونه ، وينفِّذونَ كلَّ ما يطلب منهم إرضاءً لخاطرهِ لا لرتبته وسلطته ، وفي الحرب الأخيرة افتداه بعضهم بأرواحهم ، ومنهم من بقي معه إلى الأخير ولمْ يهربْ إلى أنْ انسحبَ منها ، فانسحبوا معه بعدما سُحِقَتْ وحدتهم العسكرية ؛ والطريف أنَّ كلَّ مَن لمْ يبقَ معه جاءَه قبل هروبه وأخبره بأنَّه سيهربُ ، وطلبَ منه أنْ يهربَ معه ، وكانتْ كلُّ أعمالهم وتصرُّفاتهم هذه نتيجة معاملته الطيبة لهم ؛ وكذلك كانَ ينجز معاملات تسريح من يستحق التسريح منهم دون أنْ يبتزَّهم ولا يسمح لأحد أنْ يبتزَّهم أيضاً حتى آمر الوحدة ، وبسبب هذا كلِّه كان كلُّ زملائه الضباط ـ إلا واحداً ـ يكرهونه ولا يطيقونه ولا يرغبونَ بمجالسته أو مصاحبته ، وكانت بينه وبينهم ما يعرف بـ : ( مصانع الحدَّاد ) ، ويقولونَ له معيِّرينَ دائماً ومنكرينَ عليه محبَّة جنوده : ( إنت مو مال ضابط ، إنت أكثرك تكون نايب ضابط ) ، ولم يكن ذلك يهمُّه ، ولم يكترث له .
في فجر يوم 7/4/2003م ، وبعد أنْ انسحقَتْ سرية مقر لواء المشاة الذي كانَ يشغل فيها منصبَ الضابط الإداري برتبة ملازم ، ولمْ يبقَ من أفرادها ومنتسبيها غيره مع ضابطٍ آخر برتبة مقدَّم وثلاثة جنود ؛ عاد إلى بيته في بغداد ، وما أدراكم كيفَ كانتْ تلك العودة المشؤومة ؟ ! ؛ كانتْ مشياً على الأقدام في معظمها ، ومن ذلك المكان النائي البعيد المعروف في الخارطة العسكرية بـ : ( السكرية ) ، وهي منطقة تقع بين مدينتي ( حديثة وبيجي ) في منطقة العراق المتموِّجة أو على خارطته اللعينة ، واستمرَّتْ مدَّة يومينِ ونصف اليوم تقريباً ، لم يذق المسكينُ للنوم طعماً في أولهما ، فلم لم ينَمْ إلا سويعاتٍ قليلاتٍ معدوداتٍ قلقاتٍ في ثانيهما ، لم تكفِه أو ترح بدنه الذي بلغ منه التعب والإعياء ما بلغ ، وكذا شُلَّ تفكيره ، وفُقِد تركيزه .
لم يمشِ صاحبنا في بداية رحلته العصيبة على شارع عام أو طريق معبَّد ، بلْ مشى مع سكَّة القطار التي يعرفها جيداً تمتدُّ من مدينة ( بيجي ) إلى بغداد جنوباً ومنها إلى الموصل شمالاً ، ولم تكن هناك نقطةٌ دالة لتحديد أيٍّ من الشمال أو الجنوب أو غيرهما ، لكن ومِن حسن حظِّهِ أنْ كانتْ معه ( بوصلة ) حدَّدَ بها أو عن طريقها اتجاه الجنوب المؤدِّي إلى بغداد بأنْ سارَ عكس اتجاه الشمال الذي تشير إليه دائماً .
كانَ يرتدي ملابسه العسكرية ، ورتبته متعلِّقة فوق كتفيه ، ويحملُ سلاحه الخفيف التقليدي المعروف ( الكلاشنكوف ) بيده ، ويضع مسدَّسه ( طارق 9 ملم ) في خاصرته ، ومعه ناظور ( دربين ) ، وبعض القنابل ( الرمانات ) اليدوية ، لكنَّه لم يستخدمها كلَّها أو بعضها في قتل أحدٍ من البشر أيِّ بشر ، ولم يستخدمها حتى في قتل الكلاب السائبة والأفاعي التي اعترضَتْ طريقه وطريق جنوده الثلاثة الذين رافقوه في هذه الأيَّام العصيبة التي لم يستطع نسيانها رغم كثرة محاولاته ، ومنعَ أحدهم أيضاً أنْ يقتل كلباً ألحَّ في مطاردتهم والعواء وراءَهم ، وأمره أنْ يطلق النار في الهواء أو فوقه ليذهب عنهم ويتركهم بحالهم ويحلَّ عنهم أو عن سبيلهم ؛ أمَّا الضابط الذي هو برتبة مقدَّم الذي أفلتَ من مَلَكِ الموت مثلهم ، فقد اتَّجه منفرداً وحده شمالاً باتجاه دارٍ لأحد أقاربه في مدينة ( بيجي ) ، ولم يكلِّف نفسه حتى دعوتهم للذهاب معه ليحميهم أو ليحتمونَ به ، فقد ودَّعهم بقوله أو عبارته التي ما يزال يذكرها جيداً : ( الله ويَّاكم ) ، عند وصولهم إلى سكة القطار ؛ وكان قبلَ ساعاتٍ قد حفرَ مع جنوده أنفسهم الذين معه تلك الحفرة العميقة ليخرجوه من الملجأ الذي تهدَّمَ فوق رأسه نتيجة قصف قوات التحالف ، لاحظوا كيفَ ردَّ الجميل والمعروف وجازى المروءة والإحسان وكافأه وكافأهم بقوله : ( الله وياكم ) ! .
كانَ وجنوده أثناء سيرهم يبتعدونَ عن سكة القطار عندما تقتربُ من المدن الواقعة على الطريق ليتجنَّبوا سيطرات الانضباط العسكري وحواجز البعثيينَ على طرقاتها ، فلمْ يكونوا قد سمعوا الأخبار ، لذا لم يكونوا يدرونَ ماذا جرى أو يجري في الدنيا ، لكنَّهم واعون لما صارَتْ عليه حالة وحدتهم العسكرية فقط ، وكانَ أوَّل ابتعادٍ لهم عن سكة القطار هو عندما اقتربَتْ مِن مدينة تكريت ، متجهينَ بمعاونة البوصلة إلى الجنوب الغربي من مكانها ، حتى لا يفقدوا كثيراً أو ليكسبوا بعضاً من مسافةٍ إلى الأمام تفيدهم في وجهتهم ، فلو اتجهوا غرباً فقط سيكونونَ قد بذلوا جهداً أكبر وقطعوا إلى الأمام شوطاً أقلَّ عندما يعودونَ إليها ليكملوا طريقهم .
لا تستغربوا يا أصدقائي الأعزاء من هذا التفصيل المملِّ في الوجهات ولا تتعجَّبوا ، فلو كنتم قد خدمتم في أحدى وحدات المشاة أو غيرها من وحدات الجيش العراقي السابق ، لتولَّد عندكم ما يُعرَف بالإحساس بالاتجاهات أو شيءٌ منه ، وتجمَّعَتْ عندكم خبرة أكثر من التي عندهم وعندي فيها ؛ قلْتُ : كانَ ابتعادهم الأوَّل عن سكة القطار عندما اقتربَتْ من مدينة تكريت باتجاه الجنوب الغربي ، انحرفوا عنها بعد مرورهم بدورٍ لعسكريينَ من المراتب كانوا يداومونَ في كلية القوة الجوية وقد أسكنوا في هذه البيوت ، محاولينَ أولاً الابتعاد عن سياج تلك الكلية هناك ، فقد اضطرُّوا  للزحف على بطونهم عشرات الأمتار حتى يبتعدوا عن أبراج حمايتها ، مع العرض أيضاً أنَّهم لم يكونوا يدرونَ ما الذي وصل إليه حال منتسبيها ، لكنَّهم ابتعدوا خوفاً وحذراً ؛ ثمَّ الابتعاد عن سيطرة ( تكريت بيجي ) ، واستفادوا من طبيعة تلك المنطقة الجغرافية في التخفي والتضليل ، وكان هذا الابتعاد طويلاً جداً ، ليتجنَّبوا ويبتعدوا عن مدينة ( تكريت ) ، ثمَّ بعدها مدينة ( الدور ) ، ثمَّ تلك القرية على الطريق والمعروفة بـ ( مكيشيفة ) ، وقد توغلوا كثيراً في الجنوب الغربي حتى وجدوا أنفسهم قرب بحيرة ( الثرثار ) ، ولم يتوقفوا عن التوغل في هذا الجنوب الغربي إلى أنْ لمحُوا المدرَّعات الأمريكية فيها ، فلمْ يكن أمامهم إلا أنْ يتجهوا إلى الجنوب الشرقي بحذر ، وهنا قد بدأ أوَّل الظلام يخيِّم على رؤوسهم مع تعب بدأ يظهر على أجسادهم الخاوية التي لم تدخلها أيَّة لقمة رغيف من أوَّل فجر ذلك اليوم العصيب ، ليصلوا مع منتصف الليل أو بعده بقليل إلى سكة القطار مرَّة أخرى ، ولمْ يدركوا أينَ هم ؟ ، إلا أنَّهم تركوها ليصلوا إلى الطريق العام ، فوجدوا أنفسهم قبل مدينة ( سامراء ) ببضعة كيلومترات ، وهنا خلصَتْ طاقتهم ولم تعد أقدامهم قادرة على حملهم ، وقفوا على الشارع العام ، وكانتْ السيارات قليلة جداً بل معدودة ، ولم يكلِّف أحد نفسه رغم توسُّلهم بجميع مَن مرَّ بهم أنْ يقف ليقلَّهم معه ، حتى مرَّتْ مجتازة لهم سيارة عسكرية ـ نوع ( بيك آب ) حديث ـ بها ضابط برتبة نقيب ، تبيَّن لهم بعد تحاوروا معه فيما بعد أنَّه من أبناء مدينة ( النجف ) ، ومعه سائق برتبة عريف من أهالي ( سامراء ) ، كانا يرومانِ الذهاب جنوباً إلى معسكر ( التاجي ) ببغداد لأداء مهمَّة ما ، توقَّفَتْ هذه السيارة بعد أنْ اجتازتهم بعدَّة أمتار ، وعادَتْ إلى الخلف باتجاههم أو نحوهم ، ونزَل منها هذا الضابط النقيب ، وسلَّم هو عليهم واستفسرَ عن أحوالهم ، فأخبروه بما جرى معهم وما عانوه في طريقهم ، فعرضَ عليهم أنْ يوصلهم في طريقه الذي ينتهي بمعسكر ( التاجي ) ومستودعاته ، فقد كان يريد أنْ يجلبَ عتاداً لوحدته التي تقع في الموصل ، إلا أنَّهم نصحوه أنْ لا يكملَ مهمَّته ويعود إلى بيته وأولاده الذينَ هم بحاجة إليه ، لأنَّ الأمرَ منتهيٌ أو المعركة محسومة ، لكنَّه لم يسمع نصيحتهم ولم يستجبْ لهم ، لأنَّ وحدته العسكرية لم تتعرض بعد لقصفٍ ، أو إنَّهم لم يروا القوات الأمريكية بعدُ ، وقد رجوه أنْ ينحرفَ عن مساره ليوصلهم إلى داخل مدينة ( سامراء ) ، أو يقلَّهم إلى مشارفها إنْ استطاع ، استجاب الرجل بطيبةٍ ولطفٍ وسماحةٍ دماثة خُلق ٍ ، رغم عدم اقتناعه بانسحابهم من هذه المعركة المزعومة وغير المتكافئة ، فأوصلهم إلى ( الكراج الجديد في سامراء ) ، وكانت الساعة الثالثة والنصف فجراً عندما نزلوا من سيَّارته ، شكروا له فضله ، وأثنوا على جميله ومعروفه ، وتركَوا له سلاحهم كلَّه ، وأخبروه أنَّهم لمْ يعودوا بحاجة له ، فقد انتهى كلُّ شيءٍ بالنسبة لهم ، ثمَّ ودَّعهم ليكمل طريقه .
كان هذا المكان ـ ( كراج سامراء الجديد ) ـ خالياً من الناس والسيارات ، وفيه بعض الدكاكين أو ( أكشاك ) لبيع الشاي والسكائر وبعض المأكولات ، ولم تكنْ كلُّها مفتوحة ساعتها ، توجَّه إلى أحدها ولمْ يجد عنده طعاماً ، كما لم يجد عند غيره ، فاشترى منه بعض علب من البسكويت ( بسكت ماري ) له ولجنوده ، وطلبَ منه أنْ يشعل ناره ويحضِّرَ لهم شاياً ، وافق بعد تأفُّفٍ وتذمُّرٍ ! ، ولم يوافق غيره ! ، وكان هذا المأكول ( البسكويت ) ألذَّ طعامٍ أكلوه في حياتهم ، أو هكذا أحسُّوا بعد شدَّة الجوع الذي تمكَّن منهم ، ويومها عرفُوا معنى أو عذرُوا الذينَ قالوا بأنَّ ( الجوع كافر ) ، نامَ ونامَ كلُّ من جنوده نوماً عميقاً على مصطباتٍ في ذلك ( الكراج ) ، حتى استفاقوا في الساعة الخامسة والنصف على صوت أحد سائقي سيارات النقل المعروفة بـ ( الكيَّات ) وهو يصيح ( بغداد ، بغداد ، بغداد ، ………. ) بصوتٍ عالٍ ومزعج ، طلب منه أحد جنوده أنْ يركبوا معه ، لكنَّه قال لهم : علينا أنْ نتخلَّص من ملابسنا العسكرية أولاً ، ذهبَ إلى صاحب الدكان ( الكشك ) وطلبَ منه أنْ يدبِّر لهم ملابس مدنية أو اللباس العربي المعروف بـ ( الدشاديش ) مقابل ما يطلبه أو من مال أو يفرضه عليهم من ثمن ، فقد كان يحمل ما تبقَّى من راتبهِ للشهرينِ اللذينِ قبضهما مقدَّماً ، وبالتحديد مبلغ ( 160000 ) ألف دينار عراقي وبعض الفكَّة ( الخردة ) ، لأنَّ القائد الضرورة الملهم والأوحد كانَ قد زيَّد رواتبهم في الأشهر الثلاثة قبل الضربة الأمريكية إلى الضعف تقريباً بذرائع متنوِّعة ، معتقداً أنَّهم سيستميتونَ في الدفاع عنه وعن كرسيِّه ـ الذي حصل عليه بالغدر والدم وحكم من فوقه بالحديد والنار ـ مقابل هذه الزيادة المالية ، فقد زاد راتب الملازم من مبلغ ( 58000 ) إلى ( 108000 ) ألف دينار عراقي ؛ لكنَّ صاحب الدكان رفض ، وأعطاه محاضرة في الوطنية ، وما كان منه إلا أنْ شكره وقال له ساخراً منه مستخفاً به وبكلامه وبعقليَّته المتحجِّرة ودماغه المغسول ، وحزيناً على حالته التي وصلَ إليها ومتألِّماً منها وعليها : ( إلي إيدَة بالمَي عمِّي مُو مِثل إلِّي إيدَة بالنار ، وبالعافية عليك الوطن ، وإِنت امبيِّن خوش مواطن ! ) ، وأخذَ جنوده مسرعاً فتوارى عنه ، ليذهب بهم مشياً ـ وهم متعبونَ ـ إلى مركـز مدينة ( سامراء ) قرب ضريح الإمامينِ ( علي الهادي والحسن العسكري ) ، ليجد هناك سيدة عجوزاً باسمة الوجه خفيفة الظلِّ مرحة تبيع القشطة ( الكيمر ) و عسل التمر ( الدبس ) ، ومعها رجلٌ يبيع ( الشاي ) ، مقابل أحد أفران الخبز أو ما يعرف عندنا في العراق بـ ( الصمون ) ، جلسوا قربها فرحَّبَتْ بهم ، واشترى منها ليأكلوا حتى يشبعوا فيطلِّقوا الجوع ويلعنوه ، واضطرُّوا إلى أنْ ينتظروا هناك في مركز المدينة حتى الساعة العاشرة تقريباً أو العاشرة والنصف تقريباً ، حتى فُتِحَتْ دكاكينُ باعة الملابس واشتروا منها أو منهم اللباس العربي أو ( الدشاديش ) ، وما تتطلبه من نِعَال ( شحاطات ) ، وبذا لبسوها ورموا بزاتهم العسكرية في مكان للمهملات بعد أنْ وضعوها في أكياس الملابس الجديدة التي اشتروها ، ويشهد الربُّ أنَّه لمْ يبخل لا على نفسه وعلى جنوده ، فقد اشترى ملبوساتٍ ( دشاديش ) أربعة / نوع ( دشداشة شاكر ) بألوان مختلفة كلٌّ حسب ذوقه ورغبته ، مع أربعة من أجود المراكيب ( النعال ) المختلفات الألوان أيضاً ، ولم يفاصل البائع على غير عادته وطبعه ! ، أمَّا البائع فلم يستطع التخلص من دهشته ، وشقَّتْ عليه نظراتُ استغرابه ، وهو يراهم يبدِّلونَ ملابسهم في زاويةٍ من محلِّه ، لكنَّه لم يسألهم ولم يشرحوا له ، فقد كانتْ مدينة ( سامراء ) يومها قد سمعَتْ بالحرب ولكن لمْ ترَها ، فلا داعي للاستغراب من تعجُّب الرجل ودهشته ؛ ونسيْتُ أنْ أخبركم أيضاً أنَّ ذلك الضابط النقيب صاحب السيارة العسكرية الـ ( بيك آب ) الذي أوصلهم بها إلى ( كراج سامراء ) ، قد اجتازَ سيطرتها العسكرية بكتاب ( المأمورية ) الذي كانَ يحمله ، وبذريعة أنَّه يريد أنْ يزوِّد سيَّارته بالوقود من محطة المدينة ، فقد كانت الدولة العراقية بكلِّ مفاصلها مازالتْ قائمةً يومها في تلك المدينة وكأنَّها في كوكبٍ آخر ! ؛ بعدها ركبوا سيارة أجرة ( تكسي ) إلى ( الكراج ) ذاك ، ليركبوا منـه سيارة نقل عام ـ ( كيا نفرات ) ـ إلى بغداد .
لم تنهِ هذه الرحلة العصيبة عند هذا الحدِّ ، فقد نام الجميع ثانية في سيارة النقل العام التي انطلقتْ بهم من ( كراج سامراء الجديد ) في الساعة الواحدة ظهراً أو بعدها بقليل ، ثمَّ استفاقوا على ما لم يكن بالحسبان ، ليجدوا الطريق إلى بغداد مقطوعاً عند جسر ( التاجي ) ، ممَّا اضطرَّ سائق السيارة التي كانوا يستقلونها إلى الانحراف عنه يساراً ، ليدخلَ إلى أو يمشي في  منطقة ( الطارمية ) ثمَّ يعبرَ الجسر الحديدي العسكري الذي كانَ يقع في نهايتها للوصول عبر قرىً لا يعرفونها أو لمْ يمرُّوا بها قبلاً ، إلى ينتهي به وبهم المطاف إلى طريق معبدة هي طريق بعقوبة الجديد عند منطقة ( بوب الشام ) ، وهنا كان الطريق مقطوعاً أيضاً ، وصارَتْ الساعة إلى السادسة مساءً ، فقد ضاع الوقتُ في السير بينَ البساتينِ وفي الزحام .
قرَّر صاحبنا أنْ يبيتَ ويقضي الليل في مكانه الذي وصل إليهِ ، لأنَّ مَن لقيهم عنده أخبروه بأنَّ القوات الأمريكية قد وصلَتْ إلى منطقة ( الشعب ) وقطعتْ الطريق ، أو هناك معركة تدور رحاها فيها ، فمن وجهة نظره أنْ لا داعي للمجازفة ، وحسناً فعل ، فقد اتجه إلى داخل قرية ( بوب الشام ) واشترى طعاماًَ له ولأصحابه من أحد المطاعم الشعبيَّة فيها ، لم يكنْ طعاماً فاخراً ، بلْ بعض المقالي ، كـ : ( الفلافل ، الباذنجان ، البطاطا ) ، التي لم يجد غيرها ، أكلَ ومَن معه ولم يكونوا بتلك الدرجة من الجوع ، ونامُوا في أحد هياكل البيوت التي لم يكتمل بناؤها ، بعد أنْ افترشوا أرضه الخشنة بأكياس الإسمنت التي وجدوها حوله أو قربه ؛ وقبل نومهم تحسَّفوا وتأسَّفوا على ملابسهم ( دشاديشهم ) الجديدة المشتراة من سوق ( سامراء ) ، والتي تلوَّثَتْ ببقايا الإسمنت في أكياسه ! ، وتندَّروا بذلك وضحكوا حتى غلبهم النوم ولم يدروا بأنفسهم من شدَّة التعب والإعياء الذي بدأ يظهر عليهم ويأخذ مأخذَه منهم .
وكانتْ الساعة الخامسة فجراً ، استيقظ وأيقظ جنوده ، وليكملوا رحلتهم التي ابتدأتْ بالسير على الطريق العام إلى وصلوا إلى سيطرة ( الشعب ) التي كانتْ خالية من البشر وخاويةً من الآثاث ، وقد فشلتْ قبلها محاولاته ومحاولاتهم بإيقاف أيَّة سيارة ، وقد اقتربتْ الساعة من السادسة صباحاً وبدأ النور يتكشَّف ، عندها وقفتْ لهم سيارة صالون ـ نوع ( كرونا ) خصوصي ـ وسألهم لهم صاحبها : ( تريدون تكسي ؟ ) ، حدَّثه زعيمهم بقولٍ لطيفٍ أو مُلَطَّفٍ ، قائلاً : ( تجعلنا ممنونين ) ، فاستفهم منه عن وجهتهم ، فقال له : إلى منطقة ( الدورة ) ، فطلبَ منه مبلغاً كبيراً هو : ( 60000 ) دينار عراقي ، ولمْ تكنْ أجرته يومَ ذاك وفي الظروف العاديَّة تتجاوز الخمسة أو الستة آلاف دينار عراقي ، فقد طلب الرجل عشرة أضعاف حقِّه أو يزيد ، متعذِّراً بخطورة الطريق وانقطاع الوقود ( البنزين ) وغلائه ، وكانَ معه بعض الحقِّ ! ، المهمُّ أنَّهما اتَّفقا على ذلك المبلغ بعد أنْ رفض قابضه تخفيضه ولو قليلاً .
ركبُوا معه فأوصلهم إلى بيت صاحبنا بعد عناءٍ ومشقة ، وسلك طرقاً غير اعتياديَّة في مثل مشواره هذا ، فقد اتجه من منطقة ( الشعب ) جنوباً إلى حي القاهرة ، ولأنَّ الدبابات الأمريكية كانت تقطع طريق محمد القاسم السريع ، سارَ بهم غرباً إلى منطقة ( الأعظمية )  فـ ( الكاظمية ) فحي الجامعة ، ثمَّ ( نفق الشرطة ) و ( حي العامل ) فمدينة ( البياع ) ، وصـولاً إلى طريق ( بغداد ـ حلة ) ليدخل منه إلى منطقة ( الدورة ) .
استضاف الرجل جنوده خمسة أيَّام إلى أنْ هدأتِ الأوضاع وفُتِحَتِ الطرق ، فأوصلَ كلاً منهم بنفسه إلى ( كراج علاوي الحلة ) وركَّبهم إلى محافظاتهم الجنوبية ، فقد كانَ اثنينِ منهم من محافظة ( المثنى ) ، والثالث من محافظة بابل . والغريب أنَّهم لم يسألوا عنه بعد هذا اليوم ، ولا يعرف هو عنهم شيئاً أيضاً ! .
وتسألنِي أينَ صاحبكَ اليوم ؟ ، أو ماذا حلَّ به ؟ ، أو أينَ أراضيه الآن ؟ ، أقول : هو يعيش معي في غربتي في بلاد الشام السورية ، منتظراً متأمِّلاً أنْ تكتمِلَ بسلام إجراءاتُ هجرته ـ أو إعادة توطينه ـ إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد انتظر فطال انتظاره ، وصبر حتى ملَّ الصبرَ ، أو ملَّ الصبرُ منه ، ومنِّي أيضاً .
والسلام ختام .