من الرحيل عبر بادية السماوة الى الرحيل عبر بوابة الخلود. سفرة طويلة من الالم، والاحلام، والامال، والغربة، والابداع، والحنين، والاصرار، والتمسك بالذاكرة، والذكرى، والمكان، والزمان، والانسان. عرفته، وانا صبي، صديقا لاخي المولع بالادب، والثقافة، والسياسة، وحب الاطلاع. كانت لدينا مكتبة غنية من الكتب الممنوعة، وغير الممنوعة. كان هذا، ربما، سر صداقتهما. ثالثهما كان الشاعر الكبير عبدالكريم كاصد. جلسات من النقاش الفكري، والادبي، ومتابعة اخر القراءات، واخر الاصدارات. الدواوين، والروايات الجديدة. اسماء لامعة جديدة من امريكا اللاتينية حتى الصين، وفيتنام، والكتب، والمجلات المصرية. كان مهدي يأتي، وينزوي في ركن من غرفة اخي حيث المكتبة، ويظل يلتهم الكتب. اذا اطللت عليه يقابلك بابتسامة خجولة، او نكتة عفوية. اخي يفهم من فتحة الشباك ان مهدي في غرفته. مهدي يدخن، وليس في بيتنا من يدخن، او يطيق دخان السيجائر، اوريحة الخمر. كان مهدي يجيد اخفاء الزجاجة، والقدح بحيث لايثيرا شك، وغضب، او حساسية ابي المفرطة تجاه كل ماهو “حرام”. يدخل اخي البيت، ويسال: “هل فأر الكتب في الغرفة”؟! “سالناه اكثر من مرة، ان كان يريد طعاما، وكالعادة يفضل انتظارك”! تجيب الوالدة. وتستغل الفرصة لتعاكس مهدي، الذي تعتبره احد افراد العائلة، تفتح باب الغرفة بهدوء: “ها، يمه ما جعت؟ شنو حية رمل؟” كان مهدي يضحك جذلا، كالطفل، وهو يسمع تعليقات امي الحريصة، ان تداريه، وتبدي حنانها، كانه احد ابناءها. اذا تاخر في زيارته تسأل اخي بقلق واضح: “يمة اشو اخوك مهدي صار فترة ما بين خاف مريض؟ اسأل، خابر”!.كان اخي يطمأنها بمزاح: “لاتخافي، اكيد دار التقدم جايبة كتب جديدة، والاخ مشتريهن! من يخلصهن يجي”! كانت هذه الصورة، التي رسخت في ذاكرة افراد البيت جميعا عنه. اضافة الى هدوئه العجيب، وسرعة بديهيته، ومزاحه، ونكاته، وبساطته، وتعليقاته. اذا ضرب الجرس، وسمع احد يسأل عن الطارق: فيرد “جريذي الكتب”، اما اذا كانت امي من يسأل فيجيب مع ضحكة بريئة، دافئة: “حية الرمل”!
الصورة الثانية، عندما التمسته، ان يصحح اولى محاولاتي الشعرية العامية. اخذها بتردد مع ابتسامة، وديعة، خجلة. كان بوده ان يعتذر، وتحرج من ذلك. قدر احترامي له، وثمن ثقتي بتقييمه. فقبل على مضض. مرت ايام، فسالته ان كان قد صحح القصيدة. جلست الى جانبه، ولم اجد خطا، او شطبا. سالته: ماذا الم تصحح القصيدة بعد؟ اجاب برقته المعهوده، موجها، نظراته الذكية، الحاذقة خلف نظارته الانيقة: وماذا اصحح منها انها قصيدتك، وبالعامية، وانا لست خبيرا بهذا النوع من الشعر؟! ثم انك اعطيتني القصيدة مكتوبة بقلم الرصاص، وانا، لا احب، ان اشوه اوراق الاخرين بالحبر، او قلم الجاف، او الالوان. ولم اجد ما يستحق الملاحظة. عليك ان تواصل التجارب، يبدو ان لديك موهبة، وأقرا المزيد. وقتها لم اصدق انه قرأها، او اهتم بها، وربما هو لايحب الشعر “الشعبي”! فسألت الاستاذ علي العضب عن رايه في القصيدة. “جميلة، ولا اخطاء فيها”!. والاوزان، والبحور؟ سالت مستغربا! “انها من بحر الخبب”. علقت: اذن الاستاذ مهدي محمد علي لم يجاملني؟! فاحتج علي العضب: “اذا كنت قد سالت الاستاذ مهدي، فلماذا تسالني هو شاعر مهم، واستاذ في اللغة العربية”!
الصورة الثالثة: طلبت منه المساعدة. بل المساندة، والتنسيق.احد الاشخاص في محلتنا، كان بعثيا عدائيا يستفزنا، فيخط على جدران بيوت اصدقاء الحزب الشيوعي شعارات حزب البعث مثل “امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، او “وحدة حرية اشتراكية”. وبخط جميل جدا، فني، وكانه خط القرآن، الذي يكتبه الخطاط الشهير هاشم. الكل كان يكرهه، ويعاديه، لفعلته، ولا يطيقه لفظاظة لسانه عند النقاش، وتهجمه المباشر على الفكر الماركسي، حتى وان كان، من يناقشه ليس شيوعيا، ولا حتى يساريا. فالكره، والامتعاض كان عاما ضد البعث، وافكاره، في بداية حكمهم نهاية ستينات القرن الماضي. اما انا فقد اتبعت معه خطا اخر. تقربت منه، رغم انه لا يود التقرب مني خوفا من تقارير رفاقه عليه، وخشية الاصطدام، والمواجهة. لكنه كان يجد نقطة التقاء معي، وهي الاهتمامات الادبية، والثقافية. كان مولعا بقراءة الا دب، ومعجبا باستاذه في اللغة العربية مهدي محمد علي. ويراه يتردد على بيتنا. طلبت من مهدي ان يحاول التاثير عليه، ويشجعه على قراء كتب غير متوفرة في الاسواق. فبدا مهدي يشجعه على قراءة الكتب لشعراء، وروائيين عالميين، وعراقيين. فاكتشف بنفسه ان افضل ما قرأه من الشعر، والرواية، والادب العام، وكتب الاجتماع، اوالسياسة، او التاريخ…الخ كتبها ماركسيون، او شيوعيون وموجودة في بيتنا. وكلما ازداد اعجابه ازداد ابتعاده عن البعث العربي الاشتراكي. اقنعته ان حزب البعث حزب قومي عربي، وهو كردي الاصل، وانه حزب افكاره فاشية تسلطية عدوانيه، وانت انساني النزعة، رغم تعجرفك المصطنع. تغيرت افكاره الفلسفية الى المادية، وتبدلت نظرته الى المرأة. وقطع علاقته السياسية، والفكرية، والتنظيمية بحزب البعث. كان عضوا في مكتب الثانويات في الاتحاد الوطني لطلبة العراق. وهذا المستوى من التنظيم لا يصله، الا من كان بعثيا بدرجة نصير، وعدائيا شرسا ضد الشيوعيين خاصة. كان هذا سببا،فيما بعد، للحكم غيابيا عليه، وعلي بالاعدام حسب القوانين، التي اصدرها صدام بحق البعثيين، والعسكريين السابقين، اذا انتموا لحزب اخر، ومن كسبهم لذاك الحزب. هرب وقتها ذلك الشيوعي المتحمس، والبعثي السابق في نهاية السبعينات، الى الكويت بتحريض مني، ودعم من والده، ليتجنب الاعدام، وانا سافرت الى الدراسة في الخارج بعد فترة مطاردة، وتخفي. بعدي بفترة هرب الاستاذ مهدي ناجيا بجلده عبر بادية السماوة الى الكويت، ومنها الى سوريا، التي استقر فيها. لم يعد للعراق بعد الاحتلال، وسقوط الصنم. ليس خوفا، ولا ترفعا، ولا ترفا، فلم ينعم بذات “الترف”، والامان، الذي نعيشه في اوربا. لكنه خشي، ان يرى البصرة على غير ما تركها. بقيت البصرة في ذهنه جنة البستان. وسيبقى هو في ذهننا الشاعر، والانسان.
كتب عن هروبه عبر بادية السماوة، مع صديقه وزميله الشاعر عبدالكريم كاصد، ومخاطر الموت اختناقا في “تانكر” حشره به المهربون مع صديقه، ورفيقه الشاعر عبدالكريم كاصد. كتب عن اكتشافه، وتلمسه، تشوه، وخراب، وانسحاق الانسان العراقي تحت طاحونة الفاشية، والحصار بعد التقائه ببعض اقاربه، ومعارفه الزائرين، اواللاجئين في سوريا. ظل قريبا من الوطن، لم يبتعد كثيرا عن بيئته، وجماهيره، ومحيطه، وقرائه. مثل مظفرالنواب ظل يحتضن العراق في قلبه، وعواطفه، واحاسيسه، ويتنسم هوائه عبر الحدود. ظل شاعرا بنتاجه، وتحسس نبض الوطن حتى توقف قلبه عن النبض. كتبت له عدة رسائل، ولم ارسلها. لا زلت محتفظا بها، كانها تعويذة ضد النسيان، وخشية، ان تسبب له مشاكل الرقيب، وتثير لواعج الاحزان. لم اتصل به كل هذه السنين، ولم ازره. اقسمت ان لا ازور سورية حتى تتحرر من الطاغوت البعثي، الذي اظطر هو، ان يتحمل ظله الثقيل. لم يكتب لي هو الاخر. لكن رسائله كانت تصل لي عبر اللمسات الخفيفة الناعمة على النتاجات الادبية، التي ارسلتها الى الثقافة الجديدة، ونشرت.
حاولت مرة، ان ارسل له مساعدة بسيطة مع احد الاصدقاء. رفض استلامها قائلا: لا اظن انه سيوافق، فانا اعرفه جيدا، واخمن انه سر عدم اتصاله بك كل هذه السنين رغم كل هذه العلاقة الحميمية بينكم.
لقد اظطرني مهدي، يوما، ان اقول “لا” للحزب لاول في حياتي. رفضت الذهاب كمشرف على هيئة تضم مجموعة من ادباء، ومثقفي البصرة بينهم الشاعر مهدي محمد علي. كيف يمكن ان اذهب كمشرف على اساتذتي؟! امر غير مفبول، ولا معقول! وقد يخلق ردة فعل معاكسة. لماذا لا تقول قد يشعرون بالفخر؟ رد صاحب التكليف. لم اقتنع بالحجة، واصررت على احترام حساسية، ورهافة مشاعر المثقف، حتى وان، كانت ثقافته بروليتارية. نحن لم نؤيد الثورة الثقافية لماو تسي تونغ في الصين، التي اهان فيها المثقفين، والمتعلمين، وعزلهم عن الحزب، والجماهير. ولن اغامر ابدا في فعل، قد يساء فهمه، او يجرح كرامة اناس لهم مكانة في المجتمع. سارفض اليوم، مثل امس، نعي الحزب، ولن اسميه الراحل، فهو لم يرحل. انه سافر للقاء السياب، والبريكان، ومصطفى عبدالله، وغيرهم من الاصدقاء. انه باق معنا ابدا. كنزه الادبي يمنحه الذكرى، والخلود ابدا. الكلام يبدو انه تطاول على الواقع، اوتكابرغير مقبول. لكننا، لازلنا، لحد الان، ندرس، ونحفظ قصائد شعراء ” “الجاهلية” فكيف بشعرائنا الذين تحتضنهم القلوب، والافكار، والكتب، والذكريات؟!