أرسلتْ لي إحدى الزميلات صورة للملوية وأمامها أزهار بنفسجية , وعنوان الصورة “الربيع في سامراء”!
والزميلة من أم الربيعين , وتعرف معنى الربيع , وقيمته ودوره في الحياة , وأهميته الروحية والنفسية والفكرية.
وعندما كنت طالبا في كلية الطب , كتبت عددا من المقالات عن أعياد الربيع , أتغنى بها وأرسمها بطاقة الشاب الحالم المتفاعل مع جمال الطبيعة في الربيع الموصلي الخلاب.
قلت للزميلة , أيقظتي أيام الطفولة والصبا في ذاكرتي , حينما كان للربيع في سامراء نكهة خاصة , إذ يزدحم بالزائرين والمصطافين , وكانت المدينة منتجعا لعدد من الشعراء , كالجواهري ونازك الملائكة وغيرهم من الأعلام.
فالربيع يعني الجمال والمرح واللعب واللون الأخضر , والنسيم العليل , الذي تحمله الرياح الغربية المنعشة الطيبة.
وكانت أشجار الدفلى تنتشر في حدائق سامراء , فتشاركنا بأزهارها الحمراء والبيضاء والوردية والبنفسجية , والماء يجري في الحدائق الوسطية لشارع الإمام من نافورة الروضة العسكرية وحتى كهف القاطول.
أما أشجار الليوكالبتوس , فأنها وارفة الظلال وتعرش فيها الأطيار , وكنا نجلس تحتها فنقرأ وننشد ونلعب ونتمتع بروعة وبهاء اللحظات المغردة المبتهجة الغنّاء.
وكانت سامراء وكأنها في مهرجانات متواصلة ليل نهار , لإزدحامها بالمصطافين والزائرين والسائحين.
وفي مساءاتها الربيعية , تصدح أغاني عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وهي تجوب شوارعها , حيث يصبح الشباب فريقين بعضهم يؤيد هذا المطرب أو ذاك, وبعد منتصف الليل يأتي دور المطربة أم كلثوم لتدور في شوارع وأزقة المدينة , حيث تسمع أغانيها تتوارد إليك من الراديو الصغير الذي يسمى “راديو الجيب”.
وكانت الملوية آنذاك تبدو بعيدة وخارج المدينة , فتقيم المدرسة سفرة إليها وقت الربيع , فنذهب لنتجول في أروقتها , ونستظل بأسوارها ونصعد إلى قمتها , وهي مزهوة بنا , ومحتفلة بالربيع الذي أحاطها بحلة خضراء وبأزهار برية متنوعة الألوان.
وفي ذلك الوقت كان أهالي سامراء يذهبون في سفرات متواصلة , إلى “تل العليج” و”قصر الخليفة” , و”قصر العاشق”, و”القائم” , و”سور شناس” , وغيرها من الأماكن الوارفة الإخضرار, كما أن عددا كبيرا من الناس يأتون من بغداد وباقي المحافظات للتمتع بالماء والخضراء والتأريخ , وبعبقون بعض النفحات الإيمانية , ويتمتعون بشدو قرّاء سامراء المصدحة أصواتهم في المناقب النبوية ومن مأذنة الجامع الكبير.
وفي الربيع تزور سامراء أنواع كثيرة من الطيور المهاجرة , التي تملأ أجواءها زقزقة وتغريدا
وتحليقا , منها طائر صغير جميل يأتيها بعشرات الآلاف كنا نسميه “الزويط” , وبط الماء الملون والأسود اللون “هليجي” , وطائر” السنونو” الذي يجوب الشوارع ويبني أعشاشه في البيوت ,و”اللقالق” التي تبني أعشاشها في أعلى المباني , وغيرها من الطيور الخلابة التي تكتظ بها أروقة المدينة الحسناء , كما يحلق في أجوائها أسراب الحمام , فكان بعض أهالي سامراء مغرمين بتربية الحمام.
وفي الأماكن الأثرية , تحلو الدبكات , وخصوصا دبكة الجوبي , حيث العزف على المزمار “المطبك” , وكان في سامراء منشدون لهذه الدبكة ذوي أصوات شجية ومحببة للنفس , تزيد الربيع بهجة ومرحا وسرورا.
وكنا صبية نلعب في ربوع المكان الفياض بالحياة والجمال , فنداعب الأشجار ونتعقب الأطيار, ونلهو متمتعين بأوقاتنا , فلا يحلو لنا أن نكون في بيوتنا , لكي لا نفقد شيئا من فيض الربيع الأخاذ.
وكان لأصوات صيادي السمك صدى في القلوب , وهم يغنون وسط النهر ويتفحصون شباك صيدهم , عند الغروب حيث الشمس تتهطل أشعتها العسلية على وجنات الأشهاد.
هكذا كان الربيع , وهذه بعض ذكرياته التي إستنهضتها صورة زميلتي , فشكرا لها على إرجاعي لذلك الزمان العذب الخلاب , وتحية لمدينتي الخالدة في ضمير الإنسانية والتأريخ , والتي ستستعيد ربيعها وستسر الناظرين إليها بجهود أبنائها الواعدين!!