23 ديسمبر، 2024 4:34 م

الربيع الامريكي والشتاء العربي

الربيع الامريكي والشتاء العربي

فجاءة ومن دون مقدمات ولا سابق أنذار أنفجرت الشعوب العربية في ثورات عارمة غير مفهومة من ناحية التوقيت أو من ناحية الاسباب والمسببات, فمن كان يتصور أن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وهو أبن المؤسسة المخابراتية التونسية والمتمرس في الشؤون الداخلية والامنية لبلده يسقط لمجرد أن شخص ما ، مجهول الاسم والعنوان يحرق نفسه لسبب يحمل عدة أوجه.زين العابدين فر من بلده بعد أثنى عشر يوما” متواصلة من التظاهرات الشعبية والتي خرجت ضده، ولا أتصور أن أنسان عاقل يعتقد من مظاهرات مهما كان حجمها ممكن أن تخرج رئيس من سدة الحكم وهو يعتليها منذ عام 1987، لكن السبب الرئيسي والذي سوف اتحدث عنه بالتفصيل في نهاية المقال، هو النصائح الغربية والامريكية المتواصلة في سرعة الرحيل والسفر خارج البلاد، لتصعد القوى السلفية ولتتصدى الى الحكم وبمعونة أمريكية مباشرة أو بصورة غير مباشرة وليلعب المال الخليجي وخصوصا” القطري( والتي تعتبر الممول الرئيسي للمخططات الامريكية الجديدة في المنطقة) دورا” كبيرا” في السيطرة على البلاد والتحكم بمصيرها.
وأذا ما تركنا النموذج التونسي وأنتقلنا الى النموذج المصري يزداد الوضع غرابة، وبمخطط يكاد يشابه المخطط التونسي وبسرعة غريبة لم تتجاوز السبعة عشر يوما” رحل حسني مبارك أبن المؤسسة العسكرية المصرية العريقة عن حكم ناله منذ عام 1981 بعد مقتل أنور السادات في حادثة المنصة الشهيرة، حسني مبارك المعروف بحسه الامني العالي وقواه الامنية وخصوصا” المخابراتية ذات المستوى الاحترافي الكبير، والعقلية الامنية التي تحسب حساب كل شاردة وواردة ولكل صغيرة وكبيرة، وعلى الرغم من كل هذه الهالة الامنية الكبيرة، سقط حسني مبارك بمشهد درامي لايستطيع أكبر مؤلفي الدراما المصريين حتى تخيله أو وصفه.
وأيضا” لعب المال الخليجي وخصوصا” القطري وعبر قنواته الفضائية المسمومة وبالتحديد الجزيرة من لعب دور أساسي وساهم الى حدود كبيرة في رحيل مبارك عن الحكم وأشاعة الفوضى في بلد كان مستقرا” وحيويا” في المنطقة، على الرغم من العلل الكثيرة التي كان يعانيها الشعب المصري من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، الا أن الظروف الحالية والتي أعقبت رحيل حسني مبارك عن السلطة شهدت فوضى ما زالت مستمرة لحد الان، حتى بعد أجراء الانتخابات الرئاسية ووصول الاخوان المسلمين وبقدرة قادر الى الحكم.
وخلال فترة الاحتجاجات والعصيان المدني الذي أجتاح القاهرة والمدن المصرية الاخرى، كانت القوى الغربية والامريكية توجه سهام الانتقاد الى حسني مبارك وكانت دائما” تطلب منه مغادرة السلطة وتركها الى الاخرين ، على الرغم من معرفتنا المسبقة بمدى متانة وعمالة مبارك للولايات المتحدة الامريكية ونوعية العلاقات الشخصية الممتازة التي تربطه مع زعمائها وسياسيها طوال عقود عديدة، الا أن كل ذلك لم يشفع له في تلقي الدعم اللازم في الصمود ، بل كانت تلك القوى الغربية هي السبب الرئيسي والمباشر في حثه على مغادرة كرسي الحكم.
وتتوالى قطع الدومينو بالسقوط وليستمر مسلسل سقوط الكبار فبينما لم تخفت نيران سقوط مبارك ولم يزل رمادها مشعا”, يبرز لنا نموذجا” جديدا” من السقوط هذه المرة كان الزعيم الليبي الغريب الاطوار(ملك ملوك أفريقيا).في ليبيا كانت طريقة التعامل مع القذافي مختلفة وهو الذي خرجت عليه مظاهرات خجولة سرعان ماتحولت الى أنتفاضة مسلحة كبيرة أسقطت الشرق الليبي بمجمله وخصوصا” مدينة بنغازي تلك المدينة الساحلية الكبيرة والتي أصبحت مابين ليلة وضحاها، مقر لمعارضة مسلحة شرسة، لاأعرف كيف نالت الاموال والاسلحة والدعم اللوجستي في زمن قياسي لاتستطيع جيوش عريقة وكبيرة من تحقيقه.
قبل بداية الاحداث في ليبيا كان الغرب يحاول التقرب للقذافي محاولا” التعامل مع عقليته ومزاجه المتغيير في الاستفادة الاقتصادية والنفطية منه, وأيضا” محاولة أحتوائه والسيطرة عليه بصورة ما. الا ان المواقف سرعان ما تغيرت فهاهو رئيس وزراء ايطاليا السابق الرياضي ورجل الاعمال برلسكوني والذي يعتبر الصديق الصدوق للقذافي أول المتصدين والمحاربين له، وهو من اهم الداعمين للثوار في بنغازي بل كان في طليعة قوات الناتو والتي ساهمت في سقوط القذافي.
القذافي لم يستطيع المقاومة طويلا” بوجه الطوفان الغربي, حيث ساهمت التحركات الجوية لقوات الحلف الاطلسي بصورة كبيرة في تقدم قوات بنغازي والتي جلها (من السلفيين والقوى الاسلامية المتطرفة) الى العاصمة طرابلس في زمن ليس بالطويل، بل ساهمت تلك القوى وبصورة كبيرة في قتل القذافي وبمشاهد دموية مازالت ماثلة للعيان حتى هذه اللحظة ، وايضا” ساهم المال الخليجي وخصوصا” القطري والسعودي وحتى الاماراتي في عملية أزاحة القذافي عن حكم ناله منذ انقلاب الفاتح من ايلول عام 1969 ضد الملك السنوسي ليعلن عن جماهيرية لايحكم بها سوى القذافي وأولاده، وقد ساهمت الطائرات القطرية والامارتية في عمليات القصف الجوي ضد المدن التي كانت تحت سيطرة قوات القذافي ، وكان للدور الاعلامي القطري وعبر قناة الجزيرة دور كبير في الحرب الاعلامية الشرسة والتي شنت أنذاك ضد القذافي وحلفائه. وبعد رحيل القذافي ومقتله ظهرت بوادر التفتت والتشرذم والفوضى في عموم ليبيا، والتي وبعد أن كان يعيش الليبيون في امان وبحبوحة الكل يعلم بها، هاهم الان في فوضى كبيرة ،حيث نزاعات قبلية وعشائرية مريرة مازالت تعيشها ليبيا وستظل تعيشها على الرغم من مرور فترة طويلة نسبيا” عن رحيل القذافي ومقتله.
وما أن عمت الفوضى في ليبيا وسقوط حكم القذافي ، جاء دور اليمن حيث خرج الشعب اليماني بالالاف في مسيرات ووقفات احتجاجية لم يعهدها الشعب فيما سبق، حيث من المعروف عن الشعب اليماني أنه شعب مسالم سياسيا” لايتقرب الى الحاكم ولايسبب مشاكل له،ولا يصتدم به، ولكنه هذه المرة وبقدرة قادر أنتفض ضد حكم علي عبد الله صالح والذي وصل الى سدة الحكم عام 1979 بعد انقلاب عسكري قاده بالتعاون مع قبيلته. أستمر العصيان المدني والمظاهرات الصاخبة في صنعاء وعدن والمدن اليمنية الاخرى لفترة تجاوزت السنة، وأيضا” كان الدعم الامريكي والغربي واضحا” للمتظاهرين، وسط نصائح غربية متوالية لعلي عبد الله صالح في الابتعاد عن السلطة ومغادرة البلاد،على الرغم من مواقف عبد الله صالح المؤيدة والداعمة للامريكان في كافة المجالات المتاحة أمامه، الا ان أمريكا وبكل بساطة تخلت عنه لأهداف غير معلنة سيتم تحديدها فيما بعد،وايضا” لاننسى الدعم القطري والسعودي للطرفين ، حيث في وقت ما يكون دعمهما للمتظاهرين وفي وقت أخر ينعكس دعمهما لعبد الله صالح.
وبقى صالح متشبثا” بالسلطة حتى بعد ان خرجت بعض وحدات الجيش اليماني عليه، ولم يقتنع بالخروج من الحكم الا بعد محاولة أغتياله الفاشلة والتي وقفت ورائها ذيول المخابرات الامريكية وبمعونة خليجية واضحة، وقد ساهمت هذه المحاولة في حرق أجزاء واسعة من جسم صالح وابعدته لفترة عن اليمن،وقد تدخلت الدول الخليجية بمالها ونفوذها السياسي والاقتصادي في اليمن وعبر مبادرتها المعروفة ساهمت في حفظ ماء وجه علي عبد الله صالح وايضا” وفرت غطاء من أجل خروج أمن وسالم من السلطة مع ترك بعض الهامش من السيطرة لاتباعه في ذلك البلد. وهاهي اليمن وبعد فترة طويلة من خروج صالح من السلطة ومقاليد الحكم، اضحت المرتكز الرئيسي للقاعدة والتي سيطرت على بعض الاجزاء المهمة من البلاد، أضافة الى حالة الفوضى الكبيرة والتي مازالت تعم البلاد وليس لها أي بصيص أمل من اجل حلحلة الامور والعودة بالبلد الى حالة من الاستقرار والطمأنينة.وما أن انتهى علي عبد الله صالح برز لنا المتغيير السوري حيث المشهد السياسي والاجتماعي المعقد ,الاوضاع في ذلك البلد تحولت بقدرة قادر من مسيرات أحتجاجية بسيطة تطالب بأصلاحات محدودة الى مظاهر عسكرية وحالة قتال شرس بين جيشين من الواضح أنه تم اعدادهما مسبقا” الى مثل هذا الامر، لقد تحول المشهد السوري الى حرب بالوكالة مابين دول عظمى مسيطرة ودول أقليمية تعمل كذيول لتلك الدول.الاحداث في سوريا كانت اكثر تعقيدا”، على الرغم من اتباع النموذج الليبي ومحاولة تطبيقه في سوريا , وتدخل تركيا وبقوة في الاحداث ودعمها المباشر والعلني للقوى المعارضة للاسد الا أن الامور مازالت تسير الى المجهول وذلك لوجود الدعم الروسي والايراني الكبير لقوات الاسد، وبعد أن تنبهت روسيا الى خطورة الاوضاع في المنطقة والى الاحداث التي مازالت مستمرة فيها وكذلك وجود أصابع خفية تحرك تلك الاحداث وفق مخطط مرسوم مسبقا”،وأيضا” لان سوريا وخصوصا” ميناء طرطوس على البحر المتوسط يعتبر قاعدة بحرية روسية مهمة لاتستطيع في الوقت الحاضر على الاقل التخلي عنها ومغادرتها.وبذلك يستمر الدم السوري بالنزيف في أكثر الاحداث الدموية والتي مرت في المنطقة وعلى مدى عام ونصف تقريبا”(أي منذ رحيل زين العابدين بن علي في تونس) ومع أقتراب نهاية الاسد المحتومة بدأت تظهر بوادر التفكك والتشرذم في المجتمع السوري والذي هو عبارة عن نسيج اجتماعي معقد(بل هو أكثر تعقيدا” من التشرذم والطائفية الموجودة بالعراق).
والآمر الغريب في احداث سوريا كثرة القوى السياسية والاعلامية الاقليمية والعالمية المشاركة بالاحداث بل حتى أن لاعبين صغار مثل أقليم شمال العراق ذلك الاقليم المتمرد الصغير ساهم وبصورة كبيرة في سوريا عبر تدريب وأيواء وتشكيل قوات كردية سورية محاولا” أنشاء أقليم كردي في سوريا بمايعرف (كردستان الغربية) ، وأيضا” لاننسى الدعم القطري والسعودي الكبير للقوى المعارضة السورية وخصوصا” لما يعرف بالجيش الحر من خلال دفع مبالغ مالية طائلة(تقدر بملايين الدولارات) لأفراده أضافة الى دعمه بأسلحة ومعدات متطورة،تطورات الازمة السورية تسير بصورة متسارعة حيث ان النظام الحاكم بدأ في التفكك وأضحت مسألة تنحي بشار الاسد عن الحكم وهروبه الى روسيا او ايران أو مقتله مثل القذافي وأولاده مسألة وقت ليس الا.
ومع أقتراب نهاية الاسد في سوريا وبدء عصر جديد من فوضى طائفية كبيرة ستشعل البلد والمنطقة .وقد امتدت احداث سوريا الى لبنان وخصوصا” مدينة طرابلس حيث بدأت مناوشات عسكرية طائفية مابين مكونات المدينة وهي أخذه في التصاعد كلما طالت احداث سوريا.
ووفق تصوراتي بدأت بوادر البلد الجديد في سلسلة ما يعرف بالربيع العربي, حيث ان السودان سيكون هو البلد القادم في محطة قطار الربيع من خلال أحتجاجات ومظاهرات صغيرة سوف تتطور فيما بعد ولتتبع أحداث أحد نماذج السقوط الماضية،ولكن لن تتطور الاحداث فيه ويزداد تركيز القنوات الفضائية عليه الا بعد سقوط الاسد النهائي.
من كل الاحداث التي مرت في البلدان السابقة يتبين لنا انها لم تكن وليدة الصدفة ، حيث ليس من المعقول أن تجري الانتفاضات بهذه البلدان بصورة متعاقبة وكأننا في سباق تتابع الواحد يسلم العصا الى الاخر وفق ترتيب معين،وايضا” القوى الساندة والداعمة لجميع هذه التغيرات هي القوى الغربية متمثلة بأمريكا وبريطانيا بألاضافة الى القوى العربية (السعودية وقطر)والى دولة مجاورة للعالم العربي والتي أخيرا” وجدت لها دور ما معين كانت تبحث عنه منذ عقود عديدة وبالتحديد منذ سقوط الامبراطورية العثمانية وأقصد هنا تركيا (العلمانية الدينية).ومن الملفت للنظر عدم تدخل اسرائيل بالاحداث بصورة علنية ولو حتى بلتصريح وأكتفت بالتفرج من بعيد مع العلم أن الدور الرئيسي لتلك المخططات والتي تجري في المنطقة هي من ترتيبها .وكذلك من الغريب أن دول عشائرية دكتاتورية حقوق الانسان السياسية والديمقراطية وحتى الدينية معدومة فيها، هي الداعم الاساسي(من مال وأعلام خطير وسلاح)وغيره من الدعم اللوجستي هي السبب الرئيسي لسقوط الانظمة والرؤوساء السابقين، فكان الاجدر على هذه الدول تحقيق بعض الديمقراطية في بلدانها قبل أن تطالب بها في بلدان أكثر تطور منها في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان. أن كل الذي يجري هو ربيع أمريكي مخطط له بعناية في دهاليز المخابرات الامريكية ومن خلال مايعرف بمعاهد الديمقراطية والتي هي بألاساس فروع أساسية للمخابرات الامريكية تقوم بتدريب الشباب العربي على القيام بأثارة الفوضى وجذب الانظار لبقية أفراد الشعب والذين يشعرون بالضيق من انظمتهم وطريقة حكمهم العقيمة،أقول قامت هذه المعاهد الامريكية بتدريب مئات الشباب المصري فيها بمدينة واشنطن وغيرها من المدن قبل 25 يناير وبالفعل قام هولاء الشباب بالشرارة الاولى لتلك الاحداث.
أن الذي يراد للمنطقة هو وضعها في فوضى عارمة من خلال أتباع نماذج طائفية مقيتة في كل بلد, أضافة الى أنشاء الشرق الاوسط الجديد والذي نادت به أمريكا بعد أحتلالها العراق وتصورنا أنها تخلت عنه بعد فشل سياستها فيه، الا أنها عادت وبقوة ووفق مخطط جديد في تشكيل الشرق الاوسط الجديد والذي سيكون سايكس – بيكو جديدة تكون مخططات التقسيم فيها أكثر فائدة لأسرائيل والتي تعيش في عصرها الذهبي بوقتنا الحالي.
ولاننسى الشعار الامريكي المعروف في المنطقة من خلال (تقسم المقسم وتجزئه المجزأ). بالتأكيد أنه ربيع أمريكي سيتبعه شتاء عربي قارص البرودة لايبقي ولا يذر.