في صغري كنت أرافق والدي (رحمه الله) في ذهابه الى شارع الكورنيش على شاطيء الفرات وأكثر شيء كنت أعشقه في تلك الرحلة اليومية هو الركوب بـ(الربل ) وهي عربة ثنائية العجلة يجرها حصان واحد فيها مقعد من الجلد الفاخر يسع لشخصين تعلوه مظلة من الجلد الاسود وامامها مقعد صغير يجلس فيه السائق وهو يمسك (القمجي) ليلوح به للحصان الذي كان يعزف تلك الموسيقى الايقاعية الجميلة جراء وقع حوافره المنتعلة حذوة الحديد على الاسفلت ، كان يلفت نظري دائماً ذلك الحصان الذي يغطي عينيه القطعتان الجلديتان الكبيرتان على جانبي رأسه وكان يحيرني هذا الامر ويدفعني الى التفكير عن السبب بوضع هذه الحواجز على عينيه وفي أحد الايام سألت والدي عن السبب في تغطية عيون الحصان بهذه القطع الجلدية فتبسم وقال إنها لاتغطي كل عينيه ولكنها تجعله ينظر الى طريقه فقط دون أن يلتفت الى ما يصادفه في جوانب الطريق من ملهيات قد ينشغل بها وتؤخره وتظطر السائق الى جلده بالقمجي (السوط ) فهذه الحواجز فيها فائدة له وللسائق ولنا نحن حتى نصل الى مبتغانا بسرعة ،
كان جواب والدي كالنقش في حجر ذاكرتي الذي علمني إن لكل علامة أستفهام لابد من وجود جواب منطقي لها ، ودائماً ما كانت تستحضر في ذهني هذه الحواجز والحاجة إليها خاصة في مجال التربية فيجب وضع حواجز دائماً في جوانب الرؤية للإنسان وخاصة في مراحل التعلم الاولية حتى لا تلهيه عن النظر الى أهدافه الحقيقية المهمة، فمهمتنا العبور بالانسان وتعديه مرحلة الضعف والانسياق وراء المشتهيات في فترة اللانضوج العقلي، فالكثير من الانحرافات والخسران لشبابنا كانت بسبب أنحرافات بسيطة عن الطريق المستقيم إستمرت لتبعد الشخص عن جادة الصواب ليصل الى مرحلةٍ يصعب معها إرجاعهُ الى الطريق المستقيم كون المسافة باتت كبيرة والانحراف ترسخ في النفس فيصعب تنقيتها من أثاره وتحول الانحراف الى عادة وكان يمكن دفع كل هذا من البداية بتجنبه إياه حتى وإن كان خلاف رغبته ومشتهياته ، إن الدلال الزائد والحرية المفرطة وتلبية كل ما يطلب الطفل دون النظر الى الاثار الجانبية والسلبيات المترتبة على المدى البعيد والقريب هو من أهم مسببات الانحراف وهذه التلبية المستدامة هي بحد ذاتها خلل كبير فوجود كلمة (لا) في حياة الطفل مهمة جداً ليتعلم أن ليس كل شيء يمكن الحصول عليه بسهولة فحصر طفولته بـ( نعم) المحببة للآباء سيصدمه بكثير من الاخفاقات ولن يفهم معنى الـ(لا) الموجودة في الحياة بكثرة ولن يتكيف مع الصعوبات ليتغلب عليها بل سيكون كورقة في مهب الريح بلا ارادة أو قوة أو تطعيم ضد مصاعب الحياة فنكون حكمنا عليه بالفشل المزمن وتركناه في ساحة معركة بلا سلاح ولا عتاد ولا رصيد من التجربة بطعمها المر والمؤلم.