قضة فيلم ( الراقصة والسياسي ) ما زالت حاضرة في وجدان الملايين من المشاهدين العرب، الذين يجدون في مضامين هذا الفيلم العربي، مشاهد سيناريو تتكرر في الزمن العربي الصعب، بحيث تبدو العلاقة بين الراقصة والسياسي ، وكأنهما في وئام وتوافق تامين ، حتى وان لبس البعض ( العمامة ) أو إرتدى الآخرون ( بدلات الجنز ) ، أو إرتدت بائعات الهوى ( الربطة ) أو ( المايو ) .
ورغم خفوت صوت الراقصة هذه الإيام بفضل وجود “الأحزاب الإسلامية” ، الا انها لازالت تمارس مهمتها من خلف الأضواء، وتقود دهاليز العملية السياسية وتشارك فيها، كونها تدخل في ( توافقات ) مع أصحاب القرار ومع قادة كتل سياسية وتجري تحالفاتها بوضوح، حتى وإن لم تعلن عن نفسها بوضوح على الملا، فقد ترتدي ( عباءة إسلامية ) لكنها تنزعها ما ان تدخل أحد الصالونات الحمراء ، لتبدأ بتوزيع ( كؤوس العشق والغرام السياسي) في حفلاتها الصاخبة، وتعد طبخاتها على نار هادئة، وأحيانا تحرق النيران أصحاب الكتلة السياسية ، بعد ان يلقي أحدهم لترات من البنزين لتزداد النيران التهابا، ويحترق المشهد السياسي العراقي بمن هم فيه، على طريقة ( علي وعلى أعدائي ) ، وهو مسلسل تتكرر سيناريوهاته بين فترة وأخرى ، لكن الخاسر الوحيد هم المحسوبون على ( أصحاب الضمير ) أو ممن دخلوا ( دهاليز السياسة ) خلسة ، للحصول على المغانم التي يسيل لها لعاب الحالمين بأمجاد العملية السياسية التي وفرت ( للبعض ) ثروات ومغانم لايحلمون بها في اي يوم من الأيام، يوم كان ( البعض ) يمتطي الحمير ، واذا بهم يتحولون فجأة الى ( سيارت فارهة ضد الرصاص ) وبقدرة قادر، يدخل دهاليز العملية السياسية ، ويكون له نصيب في الحملات الدعائية ، وتصريحاته لم تعد تنقطع وهو يوجه اتهاماته صوب اليمين وصوب الشمال.
الراقصة والسياسي مشهد يتكرر يوميا في بلداننا العربية ، وهو وان حمل ( العباءة الاسلامية ) الى انه ماخفي تحت العباءة كان ادهى وأعظم، أما ( اصحاب العمائم ) فلا أحد يقدر مقدار حظوتهم من الغنائم وما تنزل عليهم الاقدار من الوجاهات، وتكون لهم ( سلطة القرار) في وقت ما زالت الراقصة تحصد النصيب الاوفر من ساعات الظهور ، على المسرح السياسي ، ويكون لها ( القدح المعلى ) في تحديد معالم العملية السياسية وتحديد التحالفات والتوافقات، فهن من يرطبن الأجواء في نهاية المطاف، ويبدأ “الاسلام السياسي” حملاته الدعائية ، ليكيل كل طرف التهم للطرف الآخر، اما بـ ( العمالة ) لهذا الطرف او ذاك ، أو لانه دخل( سوق الدعارة ) من أوسع ابوابه.
حدثني أحدهم عن ( قواد ) بغدادي مشهور في فترة الستينات، كانت له اخلاق قل نظيرها، لايمكن لسياسيينا ان يبلغوها هذه الايام، وتعالوا نسمع قصة هذا ( القواد ) وكيف إهتز ضميره وصحى شرفه، يوم حفظ شرف عراقية من ان يطالها الاتهام، وحتى لا يسمح لها ان تتشوه سمعتها أو تتلطخ، وهي بعض بقايا قيم الغابرين من رجالات العراق الذين كان يزخر بهم هذا البلد ، وتعالوا الان إسمعوها أيها السياسيون علكم تتعظون مما حل بالبلد من خراب ودمار وفساد إستشرى وروائحه تزكف الأنوف.. والقصة أسردها لكم وهي حقيقة وليس من نسج الخيال، وها هي الرواية كما حكاها لي أحد الاصدقاء.. ففي يوم كان ( قواد ) مشهور يتنقل بين شوارع بغداد ، وبينما هو راكب في سيارة أجرة وكانت سيارات الأجرة قليلة في ذلك الزمان ، واذا بإمرأة مع إبنتها تؤشر للسائق ان يأخذها معه ، على طريقة ( النفرات ) المعروفة ، ولما اراد سائق سيارة الأجرة التوقف للأمرأة وإبنتها لكي يأخذها معه ويحصل على أجرة اضافية حاله حال أصحاب النفرات ، رفض هذا ( القواد ) ان تصعد هذه المراة معه كونه قد عرفها من عائلة عريقة ومعروفة ولا شائبة على أخلاقها، وقد أصر السائق على أخذها معه في سيارته لكن ( القواد ) أصر على رفض ركوبها معه في سيارته وقال للسائق انا اعطيك ( أجرة اضافية ) وكيفما تحدد شرط ان لاتحمل هذه الإمرأة وإبنتها ، ومشى السائق مضطرا وهو يتمتم ، وما ان وصل الى نهاية شارع الرشيد عندما أراد الراكب ان ينزل فسأله صاحب التاكسي عن سبب عدم سماحه لهذه الإمرأة بالصعود ولكن الرجل رفض ، وألح السائق على الراكب الا أن يحكي له سبب رفضه ان تركب وبعد الحاح طال أمده، قال له الراكب انه معروف من أهل بغداد على أنه ( قواد ) وهو عندما رفض ان تركب هذه الإمرأة معها أراد ان الا تشوه سمعتها امام ابناء محلتها ومعارفها او ممن قد يرها في الطريق، كونها إمرأة شريفة ومن عائلة محترمة ، ومن غير المنطقي ان الوث سمعتها، عندها عرف السائق كم هو ( شريف) هذا الرجل الذي حفظ عرض إمرأة من ان يمسها الأذى ، وقال قولته المشهورة ، حينذاك ( مازال في الدنيا بقية غيرة وشرف ) فو الله ان هذا الراكب له من القيم والاخلاق ما يعادل أخلاق الكثيرين هذه الايام.. انها قصة ممتعة ، ورغم انحطاط ذلك الرجل وممارسته لمهنة غير شريفة الا انها عندما أدرك هذا (ى القواد ) ان الحفاظ على عرض عراقية عندها من الخطوط الحمر، وانه لم يمارس مهنته الا مع ( الساقطات ) و( بائعات الهوى ) وجد في الانتصار لقيم شعبها ما يرفع رأسه الى السماء!!
نعود الى موضوع الراقصة والسياسي وقصة الصراع على مغانم السلطة والقرار في العراق، ومع هذا تبدو الراقصات أقل أذى للمجتمع مما تخلفه أمراض سياسيينا ومعاركهم هذه الايام، فالراقصة لا تستهدف أحدا الا إغراء السياسي بأن تستدرجه لمزيد من المال والحظوة لديها، لكي يكون لها ألامر والنهي دون ان تخلق أو تتسبب بخسائر فادحة على المستقبل السياسي العراقي، بل ان بعض الراقصات وبائعات الهوى قد يكون لهن من الشهامة ما يرتقي الى شرف هذا ( القواد ) الذي رفض ان يدنس شرف عراقية او سمعتها، أما سياسيونا فقد باعوا كل بقايا الحياء ولم يعد لديهم ما يسترون به عوراتهم، التي ظهرت فضائحها وقد تعروا امام الجميع، حتى ان هناك من القوادات والقوادين يرفضون ربما ان تنزل بهم الاقدار الى ان يتعروا امام الجميع، لكن ( جوقة العملية السياسية ) وضعت الجميع في مركب واحد، وهو انه كلما استطاع العهر السياسي ان يحقق فوزا في المشهد السياسي العراقي كلما نجح السياسيون في قيادة مركبتهم، حتى وان راح ملايين العراقيين وقودا لشهواتهم وانتقامهم.. ولكن قيم العراقيين والمحافظة على شرف العراقيات والعراقيين هو في آخر اهتمامات هؤلاء.. بل ليس من اهتمامات الكثيرين منهم ، كما تبدو الاحوال التي ادت البعض ان ينزلق الى مهاوي الرذيلة وهو يؤدي رقصاته على الملأ ، دون ان تبدو معالم حياء على محياه، وفقد عراقيته ولم يتبق لديه ما يحفظ بقية هيبته امام بني جلدته، رغم انه خسر الدارين ، في نهاية المطافّ!!