18 ديسمبر، 2024 11:15 ص

الراحلون والقادمون في عصر الشبكية

الراحلون والقادمون في عصر الشبكية

هل تعبّر الأزمات والصراعات القائمة اليوم حتى ما يبدو منها مستمداً من التطرف الديني عن التحولات الكبرى في الموارد والقوة والتأثير؟ هل يعبر المتعصبون في الحقيقة عن فرص وثغرات جديدة تحيي مطالب وتطلعات المهمشين أو الذين فقدوا فرصهم في مشاركة اقتصادية وسياسية مرضية؟ مرجح بالطبع أنها حالة تعكس تحيزات طائفية وقومية وإثنية واجتماعية، لكنها على الأغلب ليست سوى تأجيل لمواجهة حتمية مع الحقائق الأساسية ومستحقاتها، المنقرضون الجدد والقادمون الجدد.

ستكون الضحية الأولى في ظل تغيّر دور السلطة السياسية وعلاقاتها ومجال تأثيرها فئة واسعة من الأعمال والسلع والخدمات التي أنشأتها أو احتكرتها ومعها طبقات ونخب وأعمال وفئات اجتماعية تشكلت حولها، ففي مرحلة كانت السلطة السياسية تنظم السوق والمجتمعات والخدمات والثقافة كان في مقدورها أن تنشئ طبقة واسعة من النخب والأتباع الذين ترزقهم بغير حساب من المنح والعطايا والعطاءات الحكومية والمناصب والفرص والتسهيلات، وفي ذلك تشكَّل ثراء متطفل ومتورم من غير خدمات مكافئة أو إنتاج حقيقي أو مؤسسات ومرافق أساسية ملائمة. ثم قدم المواطنون إلى الطبقة نفسها باعتبارها “قطاعاً خاصاً” ثمناً إضافياً ومضاعفاً للحصول من السوق على الخدمات التي دفعوا الضرائب لأجلها، ولم يحصلوا على خدمات وسلع تتفق في جودتها وكفاءتها مع ما دفعوا ثمنه، فتضاعفت خسائر المواطنين كما تضاعفت أرباح فئة قليلة من غير جهد أو مشاركة كافية في الاقتصاد والخدمات، ثم منحتهم السلطة أولوية كبرى في التعويض عن الأزمات وفي الإنفاق العام ليحصلوا على خدمات وامتيازات لم يدفعوا جزءاً من ثمنها، ومنحت امتيازات ومجالات لشركات وأعمال غير منتجة أو لا تحسن حياة وفرص المواطنين لكنها تستنزف مواردهم. اليوم تكشفت بفعل الشبكية أنها طبقة ومؤسسات وأعمال ومصالح يمكن الاستغناء عنها من غير خسارة.

وفي صعود الأفراد والمجتمعات ونشوء فرص للتأثير والموارد مستقلة عن السلطة والشركات والأسواق الحليفة لها، يتشكل اقتصاد اجتماعي ومعه أسواق جديدة، وتتراجع الشركات والمؤسسات التي كانت قائمة حول أسواق أصبحت معادية للمجتمعات أو لا تحتاج إليها، وربما يكون أول المنقرضين أو المتحولين البنوك وشركات الاتصالات، ففي قوة المدن الصاعدة وولايتها على مجموعة من الخدمات والأولويات ينشأ نوع جديد من التمويل والائتمان المالي والمصرفي يفتح المجال لنوع جديد من البنوك أو الخدمات المصرفية الجديدة التي وإن كانت ربحية فإنها تقوم على المغامرة بالشراكة مع المجتمعات وليست أرباحاً مضمونة ومفروضة بالهيمنة والتشريعات المنحازة.

وفي صعود الاتصالات لتكون الوعاء الشامل لكل العمليات السياسية والاقتصادية والتعليمية والخدماتية، فإن الاتصالات تتحول إلى مرفق عام عملاق أكبر بكثير من شركات الاتصالات القائمة، ولا مفر من إسناد هذه الخدمة إلى الأمة لتكون مشاعية مثل الطرق والجسور بل الهواء والشمس والفضاء.

وبطبيعة الحال، تصعد أعمال ونخب وقيم جديدة مستقلة ومختلفة، فلم تعد السوق تقود قاطرة الدول والمجتمعات، لكنها تعود من جديد وكما كانت قبل عصر الرأسمالية ملحقاً بالناس والمدن، ومرجح وفقاً لذلك أن يكون القادة الاجتماعيون والمبدعون هم القادة الجدد، ومن بينهم سوف تظهر طبقة جديدة من القادة السياسيين ورجال المال والأعمال كما الأدب والثقافة والفنون. وتنشأ أيضاً قيم وأعمال جديدة.

سيكون على الأطباء العودة إلى “الحكمة” لأجل التميز على الأجهزة الذكية والمتطورة ولأجل تفعيل عملها وتوظيفها، ولن تكون مهاراتهم الجراحية والفنية ذات قيمة عالية فالروبوتات تتفوق عليهم في ذلك، وسوف يحتاج المهندسون والصانعون إلى معارف فلسفية وفنية تمكنهم من التواصل مع الناس والمجتمعات باعتبار أن لكل فرد منهم تصوراته واحتياجاته للسلع والمنتجات والملابس والبيوت والأثاث والأطعمة، ففي الخيارات اللامحدودة التي تتيحها التكنولوجيا الجديدة للمستخدمين توجه الفردانية المنتجات والسلع وتصميمها وتسويقها. وفي ذلك تنقرض المؤسسات والأعمال والمهن والمصانع القائمة على التنميط، وتنحو الأسواق الجديدة في اتجاه يشارك في صياغته وتحديده جميع المستخدمين بما هم جميع الناس.

ولن يكون سوى هدر للوقت والموارد العامة محاولة حماية أو إنقاذ المؤسسات والطبقات المهددة بالانقراض، بل سوف تتحول بذلك إلى فئات مثيرة للشفقة أو جزء من المتاحف والتراث لأجل الفرجة، كما نفعل اليوم في مهرجانات التراث الشعبي! فهذه الأعمال التي تعرض كجزء فني أو تراثي كانت مكوناً أساسياً ويومياً في الأعمال والحياة.

نقلا عن الغد الاردنية