لم تكتف ثورة الرابع عشر من تموز بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ذهبت الى ابعد من ذلك من خلال تبني عنصر مهم من عناصر الثورة، وهو التحول الثقافي في كل تجلياته، ايمانا من قبل القائمين على حماية الثورة وصيانتها بأن المنجز الثقافي هو احد الاركان المهمة في التحولات الثورية القائمة لخلق مجتمع جديد على انقاض مجتمعات ما قبل الثورة، وهذه التحولات الاجتماعية لا يمكن بلورتها ومد جسورها لربط وشائج الصلة بين تأريخ حضارة العراق وحاضره ورسم افاق مستقبله، ما لم تكن هناك ثقافة وفنون مدنية ومثقف عضوي، قادر على عيش واستفزاز هموم شعبه، ليحول هذا الهم الى فعل ثوري عن طريق قصيدة او لوحة او صورة فوتوغرافية او اي منجز فني اخر.
ولقد سعت الحكومة الفتية في تلك المرحلة من خلق ارضية صلبة والبدء في انشاء البنى التحتية للثقافة من خلال انشاء المسارح والسينمات وبناء المطابع ونشر الوعي بين المواطنين من خلال التعليم والتشجيع على القراءة.
ومن الممكن اختزال النهضة الثقافية وتطورها، من خلال ملحمة نصب الحرية للفنان جواد سليم، وهي لم تكن مجرد نصب نحتي يتعامل من خلاله الفنان مع الحجر، بل هي تمازج بين القصيدة والرواية والهندسة المعمارية، تخلد تأريخ العراق الحديث قبل وبعد الثورة برموز ذلك النصب الخالد، الذي ساهم المهندس المعماري رفعت الجادرجي، بتصميم القاعدة وجدار النصب التي كانت على شكل لافتة بطول خمسين مترا وارتفاع اللافتة عشرة امتار، وارتفاعها عن مستوى الارض ستة امتار،لتحمل قصة شعب عانى الكثير.
يتكون النصب من اربعة عشر منحوتة برونزية عددها يرمز الى تأريخ الثورة، بشكل رواية متسلسلة من اليمين الى اليسار، بنفس طريقة الكتابة باللغة العربية، تبدأ هذه الملحمة بمظاهر الغضب الجماهيري من نظام ملكي جائر، متمثلا بالحصان وهو رمز الاصالة والشجاعة والرجال الذي حوله من الجماهير الكادحة الثائرة، التي تحمل رايات ولافتات التغيير.
وبعد ذلك رمز المرأة العراقية الحزينة ومن ثم رمز الشهيد العراقي الذي تحمله الجماهير، ومنحوتة اخرى تمثل الام التي تبكي ابنها الشهيد وهي تحمل طفلها دلالة لاستمرار الحياة، ومن ثم رمز الثورة الذي يتألف من ثلاث تماثيل تمثل السجناء
داخل القضبان (الفكر السجين) وهم يحاولون كسر هذه القضبان، والجندي الذي حطم القضبان وهو رمز لدور الجيش في الثورة الخالدة.
بعدها تبدأ الحرية ومرحلة جديدة من خلال رمز المرأة التي تحمل المشعل،وتتحول القضبان الى اغصان سلام، وتحل الراحة والطمأنينة بين الجماهير، ومرحلة جديدة من الاخوة بين مكونات الشعب، وهناك ايضا رمز لحضارة العراق المتمثلة بالثور الذي يعد رمز سومر، وهو يتوسط تمثالين يمثلان العامل والفلاح.
لينتهي النصب في قلب بغداد ويكون شاهدا على ثورة حملت بين طياتها، منظومة فكرية اساسها الثقافة والفن، وهي تحلق به الى مساحات تجاوزت حدود الوطن، فكانت البداية لنهضة ثقافية حرة وثورية، تمثلت بأسماء كبيرة من تشكليين وادباء وشعراء وممثلين منهم جواد سليم ومحمد غني حكمت ومظفر النواب وعريان السيد خلف وغائب طعمة فرمان وناهدة الرماح وفنانة الشعب زينب وسامي عبد الحميد وخليل شوقي، واخرين.