حينما دخل ترامب في فضاء السياسة الامريكية التقليدية كرئيس للولايات المتحدة , تجلّت في عهده غرائبية قراراته التي اثارت الدهشات على مستوى قادة العالم في السياسة الخارجية والداخلية على حد سواء , فبعثرت ونثرت كل المخطوطات القديمة بمافيها من الاتفاقات المرئية واللامرئية التي قيّمتها تلك السياسة عبر عقود من العمل للحزبين الجمهوري والديمقراطي ,
وجاءت تلك القرارات كلما نظر الى اعمال الديمقراطيين بعينين ثقيلتين وقاسيتين فضلآ عن الألفاظ الفظة بالنقيض منها تمامآ طوال فترة رئاسته , فأطفأ بها كل مصباح وضع الديمقراطيون اعينهم فيه لكي لا ينتشلوا انفسهم من ظلام المعنوية المتردية التي زرعها فيهم من ناحية , وبلا مبالاة من تاثير تلك القرارات على العالم أو المجتمع الامريكي الذي يعتبر الحزبين عينيه الزرقاوين اللتين يتباها بهما من ناحية اخرى.
ومع ان لكل شيء اسبابه المعينة إلا ان المجتمع الامريكي غرق في طمأنينة ترامب وابوابه الاقتصادية التي فتحها لهم لخلق نمط حياة جديد في مجتمع يرتكز على حزبين لم يتقنا تقييم اعماله في حينها ودورها في تدمير امريكا انسجاما مع ميوله المتطرفة , ولا المجتمع الأمريكي الذي انصبّ اهتمامه على مايكسبه من الدولارات فحسب التي جلبها لهم من الطرائد الخليجية وخاصة السعودية التي وصفها بالبقرة الحلوب على حساب سمعة ومصير ديمقراطيته من حيث الشكل والرمز الذي حطمهما , ادرك ماهية نوع البرامج السياسية وجذورها الفكرية التي يطرحها ترامب وصولا الى قناعة تفيد هجر الديمقراطية من اجل المصالح او زيادة تأثيرها المتبادل بينها وبين البرامج الفكرية الاخلاقية التي تقدمها او لا تقدمها سياسته والواقع الموروث من الحقبة الرئاسية السابقة ,
ولم يترشح احد من هذا المجتمع لكي يخبرنا عن معتقدات هذا الرجل وجوهره الاخلاقي وما جرى من تحليل لشخصيته من الناحية النفسية وما هي الأغلال التي قيدته من ان لا يتكلم عن تلك الاسباب ,
أو حتى ينتبه احد على الأقل الى بداية العملية التفكيكية للديمقراطية التي كانت عند استلامه للمنصب لاتسمح فيه لقوة الولايات المتحدة بسطوتها الواسعة وغير المحدودة على عالم ورثته بالسياسة التقليدية بالتهور الى صناعة عالم آخر لا تدرك اين مكانها فيه , بل ولم تلجأ الى الفصل بين الموروث وبين عالم البقرة الحلوب الهش بالطريقة التي فعلها ترامب , حيث امتزجت فيها جثتها مع دخان وهجها المحترق في مبنى الكونغرس .
هذه الحقيقة كانت خافية عن العالم بشكل عام وعن المجتمع الامريكي بشكل خاص وهي حقيقة عودة امريكا الى ان تكون عظيمة مرة اخرى بالقوة التي تنتج مثل تلك القرارات التي تخلق عالما جديدا بنصوص لاتوجد في عالمه قبل الرئاسة . لذلك فقد اقنع بهذا المنتج الحلمي الذي اوصله الى واقع نفعي لا اخلاقي افصح عن اتهام المراقبين له بالجنون , اعضاء من ذلك العالم الهش لكي ينتجوا بطريقته اللااخلاقية نفسها عالما مناقضآ الى العالم الذي تسلموه من اسلافهم , وهو عالم نفعي يقوم على صراع المصلحة وليس على صراع المبادئ .
اما الاسباب التي ينبغي للمراقب معرفتها والتي دعت الى مثل هذا التنافر بين ترامب والحزب الديمقراطي بشكل خاص والتي شكلت القاعدة التي انطلق منها للإنفلات من الديمقراطية بشكل تام وصريح والذي بدا واضحى في ليلة السادس من يناير 21 ,
فلم تظهر على السطح من جانب ذلك المجتمع إلا بالشيء اليسير على يد ابنة شقيقه ماري فريد ترامب 55 عامآ واخته الكبرى القاضية ماريان ترامب التي اعربت عن افكاره المدمرة ورفضها لتولي رئاسة الولايات المتحدة الامريكية وبقيت مجرد اصوات لاحقها ترامب بالقمع والترهيب , وظلت اسرار شخصيته غائبة عن عقل المجتمع الامريكي من ناحية وغامضة عن العالم ليبقى لغزا محيّرآ منذ مجيئه الى مغادرته الرئاسة من ناحية اخرى .
اما قيادته للمجتمع الأمريكي الى ذلك النمط وارتباطهم به فقد تمت هزيمته امام اعماق الديمقراطية التي تعاظم شأنها في لحظة اقتحام مبنى الكونغرس الى حد مبالغ فيه ومن قيادات معروفة كانت جزءآ من منجزاتها التي هي ملكآ لهم ولا احد مخول ان يلغيها ,
لذلك لم يجد ترامب المزيد من الوقت للمضي في تفكيكها مثلما لم يجد المزيد ليقدمه في الجانب الاقتصادي البراغماتي الذي وصل به الى حد الحلم الذي اجبر على ان يتوقف , وهكذا اوقفوه بعدما تلقفت تجربته احزاب ومنظمات اليمين المتطرف المتحمس لعالم ترامب البراغماتي الذي يحاكي في ذاته عالم الثراء والعبودية العنصري الخالي من الأخلاق كبديل عن عالم ديمقراطي اخلاقي تسوده البطالة والجوع والتشرد وبشكل يتعارض مع سياسة امريكا المعلنة امام العالم .
لم يكن مشهد الاقتحام من قبل انصاره إلا دليلآ ماديآ على تحمّسهم لذلك العالم العنصري واستعارة مجازية لما يدعون اليه من تدمير لرمز الديمقراطية التي بدت لهم من هياكل العالم الاخلاقي الذي ينبغي الاطاحة به على طريقة عناصر داعش الارهابي في تدميرهم لرموز الحضارة العراقية الاشورية القديمة وهو اكبر تناغم تعبيري بين اليمين المتطرف الامريكي وعناصر داعش الارهابي , إذ لاشيء لديهم ليقدموه الى العالم المتحضر إلا الخراب الذي يشعرهم بالسعادة الغامرة .
وعلى اية حال فقد اسس انصار ترامب جذور تفاهتهم وعنصريتهم في قاعات وغرف الكونغرس وهم يلبسون ملابس التشرد بالتعويذات القروسطية المستمدة من تقنية البقاء للأصلح والتنكر الذي يدفع للحماس وهم يطلقون الصراخ المتواصل والهتافات التي تختلق الانشقاق بل وتعمقه في نفوس المجتمع .
بعد ان اسدلت الانتخابات الامريكية استارها على المسرح السياسي الذي صنعه ترامب وإحاطته بالأشرطة المانعة من الاقتراب الى افكاره ومبادئه , تنتصب امامنا صورة تثير التوق الى تحديد من الرابح ومن الخاسر من مسرح ترامب وقد احترق واستحال الى رماد بكل خطاياه وآرائه التي اجبرت اعضاء من عالم البقرة الحلوب والهش الى اعتناق مبادئه المضللة على امل ان ينامون على اكاليل غار , لكنهم ارتكسوا في بحر من الجرائم واللعنات وخاصة في الحرب على اليمن والتنازل عن الحقوق الفلسطينية التي لم يكترثوا بها , وهاهم الآن يفيقون ويرون بوضوح سخام الوجوه وفراش الذل الذي ناموا به وكل ماتمنوه كان اضغاث احلام .
وبالفعل لقد كان مشهد هزيمة مسرح ترامب بكل نواحيه المتهورة هو هزيمة لكل المخدوعين بنصوص سياسته الرعناء , الذين خيّل اليهم ان بريق القوة الذي اندفعوا اليه بتهور وجهل سيدوم اربعة سنوات اخرى من حياة ذلك المجرم القاتل وان حالته المرضية ستبقى سحابة تدر بالخير عليهم وسيبقون مسحورين بها ومغتبطين بكل عروضها المناقضة للمنطق والعقل والاخلاق.
اما الرابح من هذا المسرح الذي عبّر عن باطنه الموالي والداعم للكيان الصهيوني فهو الكيان الصهيوني نفسه الذي جعله جسرا لتحقيق احلامه في جعل القدس عاصمة لبلاده العنصري والجولان لسيادته وفصل عالم البقرة الحلوب عن العرب عن طريق الاغواء بالمال والقوة العسكرية وكان كل ذلك حافزا له لمايقوله بعد ذلك في سياسته اللاحقة وحواره مع عرب المقاومة .
ولاشك فإن اعادة تقويم وتغيير قراراته على الأرض من قبل الرئيس الجديد جو بايدن وحزبه الديمقراطي سيكون احد اهم نتائج هزيمة هذا المسرح الذي عمت فيه الفوضى وفقدان القيم الاخلاقية من وجهة نظر الحزب الديمقراطي والاعتراف بخطاياه الكبيرة والتسريع بألغائها مع انهم سيبقون على قراراته التي تخدم الكيان الصهيوني لأنها تماثل استراتيجية الخطاب السياسي الداعي الى الحفاظ على أمن اسرائيل , لذلك فإن قادة الحزبين يتفقون دائمآ في هذا الجوهر الخادم لأسرائيل وان اختلفوا بنوع الزهور التي يقدمونها اليها , اذا جاز التعبير , لكن الجوهر الاساسي في وقوفهم معها في محنها وفرحها هو عينه .