18 ديسمبر، 2024 10:52 م

في جمهورية العراق الديمقراطي الجديد رئيسان، واحدٌ منعه دستور المحاصصة من التدخل في شؤون الحكومة حين يرى خللاً هنا أو هناك، فأصبح معذورا ولا يملك سوى أن يتمنى.  وأخر منحه ذلك الدستور، نفسُه، كل شيء، وخول له حق التصرف في جميع الشؤون المدنية والعسكرية، معاً، بلا قيود ولا حدود، ومع ذلك فقد تبين أنه يخاف من خياله، يقول كثيرا ويفعل قليلا، وحين تشتد عليه المحن يحار ولا يملك، أيضا، سوى أن يتمنى.

وقد عودنا المكتب الإعلامي لهذا الرئيس على أن يُصدر بيانا رئاسياً في أعقاب كل اجتماع يعقده مع ضيوفه الكبار، ومع الصغار أيضا.

وفي واحدٍ من تلك البيانات قال “إن السيد الرئيس استقبل وفدا يمثل المتظاهرين، وفي اللقاء شخَّص السيد الرئيس المشكلة، وأكد أن الحل الشامل والكامل يكمن في احترام الدستور، وفي وضع المصلحة العامة فوق المصالح الأخرى. و(تمنى) على الوزارات والمؤسسات الحكومية والبرلمان والأحزاب والمنظمات المعنية، كافةً، أن تعمل على إيجاد حلٍ عاجل وجذري لهذه المشاكل”.

وهنا تكمن المشكلة. فحين (يتمنى) هذا الرئيس فمعنى ذلك أن وجوده، وسط مئات الحراس والمستشارين والخدم والحشم زائد ولا داعي له، وأن رواتبه ومخصصاته ونثريات ضيافته ورواتب أفراد حمايته وسفراته واجتماعاته، (بالمناسبة خُصص له في الميزانية مبلغ مليون دولار في اليوم الواحد بدل خدمات اجتماعية)، أموالٌ ضائعة كان يمكن أن تنفق في أي شيء آخر في وطن يبحث عن الاستدانة لدفع رواتب المتقاعدين.

فما حاجتنا، إذن، لرئيس من هذه الخامة، لا يهش ولا ينش، بين مئة رئيس يأمر ويُطاع ولا يتمنى؟.

فنوري المالكي، حتى وهو خارج السلطة، رئيس، ومقتدى الصدر رئيس، وهادي العامري رئيس، وفالح الفياض رئيس، وقيس الخزعلي رئيس، وأياد علاوي رئيس، وحيدر العبادي رئيس، ومحمد الحلبوسي رئيس، وأسامة النجيفي رئيس، ومسعود البارزاني رئيس، وهيرو خان، أرملة الرئيس جلال الطالباني رئيس، وناجرفان بارزاني رئيس، ومسرور بارزاني رئيس، وقباد طالباني رئيس، وبافيل طالباني رئيس، وخميس الخنجر رئيس، وأحمد الجبوري (أبو مازن) رئيس، ومشعان الجبوري رئيس، وعزت الشابندر رئيس، ومؤيد اللامي رئيس، وكل وزير في وزارته رئيس، وكل سفير في سفارته رئيس، وكل حامل سلاح في الحشد الولائي أو في حشد المرجعية رئيس، وكل صاحب حزب رئيس، وكل شيخ قبيلة رئيس، ألا يكفي؟.

بعد هذه المقدمة الطويلة ندلف إلى صلب الموضوع، ونعود إلى الوراء ثلاثين عاما، وبالتحديد إلى ما قبل احتلال صدام للكويت بشهور، حين اُعلن في دمشق عن تأسيس لجنة العمل المشترك التي ضمت الجبهة الكردستانية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وذراعه العسكري فيلق بدر، وحزب الدعوة الإسلامية، وحزب البعث العربي الاشتراكي – التنظيم السوري، والحزب الشيوعي العراقي.

وعمليا وواقعيا، كان لإيران سلطة حازمة وحاسمة على حلفائها الإسلاميين العراقيين، وخاصة على قيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وذراعه العسكري فيلق بدر، وعلى حزب الدعوة الإسلامية، ومنظمة العمل الإسلامي، في حين كان لمخابرات حافظ أسد صياغة مواقف البعثيين العراقيين المرتبطين بالقيادة القومية لحزب البعث المملوكة لآل أسد بالكامل، ودون شريك.

أما الأكراد فقد عزلوا قضيتهم عن مجمل القضية العراقية، وأقاموا جدارا حديديا يَحُول دون تدخل عرب العراق، حتى لو كانوا من شركائهم في لجنة العمل المشترك، بأيّ شأن من شؤون كردستان العراق.

ثم تسللت الولايات المتحدة إلى ساحة المعارضة العراقية، 1991، من حصة الجبهة الكردستانية، وتحولت إلى قوة ثالثة تدير شؤون المعارضة، ورضيت إيران وسوريا بذلك، بدوافع تكتيكية هدفها الاستفادة من الجبروت الأميركي المالي والعسكري والسياسي الكبير، على أمل أن تُسقط لهما صدام حسين، ويكون، بعد ذلك، لكل حادث حديث.

والثابت تاريخياً أن أعضاء قيادة تلك اللجنة لم يتم انتخابهم، لا من عموم المعارضين المقيمين في سوريا ولندن وطهران والرياض وعمان، ولا حتى من أعضاء أحزابهم ذاتها، بل إنهم قاموا بتنصيب أنفسهم قادة للمعارضة، في غرفة مغقة في فندق ماريديان بدمشق، بالسطو والغزو والاحتلال.

ثم بعد ذلك توصلوا، فيما بينهم إلى تثبيت مبدأ جديد اتفقوا على تقديسه وأسموه (التوافق)، والذي أصبح، فيما بعد، نظام المحاصصة الذي أنتج للعراقيين مئة رئيس يتحكمون بالبلاد والعباد، وأجاز توزيع المناصب والمكاسب والرواتب عليهم وعلى وأبنائهم وإخوتهم وأبناء أعمامهم وأبناء أخوالهم، بالتراضي، وأصبح العرفُ الثابت الدائم أن أي حزب حرٌّ في وزارته أو مؤسسته، ولا يحق لرفيقه في المحاصصة أن يتدخل في أملاك غيره من الشركاء، بتانا ونهائيا، وإلا فإن العملية السياسة سوف تهتز ويتقصف أساسُها المقدس الحصين.

ومن الأحداث الكبيرة التي أوشك الشعب العراقي أن ينساها ما شهدته قاعات الفندق الذي عَقد فيه زعماء المعارضة السبعة الكبار مؤتمرهم في نيويورك 1999، وخصوصا حروبَهم بالأحذية على مناصب القيادة، وما خفي كان أعظم.

وفي ذلك المؤتمر بالذات أصبح السبعة الكبار، وحدهم، حكام العراق القادمين الذين تقرر لهم، أمريكياً وإيرانيا،  أن يملكوا العراق، بشحمه ولحمه، ومن رأسه إلى قدميه.

لقد ارتكب الأميركان جريرتهم الكبرى حين سلموا الدولة العراقية لزعماء مؤتمر لندن2002  وذويهم، وهي تعلم بأنهم آخر من يفكر ويؤمن ويرضى بإقامة دولة طبيعية كغيرها من دول العالم التي تحترم نفسها وشعبها.

وذلك لأن دولة ديمقراطية قوية موحدة عاقلة وعادلة ستمنع تشكيل ميليشيات خارجها، وسوف لا تسمح لرجال الدين بالوصاية على رؤسائها ووزرائها ودستورها وقوانينها. فهو أمرٌ لا يناسبهم ولا يناسب أحزابهم وولا أجهزة المخابرات الأجنبية التي تحركهم من وراء الحدود.

ثم توالت سلسلة القرارات الأميركية المدمرة المتتابعة. أولها التسليم بتصميم الفريق العراقي الإيراني والمعسكر الكردي على إلغاء الجيش العراقي بالكامل، وتسريح مئات الألوف من ضباطه وجنوده، دون تعويض، الأمر الذي وفر لمليشياتهم الشريرة آلاف العاطلين المجبرين على حمل سلاح الرؤساء الكبار، والقابلين بارتكاب كل أنواع الجرائم، لحسابهم.

وثانيها غض الطرف عن تدفق مئات المسلحين من إيران بذريعة أنهم عراقيون عائدون من المنفى الذي طردهم إليه صدام حسين.

وثالثها عدم اعتراضهم على تشكيل الميليشيات، وعدم تدخلهم لمنع انتشار السلاح خارج الدولة. رابعها سماحهم بالنهب والاغتصاب واحتلال أملاك الدولة وأموالها علنا وبلا خوف ولا حياء.

وأخيرا، فحين (يتمنى) الرئيس أن يحترم الجميع مباديء الدستور في دولة المئة رئيس فإن ذلك لا غريب ولا عجيب. فما زرعه قادة المعارضة، بالأمس، لابد أن يحصده، اليوم، وارثوهم، دون ريب، ودون جدال.