لا مراء بأن المشهد المتشنج في كركوك اليوم، علی ما شاع صورته، ينفتح علی خيارين كبيرين لكل منهما ثمنه و ثمراته: التبسيط والتطرف والإقصاء لصنع الحروب والكوارث و إستعداء العالم و عدم الإعتراف بالآخر، كما يعمل له السيد المالكي، صاحب الأفكار المستهلكة و المحالات العقائدية والحتميات المعيقة مع نفر من رعاع غثرة متكونة من بقايا نظام البعث المنقرض، أو تحمل المسؤولية المتبادلة و إتقان لغة الشراكة و الحوار و المداولة في معالجة المشكلات و إدارة العراق، كما يسعی له السيد مسعود بارزاني، من أجل تشكيل مرجعية ديمقراطية مختلفة بعيدة عن التفرد، بفتح آفاق أمام العمل الحضاري والتنمية البشرية في العراق الفدرالي، تكون أقل كلفةً و وطأةً أو أقل تسلطاً و عنفاً، بل أقل عبثاً و جنوناً.
من المؤسف أن نری بدل بذل جهود ترمي الی تحقيق الأمن و التنمية والإزدهار، إنغماس حكومة بغداد في لعبة سياسية، مآلها إضعاف العيش المشترك و الإستقرار الأمني. علاقة السيد المالكي بمحيطه، هي من أسباب الأزمة السياسية في العراق، فهو يعمل في سبيل إرتباط أزمة حكومته بأزمة المنطقة، لتصبح الساحة الداخلية في العراق ساحة للصراعات الإقليمية و هو لا يهدف الی تنفيذ برامج إنمائية و إصلاحية و إجتماعية برفع الغطاء السياسي عن العناصر المتقاعسة الفاسدة داخل حكومته و إرساء علاقات متوازنة تراعي مصالح العراق و العراقيين مع إقليم كوردستان الفدرالي و دول الجوار، بل يدلي بخلاف ذلك بتصريحات تعزز إقتناعنا بأن بغداد تعمل اليوم أكثر من أي وقت مضی لتمييع كل ما تم التوافق عليه في أربيل، من خلالها يكرر فشله في تحقيق الوفاق و يحوّل سلطته التنفيذية الی طاولة للمناكفات السياسية و تبادل الحملات و وسيلة لتعطيل العمل بالدستور و سلب الحريات العامة.
مواطني كوردستان يعيشون اليوم عصرهم الذهبي بعيداً عن الحكومات الدكتاتورية و حكومة إقليم كوردستان تعمل الی تقوية اللحمة الكوردستانية و إنتعاش الاقتصاد و إزدهار السياحة و تعزيز الإستثمارات و توفير فرص عمل جديدة و عودة الكفاءات الی الوطن لتساهم في تقدمه و إزدهاره، لذا لا تسمح قيادة الأقليم، التي تعمل بنفس الحماسة في سبيل ترسيخ أواصر المحبة والوئام بين الشعبين الشقيقين، أن يجرها المالكي بسياسته الإستفزازية الفاشلة الی حرب تهدد بتخريب منجزاته الإعمارية والإنمائية و تعيد مشاريعها التطويرية والتحديثية الی نقطة الصفر. لتصل الی هدم السلم الأهلي و الإستقرار الأمني.
إن قبول القيادات الكوردستانية بالمادة 140 من الدستور العراقي لم يكن في يوم من الأيام من باب الشك في كوردستانية المناطق المستقطعة من كوردستان، بل كان من أجل معالجة القضايا العالقة مع الحكومة الإتحادية عن طريق الدستور، لكن تهرب السيد المالكي من تطبيق هذا الدستور و رفضه القاطع بكوردستانية تلك المناطق و إستعراضه القوة و توسله الإستقواء بالسلاح و إتباعه سياسة التهديد المسلح و الترهيب لتغيير خارطة تلك المناطق، بعد بسط سلطته علی أكثرية مفاصل الحكومة في بغداد و تهميشه للشركاء بفرديته الإستئثارية أجبر رئاسة الإقليم حفاظا للطابع الكوردستاني السكاني و الارث الثقافي المتنوع لهذه المناطق، من إصدار قرار رسمي باستخدام عبارة (المناطق الكوردستانية خارج الاقليم) من الآن و صاعداً للدلالة على المناطق الكوردستانية المشمولة بالمادة 140 من دستور جمهورية العراق. علی السيد المالكي أن يعلم، بأن عهد الإدعاء بالوطنیة علی حساب حملات الابادة والتهجیر والتعریب التي قام بها الطاغي صدام قد ولیّ الی غير رجعة.
کوردستانیة کرکوك تعني إثراء العراق، لا التقسیم أبداً، لأن الذي قسّم العراق هو السياسات الطائفية والعنصرية التي مارستها الانظمة السابقة. شعب كوردستان ومن خلال برلمانه المنتخب أقر بأن ممارسة حقوقه يكمن في عراق ديمقراطي إتحادي فدرالي، لذا وجب علی المشروع الوطني في العراق اتباع سياسة المساواة وخدمة الكل، لا سیاسة التهمیش و إثارة الأحداث، التي يعمل من أجلها السيد المالكي ليل نهار، بهدف حجب الأبصار عن الحقائق التاريخية و تغليفها بالأفكار السوداء، التي لا تنتج سوی نشر رائحة العنصرية البغيضة والتعصب و الإنغلاق والتطرف و الإشتغال بمنطق الرفض والصدام. إنّ الممارسات الصبیانیة من قبل بغداد لا تقود العراق نحو الأفضل و إنّ عسکرة المجتمع وتسلیح الجیش بالطائرات الأمریکیة لا تبشر بالخیر لدولة ترید أن تطبق النظام المدني لا الشمولي الدیکتاتوري. أما الإنشداد الی الماضي فیقود العراق الی التراجع والتهرب من الواقع وعلی الساسة العراقيين، الذين يدعمون اليوم سياسة السيد المالكي، الترجل من صهوة الغرور القومي وأمتطاء صهوة التعددیة الفکریة وإحترام مطالب الكوردستانيين، شرکائهم في الوطن، ولیعلموا بأن بعد سقوط الطاغي صدام إنتهی عصر یقدّر فیه لفرد أو حزب أو معتقد أن یقهر شعباً بکامله و لتعل حكومة بغداد بأن الكوردستانيين لم ولن يتحاوروا حول كوردستانية كركوك، لانها بالنسبة اليهم مسألة محسومة تاريخياً وجغرافياً و واقعياً.
وختاماً: المجاهدة في سبیل إنکار کوردستانية کرکوك والإنشداد الی الوراء، بدلاً من التوجه نحو الحاضر والراهن والمستقبل، بالسعي للخروج من المنطق الإختزالي و السجن العقلي و الحتمیة الأيديولوجية و المكابرة و التهرب من المسؤولية و إنكار الحقائق الصارخة والترويج لجحيم الآلة العسكرية، كل ذلك لا تورث سوی النزاعات الداخلیة والهزائم والمهالك للعراق. و الإعتراف بحق آلآخر و بالفيدرالية والديمقراطية هي لغة العصر والحلول لا تقوم علی نفي الواقع في کرکوك. سؤالنا هو، الی متی القفز فوق الاحداث و نفي المتغيّرات؟