23 نوفمبر، 2024 1:46 ص
Search
Close this search box.

الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” يرفض حمايتي للهليكوبترات

الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” يرفض حمايتي للهليكوبترات

حمايتنا للإذاعة والتلفزيون تركت سريتنا بقيادة “الملازم أول يوسف خليل أحمد” ثكنة فوجنا “الحرس الجمهوري الأول” المتاخمة للقصر الجمهوري صبيحة (الإثنين-4/4/1966) لتسلّم مهمة حماية مبنى الإذاعة والتلفزيون بمنطقة “الصالحية” من “السرية الثانية” بقيادة “الملازم أول قاسم محمد صكَر” بعدما أمضت (3) أشهر متتالية بهذا الواجب، فتمركزت فصائلنا في قواطعها ضمن خطة الحماية.
كان الأسلوب المتَّبَع لعمل الضباط -وعددنا أربعة- أن يتواجدوا جميعاً خلال ساعات الدوام الرسمي طوال الأسبوع بما فيها أيام الجمعة… وحال إنقضائها في الساعة الثانية بعد الظهر، كنا نتبادل النزول الى المدينة بين يوم وآخر، حيث يبقى ضابطان لأداء كامل المسؤوليات حتى صبيحة اليوم التالي.
كنتُ توّاقاً للعمل في حماية هذا المبنى، وخصوصاً عند عدم النزول إلى “بغداد” مساء لأسباب تخصّني، قد تكون في مقدمتها تلك الأجواء المدنية التي تسوده، وهي ما نحن محرومون منها بشكل عام، يضاف إليها إبتعادنا عن مقر فوجنا وثكنتنا، وكذلك عن مقر اللواء الذي كان على الدوام يتدخّل في شؤوننا حتى نستشعر وكأننا تحت المراقبة وإحتمالات المحاسبة على مدار النهار والليل، ناهيك عن النهوض المبكر فجراً والتجمّع في ساحة العرض والهرولة الصباحية والتدريب اليومي الرتيب ومحاضرات التهذيب والتثقيف والرياضة المسائية والحياة العسكرية ذات النهج اليومي المكرر، مصحوبة بكآبة تسود وجوه معظم الضباط والمراتب في أروقة القاعات والغرف ونقاط الحراسة وتسيير الدوريات على مدار الساعة.
أما في هذا المبنى، فقد كانت مقابلاتي الشخصية وإختلاطاتي المسائية مع المذيعين والمذيعات، المطربين والمطربات، الممثلين والممثلات، والمخرجين ومقدّمي البرامج في الإذاعة والتلفزيون والمقدّمات، والأدباء والأديبات، الشعراء والشاعرات، تـُضفي على ذاتي شعوراً بالراحة وبعض السعادة، ناهيك عن التمتّع بسلطة شبه مطلقة والتصرّف مثلما أشاء… فقد آليتُ على شخصي أن أبقى الضابط الوحيد بعد الدوام الرسمي وقتما أسمح أن يغادرني “الملازم عبدالجبار جسّام” إلى مسكنه الواقع في محلّة “سوق حمادة” المتاخمة لـ”الصالحية” ليتمتّع بالصلوات وتلاوة المصحف الكريم ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل ليستلم مني الواجب
لوحده فأغُطّ في نوم عميق حتى الصباح، فيما يسهر في “غرفة الضباط” مؤدياً جولات منتظمة على نقاط الحراسة والحماية حتى يحلّ الفجر.
المهمة الخاصة
في صبيحة يوم (الخميس-7/4/1966) إستدعاني آمر سريتنا الى مكتبه وأوضح لي أن ((واجباً خاصاً)) قد تقرّر تكليفي به خلال زيارة السيد رئيس الجمهورية التفقّدية للواء/محافظة البصرة، وطلب مني الحضور فوراً لدى مساعد آمر الفوج “الملازم أول عبد الصمد جابر”.
لم يَدُمْ إنتظاري لدى السيد المساعد، فقد كان الأمر عاجلاً بحيث أدخلني سراعاً إلى مكتب السيد آمر الفوج “الرائد الركن عبد الرزاق صالح العبيدي” الذي سمح لي بالجلوس -على غير عادته- قبل أن يبادر إلى القول:-
* لقد نَسّبْتُكَ -يا ملازم صبحي- لتقوم بمهمة خاصة لحماية مهابط طائرات الهليكوبتر المُصاحبة للسيد رئيس الجمهورية خلال زيارته للبصرة، ولمدة (3) أيام إعتباراً من يوم (الثلاثاء-12/4).. وعليك التهيؤ للتنفيذ وفقاً لما يأتي:-
أولاً- أن تُشكِّل فصيلاً مُرَتَّباً من (40) جندياً وضابط صف من عموم سرايا الفوج، وتنتقيهم من ذوي اللياقة البدنية العالية والقوام اللائق والوجه المقبول والقيافة الجيدة.
ثانياً- أن تتسلّم من ضابط الإعاشة “الملازم عدنان العَزّاوي” قياساً كاملاً إضافياً من الملابس العسكرية وأحذية العَرَضات وأغطية الرأس والملابس الداخلية، كي يكون الفصيل بمظهر يليق لهذا الواجب.
ثالثاً- عليك أن تسافر -مع الفصيل- بالقطار النازل إلى “البصرة” مساء يوم (السبت-9/4)، لتصلها صبيحة يوم الأحد، حيث تدخل في إمرة “آمر موقع البصرة” العسكري “المقدم الركن قاسم حَمّودي”، والذي بدوره سيُنَسِّق مع “آمر قاعدة الشُعَيْبة الجوية” -المقدم الركن الطيار خالد حسين ناصر”، ومع إدارة “مطار البصرة الدولي” لتأمين إسكان فصيلك.
رابعاً- والأهم من كل ذلك… عليك أن تستطلع جميع المهابط المتوقّعة لطائرات الهيلكوبتر التي ستُصاحب السيد رئيس الجمهورية، وتضع خطّتك لحمايتها بعدد كافٍ من جنودك، وذلك قبل أن يصل سيادته إلى “البصرة” بيوم واحد.
خامساً- سيتم إركاب الفصيل في (3-4) عجلات حمل عسكرية تابعة لموقع البصرة العسكري، مع سيارة “جيب” لتَنَقُّــلِك أنتَ.. وقد وَعَدَنا آمر القاعدة الجوية بتأمين وجبات طعامك والجنود… أما “الأعتدة” فعليك تسلّمها من المتوفّر في فوجنا وتحمّلها معك بالقطار، إذْ لا داعي للدخول في معاملات رتيبة قد تطول إذا ما تسلّمتها من مخازن “البصرة”.
سادساً- ولكن، حالمــا تعلم بوصول السيد المرافق الأقدم “العميد زاهد محمد صالح” إلى “البصرة” صباح (الإثنين-11/4) فإنك تصبح بإمرته، ولا تتسلّم أية توجيهات لتنقّلاتك وفصيلك لتنفيذ المهمة إلاّ من شخصه.
سابعاً- عليك الظهور -مع أفراد فصيلك- بالمظهر اللائق الذي ينبغي أن يعطي صورة ممتازة عن فوجنا وعموم الحرس الجمهوري، أينما نزلتَ وحللتَ.
ثامناً: لتغطية المصاريف غير المنظورة لفصيلك، تسلّم من “المُساعد” مبلغ (250) دينار من نثرية الفوج، وإنك مُخَوّل بصرفه لتغطية إحتياجات الفصيل وقتما تكون خارج القاعدة الجوية، ولكن مقابل وصولات وقائمة مصروفات تقدّمها إلى “لجنة النثرية” حال عودتك.
تاسعاً- والآن.. توجّه لمقابلة السيد “المُرافق الأقدم”، فلربما لديه أمور أخرى يضيفها أو يوضحها.
وحالما إنتهى السيد آمر الفوج من إصداره أوامره، وبعد أن أدرجتُها على الورق فقرة بعد أخرى، فقد سمح لي بالتحدّث عما توضّح لي من تلكم النقاط… ولمّا تأكّد من هضمها، قال:-
§ حسناً… هل لديك أي استفسار أو غموض؟
– كلا يا سيدي… ولكني أرجو سيادتكم أن لا يكون الفصيل الذي كلّفتَني بقيادته مُرَتـَّباً من عموم الفوج، بل تسمح لي بأصطحاب فصيلي الأصل لهذه المهمة، وسأُكمل نواقصه من الفصيلَين الآخرين من سريتنا.
§ ولماذا؟
– لأني على ثقة كاملة من فصيلي، فهم ذوو كفاءة ولياقة بدنية مقبولة، وأؤكد كوني على معرفة بخواص كل فرد منهم وهم منسجمون فيما بينهم ومعي، ويعرفون خصالي أكثر من مراتب باقي السرايا.
سكت آمر الفوج قليلاً قبل أن يبادر :-
§ هذه نقطة جديرة بالإهتمام، وأُبارك لك الثقة المتبادلة مع جنودك، وأُوافقك على ذلك… تصرّف كما تشاء، وبلّغ موافقتي هذه إلى كل من “المُساعد” و”آمر سريتك”، وتوكّل على الله.
وجهاً لوجه مع “المُرافق الأقدم”
أسرعتُ إلى “القصر الجمهوري”، وإنتظرتُ طويلاً قبل أن يأَذنَ لي “العميد زاهد محمد صالح” بالمثول أمامه في مكتبه، ووقفتُ بحالة “الإستعداد” دون حراك… فبادر إلى القول بوجه متجهّم:-
§ ءَأنت الملازم صبحي ناظم؟
– نعم سيدي.
§ لماذا لم تُقَدِّم نفسك حسب الأصول العسكرية عند دخولك هذه الغرفة؟
– وجدتُ نفسي في الجناح الخاص للسيد رئيس الجمهورية، فلم أجد من المناسب أن اقدم شخصي بصوت عال -كما هي العادة- سيدي.
§ ولكن عليك أن تعرف جيداً أن العسكرية هي العسكرية سواء في صحراء أو قمّة جبل أو بالقصر الجمهوري، فلا تكرّر ذلك…… على أية حال، هل توضّحت لك تفاصيل الواجب؟
– نعم سيدي، فقد أوضح السيد آمر الفوج ذلك.
§ السيد رئيس الجمهورية سيصل بطائرة الرفّ الجمهوري إلى “مطار البصرة المدني” صباح (الثلاثاء-12/4)… ولكن هناك (3) هليكوبترات تسبقه إلى “مطار الشُعَيبة العسكري” قبل ظهر (الإثنين-11/4)، إذْ تكون أنت مسؤولاً عن حمايتها جميعاً حال هبوطها، وتمنع أي تقرّب إليها بشكل مطلق، عدا طيّاريها وفنيّيها، والذين يجب أن تتعرف -وكذلك مراتب فصيلك- على وجوههم بدقة… هل هذا واضح؟
– نعم سيدي كل الوضوح.
§ وعليك إبقاء نصف موجود الفصيل من الأشخاص في ذلك المطار بشكل دائم، بينما تقود النصف الآخر لتأمين حماية الهليكوبترات متى وأينما تهبط في العراء وفق الأماكن التي سأُحدِّدُها لك بإستمرار بعد وصولي إلى “مطار البصرة” صباح
(الإثنين) بطائرة الخطوط الجوية العراقية، وسأزوّدك بمنهج مفصل للزيارة وتوقيتاتها… هل هذا واضح ايضاً؟
– نعم سيدي.
§ إذَنْ تحّرك الآن لتُهيِّئ فصيلك للحركة… وكُنْ بإنتظاري في “مطار البصرة الدولي” صباح يوم الإثنين.
خرجتُ من القصر الجمهوري مُسرِعاً، مُتَهيّباً، متملِّـــكاً مشاعر قلق من هَول الواجب الذي تكلّفتُ به للمرة الأولى منذ تعييني في الحرس الجمهوري قبل ما يقارب السنتَين، ولا سيّما وأن أي ضابط في فوجنا لم يسبق أن أُنيطَت إليه مهمة مشابهة -حسب علمي- كي أفيد من معلوماته وخبرته وتجربته في هذا الشأن، وأن ليس أمامي سوى (48) ساعة لتهيئة فصيلي للحركة وصولاً الى “البصرة”.
وبعد أن هيّأتُ الفصيل وفق التفاصيل التي بُلِّغتُ بها، حضرتُ الى “محطة القطار العالمية” لأحجز عربة قطار كاملة للتنقّل الى “البصرة” ليلة السبت/الأحد (9/10نيسان/1966).
إلغاء المهمة
وبينما كنتُ على وشك الإنتهاء من جميع الإستحضارات، فوجئتُ في ظهيرة (السبت/9/نيسان) بآمر السرية وهو يبلّغني بأن المهمة قد أُلغيت، وأن فصيلاً مُرتَّباً من “مركز تدريب مشاة البصرة” سيؤدي هذا الواجب البسيط، وذلك بأمر من “رئيس الجمهورية”، الذي قال للعميد “زاهد محمد صالح”:-
((إتقوا الله يا ناس… لماذا هذا التبذير وهذه التعقيدات؟؟؟ فهل من فرق بين “جيش البصرة” و”جيش الحرس الجمهوري”؟؟؟؟ كلّفوا “آمرية موقع البصرة” لتقوم بهذا الواجب))
تنفّستُ الصَعداء مستشعراً مع أفراد فصيلي بإرتياح كبير، حتى إستأذنتُ لأخلد ظهراً لنوم عميق دام ساعات عديدة، ولكن من دون أن يرد بذهني أني سأكون شاهداً لحدث جلل في تأريخ العراق المعاصر، وأن الشخوص الذين تعايشوا تلك الأيام الثلاثة في “البصرة” ونواحيها سيغدون لاحقاً شهود عيان مهمّين في واقعة ستهزّ العراق من أقصاه إلى أقصاه، وكذلك الشرق الأوسط، وتغيّر مجريات الأحداث السياسية وتؤثر سلباً أو إيجاباً على عموم المنطقة والعالم العربي والإسلامي.

أحدث المقالات

أحدث المقالات