من محاسن الديمقراطية الأمريكية أنها تترك لمواطنهاكل شيء، فلا تتدخل في شؤونه وخصوصياته. فهو حر في عقيدته وأفكاره وعمله ومسكنه ومأكله وملبسه وفرحه وحزنه، ما عدا ما يُنقص من حريته حريةَ غيره، أو يعكر صفوه، أو يغتصب حقا من حقوقه، مع محذورات اتفق المجتمع الأمريكي منذ زمن طويل على تحريمها، ومنها تجارة المخدرات، والاختلاس، واستغلال الوظيفة، والكذب أو التحايل على السلطات.
ولكنْ لهذه الديمقراطية مساويء كبيرة أيضا. فهي تفتح الباب واسعا لدول وأحزاب ومؤسسات وشركات أجنبية باستخدام موطنين أمريكيين لخدمة مصالحها، وتشكيل جمعيات ومؤسسات ولوبيات سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية تحاول التأثير على سياسة الدولة وتغيير قراراتها، ولكن بشرط واحد هو أن يعترف ذلك المواطن العميل بأنه عميل، وبأنه يتقاضى أجورا عن عمالته، وعليه أن يصرح، أولاً بأول، بأية أموال أو هدايا أو إعانات مالية أو عينية تصل إليه من الخارج، وأن يدفع عنها ما يترتب عليها من ضرائب.
وهذا بتقديري أحد أهم العومل المؤثرة التي مكنت تاجر عقارات وصاحب فنادق وملاهي ونوادي قمار من اختراق جدار المحاصصة السياسية والمالية والحكومية في واشنطن، وانتزاع الرئاسة من حزب عريق.
يضاف إلى ذلك قرفُ الناخب الأمريكي من فساد الطبقة السياسية الديمقراطية والجمهورية المهيمنة والمتهمة بالفساد، مع ضعف شخصية منافسته هيلاري كلنتون وكره الأمريكيين لها، ومنهم أعضاء في حزبها الديمقراطي، لأسباب متنوعة عديدة.
ومنذ أول دخوله البيت الأبيض 2016 وحتى خروجه منه قبل أيام لم يتعلم ترمب علم السياسة والكياسة وأصول الرياسة، بل بقي كما هو، دون تغيير، يدير أمريكا وعلاقاتها مع دول العالم الخارجي كما كان يدير واحداً من نوادي قماره أو فنادقه، فيُقرب هذا ويطرد ذاك من موظفيه بمزاجية منقطعة النظير، ويساوم هذه الحكومة الخارجية أو تلك، ويباهي بنجاحه في الضغط علىحكومات وإجبارها على دفع الجزية له، معتقدا بأنه بابتزاز أصدقاء أمريكا وأعدائها يملأ جيوب المواطن الأمريكي ليصبح بذلك في نظر الملايين الأمريكية هو المنقذ الأعظم الذي لم يَجُد الزمان بمثله من قبل.
ولكن الحق لابد أن يقال. فبالوثائق والأرقام حقق طفرات اقتصادية هائلة، حيث بلغ معدل البطالة أقل مستوياته منذ60 عاما، مع منجزاتٍ تاريخية أخرى أولها تخليصُهالخزانة الأمريكية من أعباء مالية كبيرة كثيرة كانت تنفقها على المكسيك وكندا وحلف الأطلسي وغيره، ثم تشخيصُه الشجاع لجوهر الإرهاب الدولي وأصله وفصله، وخوضُه الحرب المصيرية معه، بادئا بالخروج من الاتفاق النووي الإيراني الناقص الذي خلفه له سلفه باراك أوباما، ثم نجاحُه في القضاء على دولة الخلافة الإسلامية (داعش)في العراق وسوريا، واغتيال بن لادن، واصطياد قاسم سليماني.
ولكن من سوء حظ ترمب أن تتفشى كورونا في سنة رئاسته الأخيرة، فتكسر ظهر الاقتصاد، وترفع أعداد الإصابة والموت بسببها، فتمسح منجزاته الداخلية والخارجية التي كان يباهي بها، ويكرر استعراضها لتقوية حظوظه الانتخابية، ثم يجد فيها خصومُه الديمقراطيين سلاحا ناجزا قاتلا بعد أن فشلت أسلحتهم الأخرى التي لم يتوقفوا عن استخدامها لإسقاطه منذ أول يوم له في البيت الأبيض وحتى آخر يوم.
باختصار، لقد تجمعت كواسج السياسة والتجارة الداخلية والخارجية معا، بأموالها وأجهزة إعلامها وجيوشها الإلكترونية، لقهر شخص واحد هو دونالد ترمب، فسقط.
ورغم عدم توفر دليل ملموس ومقنع على تدخل حكومات خارجية لإسقاطه، إلا الفرح الذي اجتاح شعوبا وحكومات خارجية (معينة) معروفة بعدائها لجميع سياسات ترمبيعني الكثير.
كما أن تلاعب الحزب الديمقراطي وأجهزة الولايات المتأرجحة الموالية للديمقراطيين، خصوصا في 65 مليون استمارة اقتراع بريدية، أمر واردٌ وليس ببعيد.
المهم في المحصلة النهائية أن ترمب راح ضحية جبهة واسعة وخطيرة من الأعداء والكارهين الداخليين والخارجيين على السواء.
طبعا لم يستغرب أحدٌ حماسة النظام الإيراني وملحقاته القطرية والعراقية واللبنانية واليمنية والفسلطينية في الرقص والزغردة والتشفي بخسارة ترمب، ولكن العجب العجاب أن نجد صحفا وفضائيات وأحزابا وشخصيات عربية، من خارج المعسكر الإيراني أو الإخواني، بعد أربع سنوات من حرق البخور والمديح والإطراء لترمب، وتعظيم شجاعته، وإبراز أخباره وصوره وقراراته وتصريحاته، لحد النفاق المكشوف، تنقلب عليه، فجأة، وتتفرغ لتمجيد الملك الجديد والإكثار من الحديث عن ماضيه (المشرف)، وعن خبراته ومؤهلاته ونجاحاته، ثم تنطلق، في الوقت نفسه، في التبشير بأنباء هزيمة الآخر، بما يفوق طبيعة المهنة الصحفية، حتى قبل إعلان النتائج الرسمية النهائية بقليل، وهو ما يعني أنها لم تكن صادقة مع السابق، ولا هي صادقة مع اللاحق، دون ريب.
ثم فجأة توقفت هذه الصحف والإذاعات والفضائيات العربية عن تعليقاتها وتحليلاتها وأحكامها بالخيانة للإنسانية وهي تُقلب إيميلات هيلاري وهنتر بايدن، وتحولت للبحث عن عيوب ترمب وزلات لسانه، ولا تستحي.
تُرى هل هذه هي طبيعة البشر من أيام الاسكندر ذي القرنين وهولاكو وجنكيز خان، أم هي جديدة أنتجها عصر الانحطاط الرديء الجديد، أم إن الانتهازيين في التاريخ البشري الطويل كانوا، ويظلون، مع الواقف القوي، ظالما أو مظلوما، لأنهم صغار؟.
أما الغلط في رحيل ترمب فهو لأن سياساتٍ خطيرةً وضع أساسها وباشر بتنفيذها، في أربع سنوات، مع إيران والصين وروسيا وكوريا الشمالية وكندا والمكسيك ودول أمريكا اللاتينية الأخرى غيَّر بها المقاييس والموازين، وقلَبأصول لعبة الأمم رأسا على عقب، كان ينبغي لها أن تكتمل على يديه.
ومنها، مثلا، أنه وعد بوصول النظام الإيراني، فور إعلان فوز ترمب بالرئاسة، إلى لحظة الإقرار بالهزيمة،والاستسلام لشروط وزير خارجيته، جورج بومبيو، ليرتاح الشعب الإيراني، قبل سواه، وليرتاح العراقيونوالسوريون واللبنانيون واليمنيون والفسطينيون، وشعوب المنطقة الأخرى والدنيا أجمعين.
أما الآن فسوف يكسب الولي الفقيه وذيوله وجواسيسهعاما، أو ربما عامين، من الغطرسة والقتل والحرق والغزو والاحتلال قبل أن يصل بايدن إلى القناعة المؤكدة القادمة، كسلفه، بأن هذا النظام لا يفهم سوى لغة ترمب، وأن عليه أن يكمل ما بدأه سلفه الصالح، فيبدأ بقلع أنياب هذا الوحش الخطير وبخلع أظافره، ولكن بعد أن تكون شعوبُالمنطقة قد تكبدت أنهارا إضافية من الدماء والدموع التي كان مقررا أن تنجو منها، دون شك.
والشيء نفسه سيحدث مع الصين وروسيا وقطر والإخوان المسلمين. والعبرة بخواتم الأمور، وإن طال بنا الانتظار.