23 ديسمبر، 2024 10:48 م

الرئيس الذي يكره شعبه

الرئيس الذي يكره شعبه

يوم 11 من الشهر الحالي، وقبل هذه الانتخابات الأخيرة بتسعة أيام، نشرت مقالا هنا بعنوان (لابد أن يفوز السيد الرئيس) قلت فيه:
” قبيل انتخابات العام 2010 بأسابيع توقعت أن يمكث المالكي رئيسا للوزراء مهما تكن نتيجة الاقتراع، واليوم أقول إنه سيمكث رئيسا، أيضا، ولكن بالعدد الأعلى من المقاعد، مهما قال المنافسون أو فعلوا.”
وها هي الهيئة العليا للانتخابات تبشرنا بأن النتائج الأولية للانتخابات المحلية العراقية أظهرت فوز ائتلاف المالكي في محافظات بغداد والبصرة وواسط ‏والقادسية والمثنى وذي قار وبابل وكربلاء.
لكنني، وقبل أن نتقدم أكثر في الحديث، أرجوكم أن تصبروا علي قليلا وتدققوا معي في التفاصيل، ولنأخذ بغداد مثالا، وهي الأهم والأكبر والأكثر تبيانا لحقيقة الفوز (المؤزر) لقائمة السيد الرئيس. وبلغ فيها عدد الناخبين (4.748.926)، لكن الذين صوتوا منهم فقط (1.562.641) والاصوات الصحيحة التي أدخلت في مركز البيانات كانت (1.128.000)، أي ربع الناخبين المؤهلين للاقتراع. وحصل ائتلاف دولة القانون على (409.948)ويحتمل أنهم أعضاء حزب الدعوة والتجمعات والتنظيمات المؤتلفة معه وبعض ضباط وجنود القوات المسلحة. أي أن ثلاثة أرباع ونصف ربع منهم أمسكوا أنفسهم، ولم يجدوا بين المرشحين من يستحق السلام والكلام.
وإذا كان الفائز الأول في الانتخابات لم يحصل في بغداد كلها إلا على أقل من نصف ربع سكانها الخمسة ملايين، وهو من هو بجلالة قدره وصولجانه وأمواله وقواته المسلحة وغير المسلحة، فإن منافسيه من الزعماء والقادة ورؤساء القوائم والأحزاب والعشائر والمليشيات حصلوا على أقل من ذلك، دون ريب.
وهذا يعني، وبالقلم العريض، أن شعبنا كان عند حسن ظننا به، فقد طلق هذه الشلة كلها من أولها إلى آخرها وبالثلاثة. ولو كان لدى الرئيس ومنافسيه ذرة من كرامة لاعتذروا لأهلنا واستقالوا على الفور وسمحوا لنا بإعادة انتخاب حكامنا من جديد، ومن خارج هذا الورطة، وبإشراف حكومة محايدة لا علاقة لوزير داخليتها ولا دفاعها ولا مخابراتها أي صلة بالمالكي والنجيفي ومقتدى والحكيم وعلاوي. ولكن نوري المالكي ليس شارل ديغول الذي استقال حين لم يفز إلا بنصف أصوات الفرنسيين، وهم بعشرات الملايين.
إن الذي تعارفت عليه شعوب العالم الديمقراطي هو أن يفوز المرشح بواحد من اثنين، إما ببرامجه الانتخابية المقنعة للفترة القادمة وإنجازاته الإعمارية والإصلاحية في الفترة السابقة، أو بإعجاب النساء بشكله وملبسه ولسانه، وبما ينفقه على الإذاعات والصحف ومحطات التلفزيون، كا يحدث في أمريكا، مثلا.
إلا عندنا. فالفائز هو الذي يحمل أغلظ العصي وأكبر أكياس المال ويستطيع أن يسوق الناخبين سوقا إلى صناديق الاقتراع التي يحرسها حزبه وعبيده وجواريه، فيصوتوا له حتى وإن كانوا يلعنون الساعة التي جاءهم فيها من آخر الصفوف.
وفي دول الديمقراطيات غير المغشوشة يتجول المرشحون في أغلب مدن الوطن وقراه، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. أما عندنا  فلم يخرج السيد الرئيس في جولة حرة في شارع الرشيد أو السعدون أو الكاظمية أو الأعظمية، مثلا.
العتب هنا ليس على الرئيس الفاشل المولع بالمكاسرة والتحدي وتكسير العظام وتلفيق الملفات، بل على هذا النصف مليون من عُمي البصر والبصيرة الذين صوتوا لحاكم من هذا النوع، بعد كل الذي فعله ببغداد وأهلها، وما يفعله كل يوم، وما سوف يفعله في الآتي من الأيام.
أما عزت الشابندر وسامي العسكري وحيدر العبادي وعباس البياتي ومشعان الجبوري فسوف يكثرون من الظهور على شاشات الفضائيات ويفاخرون بالفوز العظيم، ويضاعفون صراخهم الممل عن الديمقراطية والشرعية وشريعة العدل والقانون.
وحين تجادلهم حول هذا المَسخ المَعيب للديمقراطية يردون عليك ” إنها إرادة الشعب العراقي”  ولا يقولون (نصف ربع الشعب العراقي)، وفي هذا تدليس وتزوير لا يقل عن تزوير الشهادات.
ويغيب عن هؤلاء أبسط مفاهيم الديمقراطية، وهو أن عملية الانتخاب وحدها ليست ديمقراطية، حتى لو كانت انتخابات صحيحة، وغير صورية، وغير مزورة، ولم يقرر الحاكم نفسُه نتائجها قبل أن تبدأ، وذلك بإرهاب الناخبين بخناجر كتائبه المسلحة وسيوفها، أو بفتاوى الشيوخ والسادة المعممين وعاظ السلاطين، أو بأحكام القضاء المدجن، أو بشراء الناخبين بوظائف وأموال مسروقة من خزائن الأمة، أو واردة من وراء الحدود.
أما شروط الديمقراطية الأخرى، كالقبول بالآخر، والوسطية، واحترام الرأي المخالف، والتداول السلمي للسلطة، وضمان حرية الفكر والعقيدة، فأمور هامشية لا يرون غضاضة حين ينكرونها، أو يتحايلون عليها ويعملون بعكسها.
ومثلما يصعب اجتماع الصيف والشتاء على سطح واحد، فلا يمكن أن يكون ديمقراطيا رجلُ يقضي أيامه ولياليه يشتم الجميع ويسخر من الجميع ويهدد الجميع ويتآمر على الجميع. هل رأيتم من قبل زعيما يكره شعبه إلى هذه الدرجة؟  لم يسلم من شره أحد، حتى من حلفائه الأقربين.
ومرد ذلك كله أن الذي يتربى على الاستبداد والعصبية القبلية والطائفية والعنصرية يصعب عليه  أن يكون مسالما ومتسامحا مع الآخرين. والذي تمرس في زرع المتفجرات وتفجير المفخخات في مباني السفارات والجامعات لا يستطيع أن يصبح فجأة رجل دولة وحمامة سلام ويتخلى عن هوايته في تكسير أصابع المنافسين وتسقيط المعارضين. 
وهنا لن أجد ما أقوله أفضل مما قاله النائب الكوردي عن كتلة التغيير لطيف مصطفى. وليسمح لي باستعارة بعض ما قال: 
” إن ما حصل في قضاء الحويجة أثبت أن رئيس الوزراء نوري المالكي بات يشكل خطرا على العراق، فهو تجاوز لكل الخطوط الحمراء من قبل الحكومة” وقال “ إن المالكي اعلن حالة الطوارئ دون موافقة البرلمان، وهذا أول خرق دستوري، والخرق الثاني نشر الجيش داخل المدن أيضا دون موافقة البرلمان، والثالث وهو الأخطر يتمثل باستخدام الجيش في قمع المتظاهرين، فالتظاهرات هي شأن داخلي مدني وبإمكان شرطة مكافحة الشغب او الشرطة المحلية، حصرا، التدخل فقط في حالة حدوث تخريب في الممتلكات العامة”
“ إن عملية ضبط الأسلحة هي من مهام الشرطة المحلية، واذا لم تتمكن الشرطة من ضبطها فيجب أن تكون استعانتها بالجيش محدودة وعبر الوسائل القانونية حصراً”.
” إن وجود سلاح او سلاحين أو عشرة، رغم أن المسألة مازالت محل شكوك وليست بمستوى اليقين، يجب أن يتم التعامل معها من قبل الشرطة وليس الجيش “.
 “إن اراقة الدم العراقي بهذه البساطة هو مخالفة دستورية خطيرة، وينبغي على جميع الكتل السياسية، بما فيها كتل التحالف الوطني، فيما لو أردنا عدم الانجرار الى الهاوية وعدم العودة الى زمن الدكتاتورية التي قد وصلنا الى منتصف الطريق اليها ينبغي علينا أن لا نتهرب، فمن المؤسف أن نرى الكتل السياسية تنسحب من جلسات البرلمان، وهذا خطأ، إذ ينبغي علينا جميعا بما فينا الكتل الكوردية والعراقية والتحالف الوطني أن نذهب الى البرلمان ونفكر جديا في استجواب المالكي بشأن حادثة الحويجة”.
” إذا لم نستجوب المالكي بخصوص حادثة الحويجة فيجب أن ننتظر كل شئ أسوأ، وأن نرضى بحصول كل شئ أسوأ، فالمالكي بهذه الصورة فعلا أصبح خطرا على العراق، ومن واجبنا أن نستجوبه وأن نحقق في ملابسات حادثة الحويجة أمام وسائل الاعلام ، فإذا لم يستطع أن يجد مبررات لكل هذه المخالفات الدستورية فينبغي أن نسحب منه الثقة ”
من كل هذا نصل إلى الخلاصة وهي أن من المستحيل وجود عراقي واحد يحترم نفسه وأهله ووطنه يقبل بديمقراطية مغشوشة من هذا النوع. وبالتالي فإن حياتنا لن تنصلح ولن تعود عزيزة وآمنة ومزدهرة، كما كانت، إلا إذا خرج أمثال هؤلاء من حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ودخل شعبنا في العصر الديمقراطي العلماني الحقيقي الذي يضمن المساواة لجميع المواطنين في الحقوق والواجبات، ويرفع عنهم سيوف القهر الديني والعنصري والطائفي، ويغسل عقولهم وقلوبهم من الأوهام والخرافات والأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيد الحكومة.
حينها سوف يجد السيد الرئيس نفسه مرغما على اختيار واحد من اثنين، إما أن ينزع من قلبه كراهية مواطنيه ويجنح إلى السلم مع معارضيه قبل مواليه، ويحترم الدستور ويعتمد العدالة والمساواة والنزاهة ويخضع لمساءلة البرلمان في الصغيرة والكبيرة، أو يحمل عصاه ويرحل، قبل فوات الأوان.