ظل العراق على مدى عقود من الزمان يقاد بعقلية القائد الاوحد , لاسيما بعد انهاء الملكية واعلان الجمهورية, فكان الرئيس لايمثل اعلى هرم السلطة, بل يمثل الهرم باكمله, بحيث يجمع السلطات التشريعية والتنفيذية, ويحكم قبضته ايضا على السلطة القضائية .
اما السلطة الرابعة, فكانت لا تعدو كونها بوقا يمجد الزعيم القائد ويبرز بطولاته, معتمدا في ذلك على القوة العسكرية التي يهيمن عليها.
وما ان جاء الاحتلال الامريكي الى العراق حتى انقلب كل شي راساً على عقب, وبالطبع فان في مقدمة التغييرات التي حدثت هو شكل النظام السياسي, سيما وان واشنطن جاءت بوعود براقة تقوم على اساس نشر الحرية والديمقراطية.
وبعد ان مرت المرحلة الانتقالية , اسفر الدستور العراقي الجديد عن ثلاث رئاسات, فالرئيس السابق جلال الطالباني الذي انتخب لدورتين حظي بمقبولية جيدة في الاوساط السياسية بسبب شخصية التوفيقية, لكنه لم يستمر طويلا في دورته الثانية بسبب الازمة الصحية التي المت به وابعدته عن المشهد السياسي بالكامل , الامر الذي فسح المجال رئيس الوزراء نوري المالكي بان ينفرد بالسلطة ويبدا باقصاء خصومه ومنافسيه الواحد تلو الاخر, وكانت فترة الثلاث سنوات الاخيرة من حكم المالكي بغياب طالباني هي الاسوأ على الاطلاق .
هيمن المالكي على رئاسة الجمهورية, واستحوذ على القضاء, كما سيطر على جميع الهيئات المستقلة, وعلى الرغم من المعارك الكلامية التي كان يخوضها رئيس البرلمان السابق اسامة النجيفي وعدد كبير من النواب, الا ان ذلك لم يوقف المالكي في السير بطريق تحجيم المجلس وتحديد دوره بشكل كبير مما أدى الى توتر الرأي العام، لينتقل الخطاب المتشنج بين السلطتين التنفيذية والتشريعية الى الشارع, وجراء هذا الاستحواذ الحكومي تعطلت الكثير من المشاريع , وجمدت القرارات التي لو شرعت لحققت الكثير من التحسن في اوضاع البلاد.
وبعد التغيير الذي حدث في الانتخابات الاخيرة بخروج المالكي من رئاسة الحكومة, طرأ تحول واضح على شكل ومضمون الرئاسات الثلاث, ويبدو ذلك جليا من خلال اسماء الرؤساء الثلاثة التي لديها عدد من المشتركات الايجابية, فالرئيس فؤاد معصوم شخصية هادئة ومتزنة, ويمكن لها ان تلعب دور ايجابي تقريب وجهات النظر, برغم التنافر الكبير الذي يبدو بين نوابه الثلاث المالكي والنجيفي واياد علاوي.
اما رئيس مجلس النواب سليم الجبوري, فعرف عنه العقلانية والمرونة, مع امتلاكه للقدرة والكفاءة سيما وانه يحمل شهادة الدكتوراه في القانون, في حين جاء ترشيح رئيس الوزراء حيدر العبادي بعد مخاض عسير, بسبب تمسك المالكي بالولاية الثالثة, فكان العبادي الشخصية المرنة الباحثة عن الحلول والتوفيق بين مختلفط الأطراف .
وبعد اشهر من تسنم الرؤساء الثلاثة مناصبهم يبدو للمتابع ان المماحكات التي شهدتها الولايات السابقة قد باتت من الماضي, وان التنسيق صار جزءا اساسيا في نجاح البرنامج الحكومي وهو بالفعل ما تقتضيه المرحلة الحرجة والمصيرية التي يمر بها العراق, وما زيارة معصوم الى السعودية ثم وضعه ترتيبات لعقد اجتماع الرئاسات الثلاث والبرنامج الذي سيناقش فيه, الا دليلا على وجود رغبة بحل المشاكل الداخلية بنفس الرغبة الدافعة لحل المسائل العالقة مع دول المنطقة.
ان العمل المؤسساتي لا يمكن ان يكون عملا متكاملا اذا تمت ادارته بصورة فردية او متجاوزة لصلاحيات الاخر، ومن هنا جاءت دعوة العبادي لحل المشاكل والازمات التي خلقها سلفه المالكي بسياسية الخطوة –خطوة, وهو ما تبين من خلال قراراته المتتابعة خصوصا في الجانب الادارة العسكرية, حيث اصر على تعيين وزيري الدفاع والداخلية واجرى تغييرات جوهرية على مستوى القيادات العسكرية, مع وجود رغبة بحل قضية الهيئات المستقلة, في الوقت ذاته فاجا الجبوري جميع المتابعين بادارته الممتازة لجلسات مجلس النواب, لاسيما ما يتعلق بالقضايا الشائكة كملف قاعدة سبايكر وملف النازحين, وهو ما يشير الى جوهر العمل التكاملي بروح الفريق الواحد دون تقاطع او تشنج, لأن تنسيق وتوحيد الخطاب السياسي بين الرئاسات الثلاث والاتفاق على الثوابت الوطنية وتحديد الاولويات يؤدي الى استقرار الوضع السياسي وهو ما يؤدي بشكل كبير الى الاستقرار الامني.
وربما تبقى مسالة السلطة القضائية والمحكمة الاتحادية ووجودها كسيف مسلط على رقبة البرلمان من القضايا التي ينبغي ايضا ان تحل بشكل جذري وعاجل , لدفع عجلة الامور الى الامام, لان البلد لم يعد يحتمل مزيد من التجارب الفاشلة, والانسجام الذي بدت عليه المنظومة السياسية في العراق يجب ان يكون خطوة تتلوها خطوات اخرى كثيرة في طريق اعادة اعمار البلاد…..والعباد ايضا.