18 ديسمبر، 2024 8:24 م

الرؤية السردية  في رواية (مثلث الموت) للروائي علي لفته سعيد

الرؤية السردية  في رواية (مثلث الموت) للروائي علي لفته سعيد

من عمق رحم الموت (مثلث الموت) يسرد لنا راوٍ عليم كل العلم عاش الموت بكل تفاصيله وأحداثه المفزعة واطلع على أسرار صناعته والممولين والمستفيدين، والقائمين على أدارته والقوانين التي تحكمه وتزيد من شراسته، وهي الطمع والحقد والتآمر على شعب ذاق الأمرين على يد حكامه وساسته الذين يبررون تخلفهم بقتل الحياة فينا، وتآمرهم بسرقة ثرواتنا، وفشلهم بحماية الدين، وحقدهم بمصادرة حريتنا وكرامتنا الوطنية، هكذا يسير بنا الروائي على لفته سعيد إلى عمق المأساة التي راح ضحيتها الكثير من البسطاء والشرفاء والوطنيين، ليضعنا وجها لوجه أمام من تسبب بكل هذا النزيف للدم العراقي ومجانية الموت التي ذقنا منها الأمرين، يستعرضها السارد المؤلف وفق تساؤل فكري تحليلي نقدي (لماذا ) وهو تساؤل يبدأ بفعل البحث والاستقصاء وينتهي بحتمية الموت، كونه تساؤلا ينفتح على العديد من الإجابات التي تتناسل عبر وقائع وحقائق على تماس مع الموت داخل مثلث الموت الذي يتسع ويتناسل إلى مثلثات تكبر وتتكاثر يوما بعد يوم، مثل وباء يخنق وجودنا الإنساني( من يتمكن من معرفة لماذا يحصل الذي يحصل في العراق ؟ لماذا كل هذا القتل وأغلب الشعب العراقي يريد التغيير؟ لماذا هذا الصراع؟ هل يمكن لنا أن نتقصى الحقائق ونبثها ونكتبها للناس لكي نعرف من هو الطرف الأقوى في معادلة القتل العراقية )ص12.يفتتح السارد العليم أحداث الرواية بوثيقة يعثر عليها منتظر في دائرة الاستخبارات شكلت ما يشبه الصاعقة، يطلعنا عليها سارد عليم بدقة متناهية ( الوثيقة المكونة من خمس صفحات هي جزء من ملف مبعثر كان قد حمله لأنه وجد فيه أسماء وعناوين وتقارير موجعة) ص7، أمنية وأسرار تعود لزمن النظام السابق تحمل أسماء كانت تختبئ خلف عناوين معارضة السلطة، لكنها جزء من المنظومة القمعية والاستخبارية للنظام الصدامي، ولها حضور مؤثر وفاعل على الساحة السياسية والاجتماعية اليوم، أسماء تتخذ من الغطاء الديني والثقافي والسياسي مظلة لتمرير أجندتها وأطماعها الحزبية والسياسية وهو ما دفع  وحفز مجموعة من الإعلاميين للوصول لهذه الشخصيات، بغية التأكد من حقيقة ودقة هذه الوثائق، لذا يقررون إجراء مقابلة مع إحدى هذه الشخصيات الدينية البارزة التي تقيم مؤتمرا في أحد الأحياء الشعبية لرجل دين بارز أو (الكبير) كما يسميه السارد العليم، بعد أن يبين لنا عبر وثائق مسربة تقع بيد سلام عن أن رجل الدين الكبير كان أحد الأسماء الكبيرة والبارزة في أجهزة القمع السياسي يحمل رتبة ضابط كبير في المخابرات وهو ما يكشف وبجرأة كبيرة من قبل الكاتب عن أحد أهم أضلاع المثلث الأساسية و الفاعلة في إفشال العملية السياسية بعد التغيير وعما جرى ويجري اليوم من تدهور أمني وسياسي واقتصادي خطير يعصف بالبلاد من الشمال إلى الجنوب .أن تبدأ الرواية بوثائق تدين الكثير من الوجوه السياسية البارزة يعني أن السارد يعلن منذ البداية عن واقعية وجدية ما يود حكايته لنا، لذا يضعنا وجها لوجه أمام الحقيقة دون لف أو دوران، رغم خطورة المشهد السياسي اليوم، فالوثيقة هي شهادة تدين الكثير من الوجوه التي تبنت العملية السياسية ونصبت نفسها الحارس والمدافع الوحيد عنها، وهي أيضا رسالة تسلط الضوء على أهمية العمل الإعلامي الحقيقي ودور الإعلام في مرحلة ما بعد التغيير، وهو دور استثنائي، كون مهنة الإعلام مهنة لم يعتد العراقيون على صراحتها وقوة تأثيرها إلا بعد التغيير، وخصوصا بعد التضحيات الكبيرة التي قدمها الكثير من الإعلاميين من أجل الوقوف على حقيقة ما يجري وهو ما يعيد إلى الواجهة خفايا غير معلنة دفع ثمنها الكثير من الإعلاميين البارزين وبالتالي نحن أمام رواية تفضح الكثير من أسرار الموت المعلن وغير المعلن، أبطالها جلهم من الإعلاميين البارزين الذين خاضوا غمار المغامرة والمجازفة بحياتهم من أجل معرفة أسباب هذه التداعيات الخطيرة وهم ( منتظر، وسلام ، واحمد ، وخضير)وهو ما يكشف عنه الكاتب في مشهد المقابلة مع رجل الدين الكبير والرفض والممانعة التي يواجهونها من قبل أتباع رجل الدين وسيل الاتهامات التي تكال للإعلام، منها انه إعلام مأجور لصالح دول تسعى لتدمير الوطن وتشويه سمعة قادته، ليأتي الرد على لسان أحد أبطال الرواية الأربعة ( سلام) للدفاع عن دور الإعلام في كشف الحقيقة للرأي العام ( نرجوك أن تقدر عملنا الصحفي والإعلامي، فمن واجبنا أن نسلط الضوء على ما يريد الناس بكل حرفية ومهنية ) ص23 .معمارية الأحداث.تتخذ أحداث الرواية خطا بيانيا يرتفع وينخفض على شكل منحنيات هرمية ترتفع معها ضربات القلب وتنخفض حسب الزمان والمكان وخطورته، وهو ما يرسم منطق سير الأحداث وأسلوب بنائها عبر الوصول بالأحداث الممتدة من مدينة كربلاء  إلى بغداد وما بينهما ذهابا وإيابا ،اللطيفية، المحمودية، اليوسفية وهو تحقيق عن المنطقة سبق لسلام أن قام بنشره في الوسائل الإعلامية إلى حدث يتصاعد ليصل إلى الذروة، لكن دون حسم، وذلك لمد زمن الحكاية المتخيل.. فرغم قصر زمن الرواية الواقعي، إلا أن زمن المتخيل قادر على جعل زمن الرواية يمتد عبر تقنية الفلاش باك التي يستخدمها السارد العليم بكثرة من خلال شخصياته لكسر حاجز الحقيقي والمتوقع، فأمام كل مشهد من مشاهد الموت تعود بنا هذه الشخصيات إلى حروب متأخرة مثل الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج ولحظة سقوط بغداد وغيرها من اللحظات الحرجة لدى أغلب العراقيين (يتذكر خضير أن هذه الجملة سمعها من قبل في الحرب التي شارك فيها ) ص 100 وهي جملة (ثيمة) كونها أرجائية، تخلق ما يسمى أفق الانتظار أو التوقع، وهو ما يتيح للمتلقي دورا في رسم الأحداث، فأغلب هذه الأحداث هي انفجارات ومشاهد خراب وقتل وتهديد ترسم لحظة موت معلن وفق خط بياني على شكل مثلث كبير اسمه مثلث الموت يصفها السارد على لسان أبطاله الثلاثة سلام ، واحمد ، وخضير ،أثناء ذهابهم إلى بغداد، حيث يتفق الثلاثة على الذهاب لغرض استلام أجورهم الشهرية عن التغطية الصحفية لصالح المؤسسات الإعلامية التي يعملون معها بعد أن تخلف عنهم منتظر بحجة العمل (من هذا المكان الذي يقع جنوب العاصمة ويحاذي خطين متعارضين في الدين.. لقد كانت الأخبار تنقل لهم أن هجمات عديدة تقوم بها جماعات متعصبة في مواجهة مليشيات مسلحة وكأنها هجمة مرسوم لها أن تستمر..لم يكن أمامه سوى التقدم ليرى ما يمكن رؤيته ويفيد ) ص116 .الرؤية السردية :تقوم الرواية على تمازج رؤيتين سرديتين متجاورتين هما : الرؤية الخارجية السارد العليم والمهيمن الذي يتدخل في كشف سير الأحداث، تدخل موضوعي خارجي، والرؤية الداخلية، أبطال الرواية وهو ما يسميه أغلب النقاد بالرؤية الثنائية في بنية النص الواحد، وهو ما يتيح للكاتب قدرا كبيرا من الحرية في عكس وجهات النظر المختلفة التي تمد المتلقي بسيل من المعلومات والحقائق والانطباعات المختلفة حول ما يجري من أحداث جاعلة في الوقت نفسه من دور التلقي عنصرا مشاركا في بناء رأي عام حول الأحداث، فالرؤية الخارجية ترتبط في سيل الوثائق والاعترافات والقتل على الهوية.. أما الرؤية الداخلية فترتبط في بحث الأبطال عن حقيقة ما يحدث ولماذا يحدث وهل ما يحدث هو فعل مدروس؟ وبالتالي مبرر بفعل حماية الدين والوطن، لذا هو فعل لا يخضع لعدالة القانون ويجرم، فأتباع سير الحكي بضمير (الأنا )مع أبطل الرواية الرئيسين وهم يرون مشاهداتهم وما مر بهم في سياق أحداث ومشاهد الموت المعلن وما يوهمنا به الكاتب فنيا في بعض مفاصل الرواية على انه مذكرات أو اعترافات، لكن في حقيقته هو سرد بضمير المتكلم هو من يكشف عن هذه الرؤية السردية التي رغم شموليتها، لكنها تتيح للمتلقي والشخصيات التدخل والتحليل للوصول بالأحداث إلى درجة الإقناع كحافز من محفزات السرد الواقعي، وهو ما يؤكد على ثنائية الرؤية داخل البناء الفني للرواية وقصدية الكاتب، والتي تتضح بشكل فعلي في جملة محورية في توجه السرد للإفصاح عنه (الحياة في العراق هي الشيء الاستثنائي وليس الموت ) ص100  . إن تتبع المظهر الفني للرواية الذي يتجلى لنا على امتداد المنطوق السردي يبين لنا عن المنهجية الفنية المتبعة في نسج الأحداث، فقد استثمر الكاتب صورا سردية مختلفة، بحيث تكون العلاقة بين الوصف وإيقاع السرد حركة متواشجة، فلا نجد وصفا يقفز على أحداث أو يعطل سير السرد، فكل وصف يصاحبه فعل سرد (كان أحمد يبحث عن شيء بعيد فينظر إلى الأشجار التي تبتعد عنه في عمق الصحراء للطريق فيما يبقى الطريق الإسمنتي تحت سيارة الماليبو سريعا إلى حد الدوخة التي لا يستكين لها رأس) ص102، وهذا لا يمنعنا من القول إن بعض الاستطرادات كانت  تبطِّئ من سير الأحداث، لكن وبشكل عام الرواية ظلت محافظة على قوة الشد والترقب لما هو قادم  . الشفرة الدلالية .هناك دلالات فكرية جهد الكاتب في توظيفها بعناية فائقة، تبدأ من عتبة الرواية الأولى، العنوان ( مثلث الموت ) وتنتهي في آخر عتبة للرواية وهي (الموت صناعة وطنية) ولو حولنا فك شفرة هذه الدلالات سنجد أن هذه الدلالات  تأخذ شكل مثلث أضلاعه الثلاثة تشكل هرما رأسه المدبب يرمز للموت وأضلعاه القائمان المتصلان بالرأس والقاعدة يمثلان الدين والأحزاب السياسية، وقاعدته الجماهير المسحوقة الفاقدة لمصيرها ومستقبلها، وهو ما يرسم شكل العلاقة الخفي داخل الواقع الفعلي في العراق والتي تقوم على أساس التنافس والصراع مابين هذين المحورين  ديني / سياسي ،والتواطؤ والتآمر والإقصاء ضد المحور الثالث والذي يمثل مواطنة /جماهير بغية الوصول إلى رأس الهرم، الحكم على حساب القاعدة التي هي الجماهير التي ترمز دلاليا بالكبش أو الضحية ( إنه صراع الموت ..الاحتلال بحاجة لمقاومة، والمقاومة بحاجة إلى موت والعنوان هو القتل ) ص121.وإذا ما افترضنا أن المكان في الرواية هو مادة الحوادث توجب علينا القول إن المكان في رواية مثلث الموت هو الباعث الحقيقي الموحي بعلاقته مع الموت وهو ما يدفع الشك كون رواية مثلث الموت تجاهلت المكان أو لم يوفق كاتبها برسم المكان، فتأثير المكان في الرواية تأثير ثيمي واضح، لكن هذا لا ينفي من كون الرواية في بعض أقسامها قد أثقلت بكثرة الاسترجاع، أي تذكر الماضي، وخصوصا مع سلام  (ص172، 176) في لحظة اختطافه وهو ما يبطئ من حركة السرد أو يكون خروجا عليه، كما أن هناك تواترا وتكرارا في مشهد الحوادث وهو ما يعيق حركة السرد، أعني مشاهد الأشلاء والضحايا والمشاهد المغبرة، كما أن الحكاية تأخذ خطا قصصيا كونها ترتكز على حدث واحد، لكن وفي مجمل البناء العام نجد أن الرواية قد نجحت في كشف النقاب عن حقيقة ما جرى ويجري من موت يطال كل من حاول فضح حقيقة الموت ومن وراءه، وهو ما يحسب للكاتب، وإن الرواية تمثل نصا سرديا قادرا على إيجاد إجابات حول ما يجري، وهو ما يعكس قوة وأهمية الرواية اليوم ودورها الفاعل  القادر على إدانة كل أطراف النزاع وتعيد في الوقت نفسه الأنظار إلى دور السرد الأدبي في فضح  وكشف الحقائق بكل حيادية ممكنة، وهو ما جعل من مثلث الموت أنموذجا روائيا فاعلا يشجب الثقافة السائدة، بل ويحملها تبعات ما يحدث اليوم، وهي فضح وتعرية للكثير من الوجوه السياسية والدينية التي تمارس دورا سلبيا بل  دور القتل والتحريض الطائفي وإدامة نار الفتنة التي أحدثت شرخا اجتماعيا إلى الآن نعاني منه، ومن أقدر على فضح ذلك سوى الإعلام بكل أشكاله المرئية والمسموعة والمقروءة، فسلام يقع بيد مجموعات إرهابية تدعي مقاومة المحتل الإيراني والأمريكي بحجة الوطنية والقومية وأحمد وخضير يقتلان على يد مجموعات تدعي الجهادية السلفية ومنتظر يرتعد خوفا من أن تناله عقوبة نقد رجل الدين الكبير، وبالتالي نحن أمام إشكالية ثقافة الموت والاستبداد وهو ما يعكس ظهور ونضوج تيار الواقعية النقدية ما بعد التغيير لإدانة كل أشكال السلطة ما قبل التغيير وبعده