23 ديسمبر، 2024 10:33 ص

الرؤية السردية في الخطاب الروائي في رواية (سرير في مومباي) للروائي طامي اهراطة عباس

الرؤية السردية في الخطاب الروائي في رواية (سرير في مومباي) للروائي طامي اهراطة عباس

قد انشغلت الساحة الأدبية بشكل عام والروائية بشكل خاص بالسرد بوصفه رؤية يطرح من خلالها المؤلف عن طريق الراوي وجهة نظره الذاتية والموضوعية كما يسميها ( اوزبنسكي ) والتي تعتمد على عدة مستويات ابرزها هو المستوى الأيديولوجي الإصلاحي ، والمستوى التعبيري الخطابي ،و المستوى المكاني والزماني ،و المستوى السيكولوجي النفسي .وعليه فان إي رؤية سردية مهما كانت طريقة بنائها أو أساليب سردها لابد إن تخضع لهذه المستويات المهمة في عملية السرد هذا بالإضافة للمستوى الفني العام . ان أهمية الرؤية السردية في الرواية تكمن في ان المادة الحكائية في العمل الروائي لا يمكن ان تقدم بشكل موضوعي صرف او بأسلوب تقريري حيادي صرف دون ان تخضع لتأثير هذه المستويات والتي تعكس بدورها تشابك هذه الرؤية مابين الذاتي والموضوعي ،وكما يقول تدوروف (( في النص الأدبي أننا لا نقف إمام إحداث وصور في شكلها الخام بقدر ما نقف إمام  إحداث وصور مسرودة بأسلوب وطريقة ما )) وعليه فأن هذا التشابك او الخلط ينتج لنا رؤى سردية مختلفة تنعكس على النص الذي تتضح من خلاله علاقة الروائي بالراوي الذي يحاول الروائي من إشعار المتلقي بحياديته في سرد القصة او الحكاية ، فالروائي حينما يسرد الإحداث لا يسرد بصوته بشكل مباشر ولكنه يرشح راوي او راويان يقوم بعملية السرد او القص فلا توجد قصة بلا سارد او راو ، رغم تنوع وتعدد مواقع هذا الراوي حسب تعدد أصوات السرد، ولكي لا نبتعد كثيرا عن موضوعنا  فأن الرؤية السردية في النص لا تتضح الا عن طريق صيغ الخطاب في النص والتي تبرز عن طريق السرد والعرض ،لذا توجب علينا تبيان مفهوم الرؤية السردية للمؤلف قبل البدء بالعمل . فما نقصده بالرؤية ليس وجهات النظر المختلفة التي تستعمل لتأكيد امر مقصود او العمل على تحقيقه بقدر ما تعني وجهات النظر المختلفة التي تنعكس من خلالها الوقائع والمواقف تجاه موقف معين تتحقق فيه رؤية السرد ، فالمنظور الايديولوجي في النص قد لا يعني في الكثير منه وجهة نظر المؤلف التي يعتمدها في بناء عمل معين فبعض الشخصيات في الكثير من الروايات نجدها تتحرك وتتحدث بحرية دون تدخل المؤلف نفسه، اي يكون المؤلف والراوي في موقف أكثر حيادية في بعض المواقف كي يوحي بحرية شخوصه وعدم تقيدهم وشل حركتهم ، ولتوضح ذلك عمدنا إلى تبيان الرؤية السردية في الخطاب، لرواية ( سرير في مومباي )
للروائي طامي هراطة عباس والتي صدرت في طبعتها الأولى سنة ٢٠١٥ ،عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع .يبدأ السرد في الرواية بوجهة نظر راوي عليم حيث يسمح لنفسه بالتدخل في أحداث السرد التي تبين المعرفة المسبقة للكاتب بكل شيء ، ( كانت خارطة المدينة التي تطلع إليها محسن كريم مرارا في بهو المطار تكاد تنمحي وهو يواجه الهطول. المنتظم للمطر الهندي) فرغم ان صيغة السرد هنا قد كتبت بصيغة الشخص الثالث مع ذلك فأن حاجتها الحقيقة إنما تعود الى الشخص الأول اي المؤلف ، وهذا ما أكد عليه بارت حين قال (( يستطيع المؤلف كتابة قصة او مقطع منها بصيغة ألهو وتحويلها الى صيغة إلانا ولا يرى اي هدم في الخطاب سوى بتغير الضمائر )) وهذا ما استثمره المؤلف في تعدد صوت الروي يرافقه تعدد في أساليب السرد حيث تبدأ الاحداث والشخصيات بالتشابك كاشفة الملامح الأيديولوجية لرؤية المؤلف من خلال النص فشخصية محسن كريم ذات الأصول العراقية والمبعد قسرا الى ايران من قبل النظام السابق ، بتهمت التبعية الايرانية  و ازهار هادي الموظفة في وزارة الزراعة و المهددة من النظام بسبب زوجها الشيوعي قادر عبد الحميد الهارب
من بطش السلطة وعامر البغدادي المعارض السياسي للنظام والذي يسكن في سورية كل هذه الشخوص تقيم خارج إطار السلطة او خارج سطوتها تشترك في خطاب ذو نمط نفسي ثقافي اكثر منه صدامي  صرف  يعكس رؤية الخارج  من السلطة  رغم ان المؤلف سعى  إيهامنا عكس ذلك بإتباع طريقة تنويع الخطاب في النص والاعتماد على وجهات نظر مختلفة اي وجهات نظر أكثر حرية و موضوعية لكننا حين نتتبع تحولات خطابها عبر تطورات الاحداث نجد انها تصب في النهاية في رؤية إيديولوجية واحدة تعتمد على كشف الاستبداد السياسي من قبل الحاكم و سطوته على كل من يحاول الاختلاف معه وهذا ما دفع المؤلف لاختيار خطابين متشابهين في الرؤية والتوجه يتمثل بخطاب الخارج المغترب الخائف بسبب غياب الرؤية الفاعلة لمواجهة النظام ،وهذا ما دفع المؤلف لعنونة روايته ( سرير في مومباي ) للدلالة على الا مبالاة الواضحة في خطاب الخارج واستسلامه ،اما الخطاب الاخر او خطاب الداخل الذي يحاول المؤلف ان يسلط الضوء على مقاومته للنظام بقوة و إصرار واضح والمتمثل في شخصية الشيخ عدنان والشخصية الرئيسية عباس هادي فهو خطاب شجاع وقادر على مناورة السلطة فالشيخ عدنان وهو خطيب منبر حسيني في كربلا يقول ( سنستمر بشكل علني بإحياء مراسم عاشوراء من كل عام ولن نتخلف عن احياء أية مناسبة … علنا سنفعل ذلك ) وهذا التحول في الخطاب السردي ما بين الخارج الذي هو خطاب انهزامي غير فاعل والداخل الذي هو خطاب صدامي فاعل يكشف ميل المؤلف نحو تأيد الداخل على الخارج لذلك عمد الى دفع النص والمتلقي لمواجهة حقيقة تبدأ من الخارج عن طريق محسن كريم وعامر البغدادي لكنها حقيقة كسولة غير معنية بتغير النظام وإنما تسعى وراء مصالحها عكس خطاب الداخل الذي يمثل خطاب ديني وسياسي لكنه خطاب اكثر فاعلية من الخارج (لا تقلق انهم ينازعون لقد هد الحصار مفاصل الحكومة ) ان اعتماد المؤلف تنويع صيغ الخطاب بين الراوي العليم وخطاب الشخصيات أتاح له ذلك إيهام المتلقي ان هذه الاحداث لا ترتبط برؤية المؤلف الذاتية فقط بل هي رؤية موضوعية وحاجة أساسية إلى اي عملية تغير وتحرير فَلَو تتبعنا صيغ خطاب الشيخ عدنان الذي يمثل خطاب قادر على تحديد الأسباب  لتحدي النظام نجد ان هذه الشخصية تمتلك حضور نفسي وتاريخي واجتماعي فاعل حيث يحاول عبرها المؤلف ان تكون شاهدا على التحولات والاحداث التي مرة على العراق ( التفت الشيخ عدنان نحو صديقه الشمري وهو يبتسم .. :-  سأفعل ذلك في يوم ما ، اطمئن يا صديقي لدي رؤية خاصة للخطاب الديني ) فالتأكيد على أهمية  هذا الخطاب تكمن من وجهة نظر المؤلف في قدرته على التأثير في الوسط الشعبي الديني والسياسي  المهمش من قبل النظام . اختار المؤلف الغموض في تحديد زمن بداية الاحداث في الرواية ليعطي نفسه حرية التلاعب بالاحداث ( بضع سنوات قبل سقوط النظام وحتى عام ٢٠٠٥ ) اعتمد على رؤية زمانية  متسلسلة حافلة بالتحولات والمفاجأت في محاولة جعل النص اكثر اثارة ، ورؤية مكانية تحمل الكثير من الدلالات النفسية والاجتماعية توزعت  ما بين كربلاء وبغداد لما يمثلا من أهمية  سياسية وتاريخية وثقافية تكشف حجم  الدمار الذي تعرضت  له قديما وحديثا هذه البلدات من احداث مروعة لذلك تعامل لمؤلف  مع السرد وفق رؤية مزدوجة ، فالسرد عند هراطة هو الوسيط الذي تنتقل عبره الاحداث والرؤى سواء كانت مكانية او زمانية ، كما يقول الناقد ( جيرالد برنس ) عن السرد ((  شرط ان يكون معناه منصبا على النتيجة والهدف والفعل والبناء والإدراك  )) فعباس هادي الشخصية المحورية في الرواية التي يتعاطف  معها المؤلف لدوره الفاعل  الذي سيتضح فيما بعد في جمع شتات الخارج والداخل وهو اخو ازهار هادي المقيمة في لندن  ،وصديق محسن كريم المقيم في مومباي وعامر البغدادي المقيم في سورية ، هو الوحيد القادر على مواجهة ويلات نظام صدام ولذي اعدم والده بسبب ميوله الحزبية لكنه تخلى عن الاستطدام مع النظام الذي قتل وشرد الكثير من أهله وهو موقف يعبرعن دعم  المؤلف الواضح لهذه الشخصية القادرة على استيعاب قسوة النظام فحتى في لحظة ابلاغه من قبل النظام بموت والده لم تكون ردة فعله بحجم الخسارة التي تلقاها بسبب النظام حيث ادرك حجم دموية هذا فنفذ ماطالب منه دون تردد  ( أرجو ان تتم المراسم بهدوء فنحن ملتزمون بحفظ أمن الدولة ))  وهي نفسها وجهة النظر التي يبني عليها المؤلف رؤيته السردية والتي ستتضح في الاحداث بعد سقوط الصنم اوالنظام على يد القوات الامريكية وبزمن قياسي اذهل كل العالم وكل الذين كانو يراهنون على السلطة  فيعود كل من ساهم النظام في تشريده واستبعاده لكن بوجوه واشكال وطموحات جديدة فازهار هادي تعود الى بغداد للترشح ضمن حزب ديني سياسي وعباس هادي صار صاحب اعمال تجارية مهمة حتى انه وافق على  المبلغ المالي كتعويض او فدية من قاتل  والده في زمن النظام السابق ولذي استطاع من ان يحصل على رتبة عقيد بعد ما كان برتبة متدنية في النظام السابق  ( العقيدخيون ) ،ان تحول  لغة الخطاب  من لغة نضالية تدعو للتحرر والكرامة ونبذ الدكتاتورية  الى لغة خطاب تأويلي تبريري لكل أشكال الفشل السياسي بعد سقوط الصنم كما يحلو للأحزاب المعارضة تسميته افقد   الكثير من الشعارات الثورية من محتواها النضالي وبالتالي غابت عملية النقد  للفساد السياسي الذي استشرى فيما بِعد والذي ظل ينخر في جسد المواطن والوطن لذلك كانت رؤية المؤلف السردية تسعى الى فضح هذا الفشل في واقعنا السياسي والاقتصادي من خلال كشف  نمط خطاب التغيير الخاص بالمواقف و الشخوص التي طالما كانت تدعي التضحية في سبيل المبادء التي ناضلت من اجلها وبذلت   الغالي والنفيس لها،  لكنهم في النهاية تناسوا ذلك من اجل السلطة والمال  .وفي العودة الى الرؤية السردية في الخطاب  نجد ان لمؤلف لم يوفق في تحقيق هذا الرؤية لعدت اسباب أهمها  ضعف وتشتيت هذه الرؤية السردية  مابين الراوي العليم والشخصيات الرئيسة في الرواية حيث ضمور صوت الراوي من خلال انحيازه الى بطله المتمثل في ( عباس هادي ) من جهة الداخل ومحسن كريم الذي يمثل الخارج  لكنه انيحاز غير مكشوف او مخفي خلف النص وكأن الراوي فقد صوته تحت هيمنة الإحساس الجمعي فافقده ذلك التعبير عن رؤية واضحة  ، قدم المؤلف شخصيات شبه مقطوعة عن ماضيها حتى انه لم يستطع الدخول الى عالمها الداخلي  الى مع شخصية محسن كريم فأصبحت باقي  الشخصيات مجرد اسماء او دمى دون فاعلية تذكر . لقد سقط المؤلف في فخ لعبة ديمقراطية التعبير السردي رغم نقده للتحولات الديمقراطية في العراق ففقد زمام السيطرة على النص وعلى الرواية . لكن هذا لا يعني ان الرواية لم تنجح في تسليط الضوء على الاحداث وعلى بعض الدلالات الاجتماعية لكن تبقى هذه الدلالات في الإطار العام او الأخبار وعليه لم يستطع اهراطة من تشكيل رؤية سردية قادرة علىى توظيف النص بشكل قادر على بناء رؤية سردية فاعلة وحقيقية مما انعكس ذلك على نمط الخطاب في النص ،حتى ان نهاية الرواية كانت غير ذات مغزى مهم  . ان اي رؤية سردية مهما كانت تقنيات بنأها لا تعتمد على وحدة الموضوع والهدف تكون رؤيةغائمة  ضعيفة وغير مجدية .