في آذار 2003، وبينما كان عريف الحفل الذي كنت أحضره بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي، يستعرض بعض الشعارات المعلّقة على الجدران، تهاوى شعار ” لا للحرب لا للدكتاتورية “، فإنتابني شعور غريب، وأحسست حينها بأن الغزو الأمريكي، قد يفضي إلى سقوط كل الشعارات والأفكار السابقة التي تمت بها تعبئة المواطنين العراقيين وأصدقائهم وحلفائهم من قوى العالم الخيّرة، من أجل إسقاط النظام الإستبدادي، الذي كان مطبقاً على خناق الوطن.
يومها، تشبثت بتفاؤل الإرادة، وأبعدت ذلك الإحساس! لكن ماحدث على مدى العقدين الماضيين، وما نشاهده اليوم من مظاهر الخراب والعنف وتسّيد قيّم ما قبل التمّدن، قيّم التخندق الطائفي والمذهبي والعرقي، قيمّ الحقد والكراهية والتعصب والإحتراب وثقافة الموت وإعلاء الفناء العدمي على حب الحياة والجمال والطبيعة، يعيد لي ذلك الإحساس البغيض، فأهرع للبحث عن ثقافة تنقد لي المفاهيم والقيم البالية وتبّصر الناس بالأسباب والدوافع التي دأبت على وأد قيّم التسامح والمحبة وحجب أفكار التنوير وإشهار عصي التكفير.
فهذا البلاء، الذي سببته هيمنة قوى التخلف، التي كنا قد غسلنا منها أيدينا قبل سقوط بغداد المدوي، وتماهي القوى الأكثر وعياً مع ما أفرزته العملية السياسية، من ظواهر ما بعد الغزو، كالطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية، لايمكن أن يواجه بغير تحرك جاد، فكري وثقافي، أولاً وقبل كل شيء، يمكّننا من قراءة الواقع كما هو، ويخلصنا من وهم ” شعاراتنا التي زكتها الحياة “.
إن قراءة متمعّنة لما يعيشه العراق اليوم، تعيد للذاكرة، رواية ” جاك القدري ” والصادرة عام 1796، للكاتب الفرنسي، دونيس ديدرو، والتي حاول فيها رصد تحكم القدر في الأحداث وحركة الأبطال، بحيث يصبح الحوار الداخلي ثرثرة بلا معنى! حيث ستعكس لنا هذه القراءة، كيف يتحكم العرف بمواقع الأفراد وأدوارهم وعلاقات بعضهم ببعض أو بالدولة ومؤسساتها، وبدور النخب، من تماهى منهم مع المتنفذين أو إختار السلبية والوقوف على حياد زائف، وحيث عرف متوارث أو مستحدث أوصلنا إلى حالة أصبحت فيها القوة هي الحق، والأفعال لا تشبه الأقوال والأهداف الحقيقية تختبأ وراء نفاق لا حدود له! وحيث يسير الجميع في النفق العراقي المظلم بدون هدف معروف! المتنفذون يتبادلون التهم حول المسؤولية عن الكارثة، توحّدهم السرقة والكذب والشتيمة لبعضهم البعض. أتباع المتنفذين، يواصلون العراك على التسميات وعلى السبل التي توصلهم إلى كراسي برلمان الخيبة.
ورغم الحلكة والضيم، فهناك من لايزال يفتح كوى في النفق المظلم، وأبرز هؤلاء رجال ونساء الإحتجاجات الشعبية التي لم تفقد جذوتها بعد، ونشاط المبدعين الديمقراطيين، الذي يشكل بصيص تنوير حقيقي، وعدد متميز من إصدارات وكتابات تحاول النقش في الفكر كما النقش في الحجر، ومنها ما حاول القيام به الصديق المبدع الدكتور إبراهيم إسماعيل في كتابه هذا (هكذا رأيت الأشياء).
مؤلف الكتاب، باحث قدير، متنوع الإهتمامات، بين العلم والفكر والسياسة والثقافة والصحافة، ففي مجال العلم، حاصل على شهادتي دكتوراه في علم النبات، أحداهما من جامعة دبرستن في هنكاريا، والثانية من كلية علوم الحياة السويدية، التي عمل فيها إستاذاً وباحثاً علمياً، لسنين طوال آهلّته لنيل جائزة التفاحة الذهبية في عام 2020 تكريماً وتثيمناً لجهوده في التدريس والبحث العلمي. وفي مجال السياسة، إمتدت علاقته بالحركة اليسارية لأكثر من نصف قرن، في الوطن وفي المنافي، الجزائر واليمن وسوريا والمجر وجبال كردستان! ورغم صعاب الإنتماء القاسية، بقي الرجل واثقاً من حلمه بغّدٍ مشرق ووطن حر وشعب سعيد. وفي مجال الثقافة، عرفناه كاتباً في العديد من المجلات والصحف، التي رأس تحريرها أو برز في هيئات تحريرها، بقلمه الرشيق وإسلوبه الشاعري الجميل. لقد كانت الثقافة، أكثر الهموم التي سببت للصديق المؤلف وجع الرأس، سواءً بسبب مناكدات الصحب، أو لإيمانه العميق بحرية الإنسان والكلمة، أولتغريده أحياناً خارج السرب، وهو ينظم العديد من الندوات والنشاطات الثقافية أويساهم فيها، أو وهو يدعم المثقفين والمبدعين ويسعى معهم لتكون الهموم الثقافية أكثر تعبيراُ عن هموم الوطن، لا الذات!
كتاب (هكذا رأيت الأشياء)، تعبير عن تجربة مثقف، حاول الجمع بين الروح النقدية والإلتزام السياسي، وحقق في ذلك بعض النجاح، في زمن شهدنا فيه فشل الأخرين، ممن أصّروا على رفض التعامل النقدي مع الواقع، وعلى الإحتفاظ بالأوهام، معشعشة في الذهن، تؤمن لهم الطمأنينة والسكينة وتشعرهم بإمتلاك الحقيقة المطلقة! فالنقد، حسب رأي الكاتب، ينقذ الأفكار من القدسية فيمنحها القوة على التطور والتغيير. وقد عزّز هذا الرأي قناعتي، بأن من يريد الإنتقال إلى الأفضل لابد أن يبحث عنه شخصياً، وهذا البحث يبدأ من مراجعة المفاهيم التي إعتاد على تبنيها وأصبحت تتحكم باللاوعي، بحيث لا يفقد الشعور بالبلوى فحسب، بل ويحاكيها بمخيلة اللاجدوى، ويصفق لمن أوقعه بها ويعيد انتاجه بوعي او بدون وعي.
إن موضوعات الكتاب، جديرة بالقراءة والإهتمام، لكشفها وبموضوعية متميزة عن أسباب الخراب الذي حل بالوطن والمواطن، وعن سبل الخلاص منها، ولما توفره لغتها الجميلة والمكثفة والبعيدة عن الطرح السياسي المباشر من متعة وفائدة، وأخيراً لإعتمادها على التحليل الفكري ـ العلمي والذي يستند الى إحصائيات ومعطيات دقيقة.
كتاب، الصديق الدكتور إبراهيم إسماعيل، مكثف في موضوعاته، عميق في رؤيته، يعبر عن نظرة نقدية لمواقف وسياسات ومفاهيم ترسخت في أذهان كثير من المثقفين والسياسيين، موضوعات يتناولها، من خلال موقفه النقدي، الذي يؤمن به، والذي يستند إلى أن الغاية الرئيسية من الكتابة، ليست إضفاء الشرعية على البرامج والشعارات المرفوعة، بل الكشف عن حقيقة الواقع.
ضم الكتاب الذي صمم غلافه الفنان الكبير قاسم الساعدي، مجموعة من المقالات والدراسات التي تبحث في الشأن السياسي والإجتماعي العراقي، وُزعت في أبواب ثلاثة. شمل الباب الأول، السبيل لعراق الحلم، دراسات حول التحديث، الدولة المدنية الديمقراطية، العدالة الإجتماعية، البيئة الإجتماعية للتحالفات السياسية، الدستور، الفيدرالية، واقع التعليم العالي وسبل تطويره وغيرها. في الباب الثاني، مساهمة في الحوار حول مستقبل اليسار، جاءت مجموعة مقالات حول تجديد اليسار والعولمة الرأسمالية وثورة أكتوبر والصحافة الشيوعية العراقية. أما الباب الثالث، هموم عراقية، فتضمن مقالات سياسية وأخرى تتعلق بحقوق المرأة العراقية.