23 ديسمبر، 2024 5:58 ص

الرأي والرأي الآخر في القرآن الكريم

الرأي والرأي الآخر في القرآن الكريم

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
من وحي شهر الصيام … فضل ليلة القدر ، التي هي فضل زمان بالخير لا فضل مكان ، وهي تكون في كل بلد بقدر الليل فيه ، فتختلف في بدايتها ونهايتها باختلاف وقت الغروب ووقت الفجر في كل بلد ، تماما كما في أوقات الصلوات . ولأن ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ، فإنها تنتقل من سنة إلى أخرى بين أيامها مهما إمتد بها الزمان ، وبذلك فإنها قد لا تدرك في هذا الرمضان من هذه السنة ، لأن زمن صيام شهر رمضان في كل سنة يختلف بمقدار (10- 11) يوما ، وعلى هذا ، فإن كل يوم في رمضان يحتل زمنا آخر في كل سنة قادمة ، مثلما يكون في كل فصل آخر منها ، وبذلك يتم صيام رمضان في كل أيام السنة وفصولها ، في كل (33- 36) عاما ، منها يوم واحد هو ليلة القدر ، وذلك ما قصده الصحابي الجليل عبد الله إبن مسعود (رض) بقوله ( من يقم الحول يصب ليلة القدر ) ، كما نعتقد بإحتساب عدد العشرة أيام ودورانها ثلاث مرات في كل ثلاث سنوات .

الذي وددت قوله ، أن (( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) ، حين جعلها في قوم لها أهل ، وبها متمسكون ، ولها داعون قولا وفعلا ، ولهذا خاطبهم سبحانه وتعالى بما هم أجدر به علما وعدلا وعملا (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) ، قراءة النظر والتمعن والتدقيق والتمحيص والتفحص والتفكر والتدبر فيما خلق الله سبحانه وتعالى ، ومنها جعل الأهلة مواقيت للناس ، ومنها قراءة الأسباب والبحث بالتجربة والتحقق والتقصي والتطبيق وصولا إلى نتائج العلم بالقلم ، وكلاهما من علم الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون )) .

لقد كان لتبادل الرأي بين الله سبحانه وتعالى وبين ملائكته وأول خلقه من البشر ، ماثلا بأبهى صور قوة الإقناع المستند إلى سبق العلم ، ثم تكرم وتفضل الله سبحانه على أسوء خلقه إبليس بحواره ، إذ (( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين )) .

وفي مثال آخر بعد أيضاح كيفية وصول النبي موسى (ص) إلى فرعون وهو طفل بقوله جل في علاه (( إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له ، وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني * إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ، فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ، وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ، فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى * واصطنعتك لنفسي )) ، ومن ثم تعليمه كيفية مواجهة فاسد الرأي والحاكم المستبد ، بأسلوب الحوار وتبادل الرأي بالقول الحسن (( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا ، إنني معكما أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ، قد جئناك بآية من ربك ، والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى * قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب ، لا يضل ربي ولا ينسى * )) . ذلك هو التعليم الإلهي ، لا لجوء إلى إستخدام القوة والعنف مع العدو إلا عند الضرورة القصوى ، من أجل إستحصال الحقوق المشروعة ، والإستعاضة عنها أبتداء بالإسلوب السلمي الذي لا يستفز الحاكم الظالم ولا يثير غضبه .

لقد تضمن القرآن الكريم الكثير من صيغ المخاطبة وأساليب الحوار للتعبير عن الرأي والرأي الآخر ، من أجل تثبيت ركائز التفاهم السلمي في حل المشاكل وتجاوز العقبات بأقل الخسائر الممكنة ، كما كانت هنالك حوارات ومناقشات بين رسول الله محمد (ص) وبين أصحابه وبينه وبين زعماء قريش وكبرائها لذات الأهداف ، فكرا وممارسة عقائدية تخلو من الرغبة في تحقيق المصالح والمنافع الشخصية على حساب الآخرين ، من جانب المسلمين على أقل تقدير ، مما يندر حدوثها في هذا العصر بين المتضادين في مختلف الموضوعات والتوجهات الفكرية المتصارعة من أجل مصالحها المادية والدنيوية فقط ، لكن جاهلية العالم الجديد (المتحضر) والمؤطر بزخارف الأفكار متعددة المصادر والمشارب ، التي لم ترتفع إلى بعض مستويات ثقافة الجاهلية الأولى التي تتقبل حوار الآخر وسماع رأيه برحابة الصدر أو بضيقه ، تحاول حجب حقيقة الأديان وما تتضمنه كتبها السماوية من مبادئ وقيم إنسانية راقية ، بإسقاط تصرفات بعض أتباعها الخارجين عن مناهجها القويمة ، لتلقي بها في ساحة المقارنة المنحازة والمضادة لها ظلما وعدوانا ، بغية إظهار ما يسيء إلى الأديان وأتباعها المخلصين ، متجاهلة ومتناسية ما يقوم به أنصارها في المشين من الأقول والأفعال ، وبأعلى درجات سوء الأخلاق والفواحش وبما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي بغير الحق ؟!.

لقد قرأ السابقون الأولون ما لم يقرأه المتأخرون ، فكانوا على غير وخير ما نحن فيه من سوء الحال والأحوال والمآل ، نحن المتعثرون بأطراف أذيال أثواب الفكر المعاكس ، السادرون في غيينا ، المتعطشون لبطشنا من قبل نكرات قومنا وغيرهم ، لا نحب القراءة لإغناء عقولنا بما يساعدنا على تجاوز محننا وكوارث تفكيرنا ، تحملنا الكثير من العذابات وقدمنا الكثير من التضحيات ، من أجل المحافظة والتمسك بثوابت بعض معتقداتنا البالية ، وفي آخرها تقبلنا قتل أنفسنا وأهلنا وضياع وطننا وما نملك من إرث وتراث حضاري ، بل بحرقها بتداعيات نيران شعار شمعة سقي لهيبها بخمسة عشرة دمعة ، فاضت من عين طفل بريء لم يسلم من أهوال حرب مذهبية وعلى الهوية ، بدلا من إخمادها بصرخة يتيم وصبر أرملة يشكوان ظلم العباد لرب العباد ، ذلك لأننا نؤمن بالخرافة والصنمية والتبعية والجهل ، مع علمنا بأنها من أشجار الزقوم التي سقيناها خوفا وطاعة عمياء ، فأنتجت ثمار الفشل والفساد الأول والأخير في حياتنا ، فلا رجاء بعد ذلك من قوم لهم في كل ثانية رأي وقرار ، وفي كل ثانية أخرى كيان وتكتل وتيار ، ليستوعب جيف الأجساد والأفكار ، المتنقلة فيما بينها بحثا عن الكلأ والأعشاب ، وإن لم يكن هنالك من قطرة ماء ، فلا والله لا يؤتمن عندنا من هو في كل يوم تابع لمن يلوح بالدولار ، ولا أظن أن هنالك خيرا يرتجى ممن باع الديار ، ولا يلوم أحد إلا نفسه ، بعدما غفل عن تعاهد القراءة زيادة في وسائل الإستبصار ، ولا خير في قوم ولا فيما هم عليه من التشدق والتنطع والتفيقه من غير معرفة أو علم ، وعلى من رام وصل الشمس تدارك ما هو عليه وفيه من الخيبة والخسران ، فلا تزال الأغلبية تفخر وتزهو بخصال النفاق في رمضان ، وقد يكونون مثالا لمن ترك طعامه وشرابه وأدى صلاته ، وليس لله حاجة بصيامه وقيامه ، ولا بما إعتاد عليه من الرياء والمراء والكبرياء ، وهو ينشد أغنية الإصلاح والتغيير ، على ذات أنغام وألحان وموسيقى مجون الفساد والفاسدين . والله المستعان …